رساله في الدماء الثلاثه و احكام الاموات و التيمم

اشارة

نام كتاب: رساله في الدماء الثلاثه و احكام الاموات و التيمم موضوع: فقه استدلالى نويسنده: خوانسارى، سيد محمد تقى و اراكى، محمد على تاريخ وفات مؤلف: 1371 ه ق- 1415 ه ق زبان: عربى قطع: وزيرى تعداد جلد: 1 ناشر: مؤسسه در راه حق تاريخ نشر: 1415 ه ق نوبت چاپ: اول مكان چاپ: قم- ايران مقرر: اراكى، محمد علي تاريخ وفات مقرر: 1415 ه ق ملاحظات: همراه" كتاب الطهارة" محمد على اراكى چاپ شده است.

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

ص: 7

ص: 8

ص: 9

ص: 10

ص: 11

ص: 12

ص: 13

ص: 14

ص: 15

ص: 16

ص: 17

ص: 18

ص: 19

ص: 20

ص: 21

ص: 22

ص: 23

ص: 24

ص: 25

ص: 26

ص: 27

ص: 28

ص: 29

ص: 30

ص: 31

ص: 32

ص: 33

ص: 34

ص: 35

ص: 36

ص: 37

ص: 38

ص: 39

ص: 40

ص: 41

ص: 42

ص: 43

ص: 44

ص: 45

ص: 46

ص: 47

ص: 48

ص: 49

ص: 50

ص: 51

ص: 52

ص: 53

ص: 54

ص: 55

ص: 56

ص: 57

ص: 58

ص: 59

ص: 60

ص: 61

ص: 62

ص: 63

ص: 64

ص: 65

ص: 66

ص: 67

ص: 68

ص: 69

ص: 70

ص: 71

ص: 72

ص: 73

ص: 74

ص: 75

ص: 76

ص: 77

ص: 78

ص: 79

ص: 80

ص: 81

ص: 82

ص: 83

ص: 84

ص: 85

ص: 86

ص: 87

ص: 88

ص: 89

ص: 90

ص: 91

ص: 92

ص: 93

ص: 94

ص: 95

ص: 96

ص: 97

ص: 98

ص: 99

ص: 100

ص: 101

ص: 102

ص: 103

ص: 104

ص: 105

ص: 106

ص: 107

ص: 108

ص: 109

ص: 110

ص: 111

ص: 112

ص: 113

ص: 114

ص: 115

ص: 116

ص: 117

ص: 118

ص: 119

ص: 120

ص: 121

ص: 122

ص: 123

ص: 124

ص: 125

ص: 126

ص: 127

ص: 128

ص: 129

ص: 130

ص: 131

ص: 132

ص: 133

ص: 134

ص: 135

ص: 136

ص: 137

ص: 138

ص: 139

ص: 140

ص: 141

ص: 142

ص: 143

ص: 144

ص: 145

ص: 146

ص: 147

ص: 148

ص: 149

ص: 150

ص: 151

ص: 152

ص: 153

ص: 154

ص: 155

ص: 156

ص: 157

ص: 158

ص: 159

ص: 160

ص: 161

ص: 162

ص: 163

ص: 164

ص: 165

ص: 166

ص: 167

ص: 168

ص: 169

ص: 170

ص: 171

ص: 172

ص: 173

ص: 174

ص: 175

ص: 176

ص: 177

ص: 178

ص: 179

ص: 180

ص: 181

ص: 182

ص: 183

ص: 184

ص: 185

ص: 186

ص: 187

ص: 188

ص: 189

[المقدمة]

ص: 189

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه ربّ العالمين و صلّى اللّٰه على محمّد و آله الطاهرين و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.

و بعد فهذا تقرير بحث آية اللّٰه في العالمين السيد محمّد تقي الموسوي الخوانساري- دام ظلّه- في الدماء الثلاثة بقلم الآثم الفاني محمّد علي بن أحمد الفراهاني- عفي عنه و عن والديه

ص: 190

و الكلام في مباحث ثلاثة:

المبحث الأوّل: في الحيض

اشارة

و يتمّ البحث فيه برسم مسائل:

مسألة: الحيض في الغالب دم أحمر شديد الحمرة يميل إلى السواد

حارّ يخرج بلدغ و حرقة، عكس دم الاستحاضة فإنّه في الغالب أصفر بارد يخرج من دون لدغ و لا حرقة.

لصحيحة حفص بن البختري أو حسنته قال: دخلت على أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري أ حيض هو أم غيره؟ قال:

فقال لها: إنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة الخبر. (1)

و قريب منها صحيحة أخرى و هل هذه الصفات أمارات شرعية في خصوص المستمرة كما هي مورد الصحيحتين أو تعمّ أماريّتها جميع الموارد حتى المبتدئة و المضطربة و الناسية فتترك هذه أيضا العبادة بمجرّد الرؤية إن كان الدم بصفات الحيض و لا تترك إن كان بصفات الاستحاضة؟


1- الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب الحيض، ص 537، ح 2.

ص: 191

الظاهر العموم لظهور قوله- عليه السّلام-: إنّ دم الحيض كذا و كذا، في كونه إخبارا عن طبيعة الدم و وضوح أنّ اتّصاف الدم بهذه الصفات ليس في خصوص صورة الاستمرار، و قوله- عليه السّلام-: فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة، تفريع على هذه الكلية من باب تطبيق الكبرى على الصغرى.

فإن قلت: يلزم تخصيص الأكثر المستبشع، لخروج ذات العادة و ذات العذرة و ذات القرحة؛ فإنّ مرجع الأولى عادتها و مرجع الأخيرتين ما سيأتي دون الصفات.

قلت: نلتزم في هذه الموارد بالتخصيص و لا يلزم تخصيص الأكثر.

و لو اشتبه الحيض بدم العذرة وجب عليها الاختبار بوضع قطنة و الصبر هنيئة و إخراجها، فإن كانت مطوّقة فهو دم العذرة و إن كانت منغمسة فهو حيض.

لصحيحة خلف بن حماد قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر- عليهما السّلام- بمنى فقلت له: إنّ رجلا من مواليك تزوّج جارية معصرا لم تطمث فلمّا افتضّها سال الدم فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيّام و إنّ القوابل اختلفن في ذلك فقال بعضهن: دم الحيض، و قال بعضهن: دم العذرة، فما ينبغي لها أن تصنع؟

قال- عليه السّلام-: فلتتق اللّٰه فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتّى ترى الطهر و ليمسك عنها بعلها، و إن كان من العذرة فلتتق اللّٰه و لتتوضأ و لتصلّ و يأتيها بعلها إن أحبّ ذلك. فقلت له: و كيف لهم أن يعلموا ما هو حتّى يفعلوا ما ينبغي- إلى أن قال:- قال- عليه السّلام-: تستدخل القطنة ثم تدعها مليّا ثم تخرجها إخراجا رقيقا فإن كان الدم مطوّقا في القطنة فهو من العذرة و إن كان

ص: 192

مستنقعا في القطنة فهو من الحيض. الخبر. (1) و قريب منها صحيحة أخرى.

و هل التطوّق أمارة على عدم الحيضية حتى في مورد آخر بمعنى أنّه لو اشتبه الحيض بالاستحاضة فيستكشف بالتطوّق كونه استحاضة؟. نعم لا يستكشف بالاستنقاع كونه حيضا لعدم العلم بعدم استنقاع دم الاستحاضة أو أنّه أمارة خاصّة بمورد الاشتباه بدم العذرة.

لا يبعد القول بالأوّل نظرا إلى إطلاق قوله- عليه السّلام-: فإن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض إذ من المعلوم أنّ هذه الصفة لطبيعة دم الحيض و لا خصوصية لكونه مشتبها بدم العذرة في اتصافه بها، و الاعتبار الشرعي ورد على هذا المعنى العام، و خصوصية المورد لا يخصص الوارد. كيف و هذا من مصاديق ما قرر في الأصول من أنّ وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضرّ بالأخذ بمقدمات الإطلاق في الكلام.

و يتفرع على هذا أنّه لو شكت في الافتضاض فهي و إن كان لا يجب عليها الاختبار لأصالة عدم الافتضاض الذي هو موضوع لوجوبه و لكنّها لو اختبرت و خرج القطنة مطوقة استكشفت كشفا إنّيا عن وجود الافتضاض كما يستكشف البلوغ برؤية الدم الجامع للصفات لو شكّت في بلوغ التسع.

فإن قلت: فلم لا تقول بعدم الحيضية في أيّام العادة مع التطوّق؟

قلت: أوّلا لا نسلّم وقوعه و على تقديره فمن باب تقديم أقوى الأمارتين على الأخرى و هو لا ينافي الحجية الذاتية للأمارة الغير الأقوى، و كيف كان فلو تركت


1- الوسائل: ج 2، باب 2، من أبواب الحيض، ص 535، ح 1.

ص: 193

الاختبار في مورد وجوبه و صلّت و صادفت عدم حيضها فالظاهر صحة صلاتها إذا أتت برجاء الواقع و عنوان الاحتياط لأنّ وجوب الفحص و الاختبار إنّما هو طريقي بمناط إدراك الواقع و ليس له نفسيّة و موضوعية. و بعبارة أخرى: إنّما هو في طريقي بمناط إدراك الواقع و ليس له نفسيّة و موضوعية. و بعبارة أخرى: إنّما هو في مقابل الأصول المرخصة من الموضوعية و الحكمية لا في مقابل الاحتياط كما هو واضح.

و لو اشتبه بدم القرحة فالمشهور أنّه يجب عليها الاختبار بالاستلقاء على ظهرها ثم رفع رجليها ثم إدخال الإصبع الوسطى فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو حيض و إن خرج من الأيمن فهو من القرحة، لما رواه الشيخ- رحمة اللّٰه عليه- في التهذيب عن محمد بن يحيى رفعه عن أبان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: فتاة منّا بها قرحة في فرجها و الدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة؟ فقال- عليه السّلام-: مرها فلتستلق على ظهرها ثمّ ترفع رجليها ثمّ تستدخل إصبعها الوسطى فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض و إن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة. (1)

و لكنّه مشكل لأنّ الكليني- رحمه اللّٰه عليه- روى هذه الرواية بعينها و لكنّه روى مكان الجانب الأيسر الجانب الأيمن، و مكان الجانب الأيمن الجانب الأيسر، و ليس الباب باب الروايتين حتى يقال بأنّ الشهرة الفتوائيّة توجب و هن الرواية الّتي أعرض عنها المشهور و سقوط أصلها الجهتي فتبقى الرواية الأخرى سليمة عن المعارض، للقطع باتحاد الرواية و انّ الاختلاف إنّما هو في النسخة و في مثله لا تؤثّر الشهرة الفتوائية شيئا كما أنّه لا وجه للرجوع إلى الأخبار العلاجية لا ترجيحا


1- الوسائل: ج 2، باب 16، من أبواب الحيض، ص 560، ح 2.

ص: 194

و لا تخييرا، لأنّ موردها الروايتان لا النسختان في رواية واحدة، و العجب من بعض الأجلّة حيث أخذ بالترجيح هنا دون التخيير على عكس شيخنا المرتضى- قدّس سرّهما- حيث أخذ بالتخيير دون الترجيح.

و قد عرفت أنّ الحقّ عدم الأخذ بشي ء منهما، و هل المرجع لها ما ذا؟ قال بعض الأجلّة: المتيقّن فيه بمقتضى القواعد على تقدير تسليم الإجمال إنّما هو الرجوع إلى استصحاب الحالة السابقة الموافقة لأحد الاحتمالين، انتهى.

و فيه: أنّ من المعلوم أنّ الشارع بواسطة إيجاب الاختبار أسقط في حقها الأصول المرخّصة، و هذا المعنى لا يرتفع بواسطة الإجمال بل هو نظير نفي الثالث الّذي نقول به في المتعارضين كما هو الحال في الرجوع إلى الصفات أو قاعدة الإمكان، و العجب منه- قدّس سرّه- حيث تفطّن لذلك في الأخذ بالصفات و القاعدة، و مع ذلك جعل المرجع لها الأصل مع أنّه أيضا مثلهما في ذلك، فالمتعيّن في حقّها الاحتياط بالجمع بين الوظيفتين.

نعم لو تعذّر عليها الاختبار ترجع إلى استصحاب الحالة السابقة طهرا أو حيضا و إن لم تكن حالة سابقة لتوارد الحالتين و عدم العلم بالسابق و اللاحق تحتاط بالجمع. و ما في العروة الوثقى من أنّها تبني على الطهارة ضعيف، لابتنائه على الأخذ بعمومات التكاليف في الشبهة المصداقية و قد قرر في الأصول ضعفه.

نعم لو كان الدم أصفر باردا بلا لدغ و حرقة أمكن الحكم بكونه من القرحة بناء على عموم مرجعية الصفات كما قوّيناه. و من هنا يعلم حال ما لو اشتبه الحيض بدم آخر غير الاستحاضة و العذرة و القرحة، فإنّه أيضا يحكم بعدم الحيضية بالصفرة و أخواتها بناء على المبنى المذكور، و على تقدير عدم الصفات

ص: 195

ترجع إلى الحالة السابقة إن كانت و إلّا فتحتاط بالجمع.

مسألة: أقلّ الحيض ثلاثة أيّام و أكثره عشرة كما أنّ أقلّ الطهر أيضا عشرة، و لا إشكال في شي ء من هذه الثلاثة في الجملة، و إنّما الإشكال في أنّه هل يعتبر في الثلاثة التي هي أقلّ الحيض أن تكون متوالية أو يكفي الثلاثة المتفرقة في جملة العشرة، فلو رأت الأوّل و الخامس و العاشر كان من أفراد الأقل حقيقة، و من أفراد الأكثر حكما، أو لا يعتبر ذلك أيضا بل يكفي عدم تخلل أقل الطهر بين أبعاضها كما اختاره صاحب الحدائق، و يظهر من بعض كلمات فخر المحققين فلو رأت الأوّل و الحادي عشر و الحادي و العشرين كانت الثلاثة حيضا و ما بقي طهرا و لا يضر كونه أقل من العشرة لأنّ الطهر الّذي لا يكون أقل من العشرة إنّما هو الفاصل بين الحيضتين لا ما تخلّل بين أبعاض حيضة واحدة و يجري ذلك في جانب الأكثر أيضا، فيمكن تحققه في أحد و تسعين يوما.

في المسألة أقوال و الأظهر القول الأوّل لأنّه المتبادر من قولهم- عليهم السّلام-: أقلّ الحيض ثلاثة، لأنّ المراد من لفظة الحيض إمّا سيلان الدم و إمّا الدم السائل و على التقديرين فالمتبادر منه استمرار السيلان في هذه المدة فيلزمه توالي الأيام. و أمّا ارادة تحيض المرأة و قعودها عن الصلاة و الصوم من لفظة الحيض، فخلاف الظاهر. و هذا التبادر و إن كان في جانب الأكثر أيضا متحققا، فلو رأت ثلاثة مثلا و انقطع ثمّ عاد و لم تتجاوز العشرة لكان مقتضى القاعدة الحكم بكون الدم الثاني استحاضة، و لكن الإجماع قام على الحكم بحيضيته و حيث إنّ الطهر لا يكون أقل من العشرة يحكم بكون النقاء فيما بين الدمين حيضا أيضا، فيكون المجموع مصداقا حكميا للأكثر لا حقيقيّا.

ص: 196

و استدل لعدم اعتبار التوالي في الثلاثة الّتي هي أقلّ الحيض، بمرسلة يونس الآتية و هي و إن كانت صحيحة صريحة في ذلك و لكن لا تزيدها صحتها و صراحتها إلّا و هنا و ذلك لإعراض معظم الأصحاب عنها، و هذه المرسلة هي عمدة المستند للقول الثالث أيضا و هو التفصيل بين الطهر المتخلل بين الحيضتين، فيعتبر أن لا يكون أقلّ من العشرة، و الطهر المتخلل بين أبعاض حيضة واحدة فلا يضر كونه أقلّ من العشرة، و لكن دلالتها على ذلك محلّ تأمّل فالأولى نقلها بعينها حتى يتبيّن الحال.

فنقول: روى يونس عن بعض رجاله عن الصادق- عليه السّلام- قال: أدنى الطهر عشرة أيّام و ذلك أنّ المرأة أوّل ما تحيض ربّما كانت كثيرة الدم و يكون حيضها عشرة أيّام، فلا تزال كلّما كبرت نقصت حتى ترجع إلى ثلاثة أيّام، فإذا رجعت إلى ثلاثة أيّام ارتفع حيضها و لا يكون أقل من ثلاثة أيّام.

فإذا رأت المرأة الدم في أيّام حيضها تركت الصلاة، فإن استمر بها الدم ثلاثة أيّام فهي حائض. و إن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت و صلّت و انتظرت من يوم رأت الدم إلى عشرة أيّام، فإن رأت في تلك العشرة أيّام من يوم رأت الدم يوما أو يومين حتّى يتم لها ثلاثة أيّام فذلك الذي رأته في أوّل الأمر مع هذا الذي رأته بعد ذلك في العشرة فهو من الحيض، و إن مرّ بها من يوم رأت عشرة أيام و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الّذي رأته لم يكن من الحيض إنّما كان من علّة إمّا من قرحة في جوفها و إمّا من الجوف، فعليها أن تعيد الصلاة تلك اليومين الّتي تركتها لأنّها لم تكن حائضا فيجب أن تقضي ما تركت من الصلاة في اليوم و اليومين، و إن تمّ لها ثلاثة أيّام فهو من الحيض و هو أدنى الحيض و لم يجب

ص: 197

عليها القضاء و لا يكون الطهر أقلّ من عشرة أيّام، فإذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيّام ثمّ انقطع الدم اغتسلت و صلّت، فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيّام فذلك من الحيض تدع الصلاة، فإن رأت الدم من أوّل ما رأت الثاني الّذي رأته تمام العشرة أيّام و دام عليها عدت من أوّل ما رأت الدم الأوّل و الثاني عشرة أيّام، ثمّ هي مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة و قال: كلّ ما رأت المرأة في أيّام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض و كلّ ما رأته بعد أيّام حيضها فليس من الحيض. (1)

و لا يخفى أنّ الظاهر من قوله في الصدر: «و انتظرت من يوم رأت الدم إلى عشرة أيّام»، كون العشرة مبدوّه من أوّل رؤية الدم لا من حين انقطاعه، و بضميمة قوله: «أدنى الطهر عشرة أيّام» يحكم بكون النقاء المتخلل في ضمن هذه العشرة حيضا فيطابق المشهور من هذه الجهة، و لكن ينافيه قوله في الذيل: «فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيّام، فذلك من الحيض»، حيث إنّ ظاهره كون العشرة مبدؤه من حين الانقطاع، فيظهر منه أنّ الطهر الّذي لا يكون أقل من عشرة إنّما هو الواقع بين الحيضتين لا ما وقع بين أبعاض حيضة واحدة.

و حينئذ لا بدّ إمّا من رفع اليد من ظاهر الفقرة الأولى بجعل مدخول من خارجا عن العشرة المحدودة، فيكون مبدأ العشرة مما بعده حتى يطابق الفقرة الثانية، فتصير الرواية دليلا على التفصيل المذكور و يكون المراد من قوله: و هو أدنى الحيض أدناه سيلانا و إن كان أكثره حكما في بعض الصور.

و إمّا من رفع اليد من ظاهر الفقرة الثانية بحمل قوله: و لم يتم لها من يوم


1- الوسائل: ج 2، باب 11، من أبواب الحيض، ص 554، ح 2.

ص: 198

طهرت عشرة أيّام، على إرادة أنّه لم يجئ متمم العشرة، فزمان الطهر أخذ مبدأ لمتمّم العشرة لا لنفسها و إنّما مبدأ العشرة أوّل رؤية الدم الأوّل فتكون مطابقة مع المشهور، و لو لم نقل بأولوية الثاني فلا أقل من المساواة بل الظاهر هو الثاني فليس المراد من العشرة في قوله- عليه السّلام-: و انتظرت من يوم رأت الدم إلى عشرة، عشرة الطهر و إلّا لم يكن وجه لاعتبار كون بقية الثلاثة في تلك العشرة، بل المراد بها عشرة الحيض.

و وجه الاعتبار المذكور كما تفطن به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و نعم التفطّن المحافظة على عدم ازدياد أيّام الحيض عن العشرة لاحتساب النقاء من الحيض فيحمل قوله- عليه السّلام-: و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيّام، أيضا على عدم مجي ء تتمّة عشرة الحيض المبدوة من أوّل الرؤية من حين الطهر باحتساب أيّام النقاء أيضا لا على ابتداء عشرة الطهر من حين الانقطاع، و الشاهد على هذا الحمل قوله بعد ذلك: فإن رأت الدم من أوّل ما رأت الثاني الذي رأته تمام العشرة أيّام، فإنّ الظاهر أنّه مفهوم لسابقه، و المراد بالعشرة فيه عشرة الحيض قطعا حتى على قول صاحب الحدائق، لصريح قوله: من أوّل ما رأت الثاني، و قوله: عدت من أوّل ما رأت الدم الأوّل. إلخ.

غاية الأمر إنّه يقول بالتقاط العشرة ممّا بين الأيّام بإسقاط أيّام النقاء فيكون المراد من السابق أيضا عشرة الحيض كما هو الظاهر من لفظة اللام المفيدة للإشارة الداخلة على العشرة في الفقرة اللاحقة، فيكون المراد في الفقرة اللاحقة عدّ العشرة مع احتساب أيّام النقاء لا مع إسقاطها كما ربما يتراءى أنّه الظاهر، و لا يلزم على هذا خلاف الظاهر إلّا في قوله- عليه السّلام-: من يوم طهرت، حيث إنّ ظاهره كون يوم

ص: 199

الطهر مبدأ العشرة، و في قوله- عليه السّلام-: فذلك الّذي رأته في أوّل الأمر مع هذا الّذي رأته بعد ذلك في العشرة، فهو من الحيض، إذ لا وجه بناء على ما ذكرنا لاختصاص الحيضية باليومين، بل يعم ما بينهما أيضا، و في قوله- عليه السّلام-: و هو أدنى الحيض، و لكنه أولى من العكس كما لا يخفى، مع أنّه ليس في قوله- عليه السّلام-:

فذلك الّذي رأته في أوّل الأمر إلخ، إلّا مجرّد الإشعار ضرورة أنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

و العجب من سيدنا اليزدي- قدّس سرّه- حيث احتمل في العروة لزوم كون الثلاثة الأولى من الحيض في ضمن العشرة و كفاية مجي ء البقيّة قبل فصل أقل الطهر فعلى هذا يمكن كون حيض واحد في ثمانين يوما و أنت خبير بمنافاته مع صدر الرواية على حسب التفطّن الّذي نقلناه عن شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و مع قوله في ذيلها: و إن لم يتم لها من يوم طهرت إلخ، حيث إنّه كالصريح في احتساب يوم الطهر من عدد متمّم العشرة.

ثمّ إنّ صاحب الحدائق استدلّ أيضا على مختاره من عدم اعتبار التوالي في أقل الحيض و عدم كون النقاء المتخلل في الحيض الواحد حيضا بصحيحة محمد ابن مسلم أو حسنته عن الباقر- عليه السّلام- قال- عليه السّلام-: إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى، و إن كان بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة (1). و قريب منها موثقة أخرى له عن الصادق- عليه السّلام.

تقريب الاستدلال: أنّه لا يمكن حمل العشرة في هذه الرواية على عشرة الحيض، لعدم استقامة إطلاق قوله في الذيل: «و إن كان بعد العشرة إلخ» لشموله


1- الوسائل: ج 2، باب 11، من أبواب الحيض، ص 554، ح 3.

ص: 200

ما إذا رأته بعد العشرة قبل فصل أقل الطهر فيتعيّن حملها على عشرة الطهر، و حينئذ فيستفاد من إطلاق الصدر كلتا الدعويين لشموله ما إذا كان أيّام الدم المرئي قبل العشرة مع أيّام النقاء أزيد من العشرة مع عدم ازديادها عنها بدونها، و فيه: عدم الدلالة في الرواية على شي ء من الدعويين أمّا على الأولى فلأنّ الحكم في الرواية مبني على الفراغ عن حيضية الدم الأوّل الّذي اعتبر العشرة بالنسبة إليه، فلا يمكن كشف الحال في شروط حيضية ذلك الدم نفيا و إثباتا بهذه الرواية إلّا بالدّور.

و أمّا على الثانية فلأنّه كما لا يمكن الأخذ بإطلاق الذيل لو حملنا العشرة على عشرة الحيض، كذلك لا يمكن الأخذ بإطلاق الصدر لو حملناها على عشرة الطهر لشموله ما إذا ازداد أيّام الدم فقط عن العشرة فلا بدّ على كلّ من الحملين من القول بالإهمال في إحدى الفقرتين و معه يسقط عن صلاحية الاستدلال.

و استدل أيضا على دعواه الثانية بموثقة يونس بن يعقوب قال: قلت للصادق- عليه السّلام- المرأة ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة؟ قال- عليه السّلام-: تدع الصلاة. قلت: فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيّام أو أربعة؟ قال:- عليه السّلام- تصلّي. قلت:

إنّها ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة؟ قال- عليه السّلام-: تدع الصلاة قلت: فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال: تصلّي، قلت: فإنّها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة، قال: تدع الصلاة تصنع ما بينها و بين شهر فإن انقطع عنها الدم و إلّا فهي بمنزلة المستحاضة. (1)

و قريب منها رواية أبي بصير، و فيه أنّه إمّا يقول بكون جميع أيّام الدم المتفرق


1- الوسائل: ج 2، باب 6، من أبواب الحيض، ح 2.

ص: 201

في الشهر حيضا واحدا، أو يقول بكونها حيضات متعددة. فعلى الأوّل يلزم كون الحيض الواحد خمسة عشر يوما و على الثاني يلزم عدم فصل أقلّ الطهر بين الحيضتين.

فاللازم حمل الرواية على المرأة التي لم تستقر لها عادة و اشتبه عليها الحال فإنّها تبني عند رؤية الدم الأوّل بالحيضية لقاعدة الإمكان، لعدم علمها بلحوق الدم الثاني، و كذلك تعمل بالقاعدة عند رؤية الثاني لعدم علمها بلحوق الثالث و هكذا إلى آخر الشهر و لا يضر العلم الإجمالي الحاصل بعد رؤية الدماء و ذلك لما تقرر في الأصول من أنّ العلم الإجمالي الحاصل بعد فوت أحد أطرافه لا يضر بإجراء الأصل العملي في الباقي، و سيجي ء تتمة الكلام إن شاء اللّٰه عند التعرض لقاعدة الإمكان.

مسألة: لا إشكال و لا خلاف في أنّ الخارج بعد سنّ اليأس ليس بحيض

كالخارج قبل بلوغ التسع، و إنّما الإشكال و الخلاف في تعيين حدّ اليأس، و الأقوى أنّه الخمسون في غير القرشيّة و الستون فيها، لمرسلة ابن أبي عمير الّذي مراسيله كالمسانيد، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلّا أن تكون امرأة من قريش» (1)، و بها يقيد إطلاقات الخمسين و الستين و إن بعد التقييد في الثاني، لكن لا محيص عنه في مقام الجمع كما هو واضح، و المراد بالقرشية من انتسب إلى نضر بن كنانة بن خزيمة أحد أجداد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بالأب، و لا يكفي الانتساب بالأمّ، فإنّه لا يقال فلان من قريش إلّا إذا انتسب إليهم بالأب، نعم قد يقال للمنتسب بالأمّ أنّه قرشي بنحو المسامحة فإنّ النسبة يكتفى


1- الوسائل: باب 31، من أبواب الحيض، ح 2.

ص: 202

فيها بأدنى ملابسة، فالتبادر في لفظة «من قريش» أقوى منه في لفظة «القرشي و القرشية» كما نبّه عليه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه.

و بعضهم ألحق النبطية بالقرشية استنادا إلى مرسلة المفيد في المقنعة قال:

«و روي أنّ القرشية من النساء و النبطية تريان الدم إلى ستين سنة» (1)، و لكن لم يعلم انجبارها بعمل الأصحاب حتى من المفيد المرسل لها، فرفع اليد عن إطلاقات الخمسين بها في غاية الإشكال. و على تقدير القول به فهل المراد بالنبطية من ينزل البطائح بين العراقين الكوفة و البصرة أو من كان أحد أبويه عربيا و الآخر عجميا، أو كل من كان أحد أبويه من قبيلة و الآخر من أخرى، و على الأوّل فهل هو اسم لقوم مخصوصين كانوا في زمان صدور الروايات ينزلون البطائح بحيث يرتفع الحكم بانقراضهم، أو لكلّ من كان معنونا بهذا العنوان بحيث يدور الحكم مدار العنوان؟ وجوه: و من المعلوم أنّه مع دوران المعنى بين الأقل و الأكثر يرجع فيما زاد على المتيقّن إلى مطلقات الخمسين، و مع الدوران بين المتباينين تسقط الإطلاقات عن البين و يرجع إلى الأصل العملي، و هل هو أصالة الحيضية أو أصالة الطهر؟ الأقوى الثاني و سيجي ء في الفرع اللاحق بيانه.

و لو شكّت المرأة بالشبهة المصداقية أنّها قرشية أو لا فقد يقال إنّها ترجع إلى أصالة عدم بلوغها سنّ اليأس، و فيه: أنّ ما هو اليأس بالحمل الشائع ليس مشكوكا لكونه مردّدا بين الخمسين المعلوم الوجود و الستّين المعلوم العدم، نعم عنوان سنّ اليأس بما هو هذا المفهوم و ما هو الموضوع له لهذه اللفظة مشكوك التحقق و لكنّه ليس موضوعا للأثر لأنّ الأثر مرتّب على مصاديقه.


1- الوسائل: باب 31، من أبواب الحيض، ح 9.

ص: 203

و قد يقال: إنّها ترجع إلى أصالة عدم القرشية نظرا إلى أنّ أفراد غير القرشية أغلب و أكثر و الظن يلحق الشي ء بالأغلب الأكثر.

و فيه: أنّه لا دليل على حجية الظن المذكور لا من مقدمات الانسداد و لا من غيرها و الحق أنّها ترجع إلى أصالة عدم الانتساب من قريش و استصحابه.

لا يقال إنّه معارض باستصحاب عدم الانتساب إلى قبيلة أخرى. فإنّه يقال:

ليس الأثر مرتّبا على الانتساب إلى قبيلة أخرى، بل على عدم الانتساب إلى قبيلة قريش، فانّ الخاصّ إنما يعنون العام بنقيض عنوانه لا بضدّه.

لا يقال: ليس لعدم الانتساب حالة سابقة لوضوح ثبوت الشكّ فيه من أوّل وجود المرأة، هذا لو أريد به العدم بنحو ليس الناقصة، و لو أريد بنحو ليس التامة فهو و إن كان له حالة سابقة أزليّة لكن جواز استصحابه مبني على ما يظهر من بعض كلمات الكفاية في مبحث العام و الخاص، من كون مآل هذين النحوين من السلب إلى معنى واحد، و التحقيق خلافه فإنّ الموضوع في أحدهما الماهية الملحوظة بعناية الوجود الخارجي و أشرابه و في الآخر هو الماهية الساذجة الملحوظة لا بعنايته، و ليس بينهما جامع و كل منهما نقيض للإيجاب الّذي كان من سنخه، فإذا أخذ الإيجاب الملحوظ في موضوعه أيضا عناية الوجود موضوعا للأثر فنقيض ذلك الأثر يثبت للسلب الملحوظ في موضوعه أيضا عناية الوجود، فإجراء الاستصحاب في السلب الغير الملحوظ فيه عناية الوجود ثمّ إثبات السلب الملحوظ كذلك من أوضح أفراد الأصل المثبت و هل هو إلّا كاستصحاب عدم الكرية الأزلي، أو عدم وجود الكر في هذا المكان لإثبات عدم كرية الماء المخلوق دفعة في ذلك المكان.

فإنّه يقال: لا يبعد أن يقال بالفرق بين قولنا: إذا كانت المرأة قرشية فهي ترى

ص: 204

الحمرة إلى ما فوق الخمسين و بين قولنا: المرأة إذا بلغت خمسين لم تر حمرة إلّا أن تكون قرشية، فمفاد الأوّل انّ الموضوع المرأة الملحوظة بعناية الفراغ عن الوجود الخارجي و وصف كينونتها من قريش على وجه تقييد أحد الأمرين بالآخر و مفاد الثاني إنّما هو موضوعية الأمرين المذكورين على وجه التركيب دون التقييد. فافهم فإنّه لا يخلو عن دقة، و على هذا فيقال أحد الأمرين و هو المرأة الكذائية محرز بالوجدان و الآخر و هو عدم الكينونة الكذائية محرز بالأصل، فقد تمّ الموضوع بكلا جزئية.

ثمّ على فرض عدم جريان الأصل المذكور فهل الأصل هو الحيضية أو عدمها، ذهب بعض الأجلّة إلى الأوّل و شيخنا المرتضى- قدّس سرّهما- إلى الثاني، و هو الحق لأنّ الأصل الأوّل راجع إلى الاستصحاب التعليقي الموضوعي لأنّ تقريبه أنّ هذه المرأة كانت في السابق بحيث لو خرج منها الدم كان حيضا فالآن كما كان و قد قرر في الأصول ضعفه و حاصل إشكاله أنّ ما هو متعلّق اليقين الفعلي و هو الوجود التقديري غير موضوع للأثر و ما هو الموضوع للأثر و هو الوجود الفعلي ليس متعلّقا لليقين الفعلي، بل اليقين التقديري و هو خارج عن منصرف دليل الاستصحاب أعني قوله- عليه السّلام-: لا تنقض اليقين إلى آخره. نعم ينفع هذا الاستصحاب في ما كان الأثر للوجود التقديري كما في الحرمة المرتبة على الصوم المضر أعني ما لو وجد كان مضرا و كما في وجوب الاعتداد بالأشهر المرتب على المطلّقة التي لا تحيض فعلا مع كونها في سن من تحيض، أعني: من لو وجد منها الدم كان حيضا فبانضمام الاستصحاب التعليقي للحيضية و استصحاب الطهر الفعلي كلما رأت دما تصير المرأة داخلة في الموضوع المذكور، و ليس اشكال الاستصحاب التعليقي المذكور في مقامنا كونه مثبتا كما يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-

ص: 205

و قد بيّن ذلك في الأصول.

ثمّ لا يخفى أنّه لا وجه لرجوع المرأة المذكورة إلى عموم مرجعية الصفات و ذلك لتقييد موضوع علاميّتها بكونها قبل سن القعود و اليأس فكشف هذا القيد بسببها نظير كشف قيد موثقية المخبر بصدور الخبر عنه مع كون موضوع الحجية خبر الموثق.

و لو شكت المرأة بالشبهة المصداقية في بلوغها حدّ اليأس لا من جهة الشبهة في الانتساب إلى قريش، بل من جهة الشبهة في تاريخ ولادتها ترجع إلى أصالة عدم اليأس و لا يجري هنا الإشكال الّذي تقدّم في نظيره في صورة الشك في الانتساب كما هو واضح.

مسألة: كل دم أمكن أن يكون حيضا فهو حيض

سواء كان جامعا لصفات الحيض أم فاقدا و هذه هي القاعدة المعبّر عنها في كلماتهم بقاعدة الإمكان و قد تكرّر نقل الإجماع عليه في كلامهم حتى أنّه حكي عن المحقّق و العلّامة أنّهما استدلّا على حيضية الدم الكائن بين الثلاثة إلى العشرة أوّلا بالإجماع و ثانيا بهذه القاعدة فيظهر منهما كون هذه القاعدة في عرض الإجماع و أخواته من الأدلّة الأربعة من الأمور التي يستدل بها لا عليها، و مع ذلك قد استدل عليها بالأصل و الأخبار.

و ينبغي التكلّم في تنقيح معاني ألفاظ هذه القاعدة أوّلا قبل التكلّم في مداركها و مبانيها.

فنقول: الظاهر من لفظة الإمكان ليس هو الإمكان الاحتمالي كما هو الشأن في عامّة الألفاظ، ضرورة أنّها موضوعة للمعاني النفس الأمريّة لا الاحتمالية.

ص: 206

نعم الإمكان النفس الأمري الملحوظ مطلقا و من جميع الجهات و المحذورات حتى محذور تحقّق الممكن بلا علّته أيضا مقطوع عدم إرادته لأنّ الإمكان بهذا المعنى مساوق للوجوب، و لهذا قيل إنّ الممكن أبدا محفوف بالضرورتين لأنّه لا يخلو إمّا يوجد علّته التامّة و إمّا لا، و لا واسطة بين النفي و الإثبات فمع وجود علّته لا يمكن عدمه و إلّا يلزم تخلّف المعلول عن علّته و مع عدم وجود علّته لا يمكن وجوده و إلّا لزم الترجيح بلا مرجّح و استحالته من البديهيات الأوّلية حتى عند الأشعري.

و بالجملة فيصير محصل هذه القاعدة على هذا المعنى أنّ كل دم وجب كونه حيضا فهو حيض، فيتعيّن أن يكون المراد هو الإمكان النفس الأمري و لكن بملاحظة الموانع و الشرائط الكلية المقرّرة في الشرع لحيضية الدماء، فانّ الشرط و إن كان يلزم من عدمه العدم و لكن لا يلزم من وجوده الوجود، و كذلك المانع و إن كان يلزم من وجوده العدم، و لكن لا يلزم من عدمه الوجود، فمحصل معنى القاعدة على هذا أنّ كل دم اجتمع فيه شرائط الحيضية و فقد فيه موانعها فهو و إن كان بحسب الخصوصيات الشخصية الغير الممكن ضبطها تحت ضابط و الإحاطة بها لغير العالم بما في الأرحام يحتمل عدم حيضيته و لكنّه محكوم شرعا بالحيضيّة و على هذا فالتمسّك بالقاعدة في الشبهة الحكمية للشرط أو المانع أو الموضوعية لهما كما وقع في بعض الكلمات خارج عن قانون الاستدلال لأنّه استدلال بعموم القاعدة في الشبهة الموضوعية للعنوان الذي أخذ موضوعا لها و هو عنوان الإمكان.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ جميع ما استدل به على القاعدة ممّا عدا الإجماع للخدشة فيه مجال واسع فانّ من تلك الأدلّة الأخبار الدالّة على أنّ ما تراه المرأة قبل

ص: 207

العشرة من الحيضة الأولى و ما تراه بعدها من الحيضة المستقبلة (1) حيث حكم بالحيضية في الدمين المذكورين بمجرد إمكانها.

و فيه أنّ الظاهر تمحّض النظر بعد الفراغ عن أصل الحيضية في جعل الضابط لكون الدم من الحيضة الأولى و كونه من المستقبلة.

و منها: الأخبار الدالّة على تعجيل الوقت معلّلا بقوله- عليه السّلام-: ربّما تعجل الوقت (2)، و الدالّة على حيض الحامل معلّلا بقوله- عليه السّلام-: ربما قذفت الرحم الدم (3) حيث حكم بالحيضية بمجرد عدم مانعية الأمرين.

و فيه: أنّ الظاهر استناد الحكم بالحيضية إلى وجود المقتضي بضميمة عدم صلاحية ما تخيّله السائل مانعا للمانعيّة لا إلى مجرد عدم المانع و لو مع عدم إحراز المقتضي، و أمّا إنّ المقتضي هل هو ما يعم القاعدة أو خصوص العلم الوجداني و الصفات فلا يعلم من هذه الأخبار.

و منها: رواية يونس بن يعقوب (4) الواردة فيمن ترى الدم أربعة ثمّ الطهر خمسة ثم الدم أربعة ثم الطهر خمسة و هكذا إلى آخر الشهر بأنّها كلّما ترى الدم تدع الصلاة و كلّما ترى الطهر تصلّي، إذ من المعلوم أنّ الحكم بالحيضية ليس إلّا لأجل الإمكان و لا يضر العلم الإجمالي بالخلاف حيث لا يمكن كون الجميع حيضا واحدا لكونه أزيد من العشرة و لا متعدّدا لكون الطهر المتخلل أقل من العشرة


1- الوسائل- باب 11، من أبواب الحيض، ح 3.
2- المصدر نفسه: باب 13، من أبواب الحيض، ح 1.
3- المصدر نفسه: باب 30، من أبواب الحيض، ح 1.
4- المصدر نفسه: باب 6، من أبواب الحيض، ح 2.

ص: 208

و ذلك لحصول العلم المذكور تدريجا و بعد فقدان أحد طرفيه.

و فيه: منع التدريجية للعلم الإجمالي في الدفعة الثانية مثلا بأنّه يجب إمّا قضاء الصلاة الّتي تركتها في الدفعة الأولى، و إمّا أداء الصلاة في هذه الدفعة، فالعمل بالرواية في موردها مخالف لقاعدة العلم الإجمالي فكيف يمكن إثبات قاعدة الإمكان بمثلها.

و منها: الأخبار الواردة في المبتدئة بأنّها تتحيّض بمجرد الرؤية (1) حيث لا مستند للتحيّض سوى القاعدة.

و فيه: أنّه لا يخفى على الناظر في تلك الأخبار كون النظر ممحضا إلى مقدار حيضها عند تجاوز دمها عن العشرة بعد الفراغ عن أصل حيضية الدم. هذا هو الكلام في الأخبار.

و أمّا الأصل الّذي استدلّ به على القاعدة أعني أصالة الحيضية، فإن أريد به الغلبة فلا دليل على حجية الظن الحاصل بها في الموضوعات، و إن أريد به أصالة عدم الآفة الموجبة لسائر أقسام الدم غير الحيض، ففيه: أنّه غير واف بإثبات الحيضية.

و إن أريد به بناء العقلاء على أصالة السلامة و عدم الخروج عن مقتضى الطبيعة الأوّليّة للشي ء ما لم يتحقّق المانع، ففيه: أنّه راجع إلى قاعدة المقتضي و المانع، و قد قرّر في الأصول عدم ثبوت بنائهم عليها بوجه العموم، و إن أريد ثبوت بنائهم في خصوص هذا الباب كما في باب ظواهر الألفاظ و ربما يستشهد له


1- الوسائل: باب 8، من أبواب الحيض، ح 5 و 6.

ص: 209

بخلو الأخبار عن التعرض لما يتشخّص به دم الحيض عن غيره لا من السائلين و لا من الأئمة- عليهم السلام- مع كونه في غاية الاهتمام فهذا شاهد على كون الأصل المذكور مرتكزا عندهم فلهذا لم يحتاجوا إلى التعرّض المذكور، ففيه: أنّ القدر المسلّم عدم حصول التزلزل و التحيّر لهم. و أمّا إنّ منشأه أمارية الصفات عندهم، أو ارتكازية الأصل المذكور فكلّ محتمل و لا ينافي معهودية الصفات عندهم جهل السائل في مورد أخبار الصفات بالحيضية حتى نبّهه الإمام- عليه السّلام- فإنّه من قبيل الجهل التفصيلي الغير المنافي مع العلم الارتكازي فلم يبق من الأدلّة الّتي أقاموها عدا الإجماع و الإنصاف تماميته إذ لم ير قبل المحقّق الثاني تشكيك فيه من أحد.

نعم استشكل المحقّق الثاني و تبعه الأردبيلي و بالغ تلميذه صاحب المدارك حتى جزم بالعدم في فاقد الصفات. لا يقال: الإجماع فيما ليس للعقل إليه سبيل و لا من واضح النقل عليه دليل يكون حجة و ما نحن فيه ليس كذلك.

لأنّا نقول: هذا إنّما يتم فيما يحتمل كون تمام استناد المجمعين إلى العقل و النقل لا فيما يعلم كون الاستناد إلى الإجماع في عرض سائر الأدلّة، كيف و إلّا لما صحّ في شي ء من المسائل الاحتجاج بالأدلّة الأربعة و ما نحن فيه من القبيل الثاني كما لا يخفى على من راجع الكلمات.

بقي الكلام في علاج معارضة القاعدة مع أمارية الصفات بناء على استفادة عموم مرجعيتها كما هو الحق و قد تقدّم، و لا يبعد أن يقال باختصاص أخبار الصفات بما قبل الثلاثة في غير ذات العادة و في الدم المتجاوز عن العشرة في غير المعتادة، فإنّ المورد الأوّل شبهة مصداقية للقاعدة و الثاني ممّا يعارض فيه القاعدة بمثلها، و لا يلزم من ذلك التخصيص المستبشع كما لا يخفى.

ص: 210

مسألة: تستقر العادة شرعا برؤية الدم على نسق واحد مرّتين متواليتين

غير مفصول بينهما بالخلاف سواء اتفق اتحاد النسق في العدد فقط أو في الوقت كذلك أو فيهما معا، و يسمّى الأوّل بالعادة العددية و الثاني بالوقتية و الثالث بالوقتية العددية.

و يدل عليه مضافا إلى الإجماع قوله- عليه السّلام- في مضمرة سماعة الموثقة: فإذا اتّفق شهران عدة أيام سواء فتلك أيّامها (1)، و قوله- عليه السّلام- في مرسلة يونس الطويلة: فإن انقطع الدم في الشهر الثاني لوقته من الشهر الأوّل حتّى توالى عليها حيضتان أو ثلاث فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه و يكون سنّتها فيما تستقبل ان استحاضت- إلى أن قال:- و إنّما جعل الوقت ان توالى عليها حيضتان أو ثلاث لقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للتي تعرف أيامها دعي الصلاة أيام أقرائك، فعلمنا أنّه لم يجعل القراء الواحد سنّة لها فيقول:

دعي الصلاة أيّام قرئك، و لكن سنّ لها الأقراء و أدناه حيضتان فصاعدا.

الحديث (2). و يستفاد من هاتين الروايتين خصوصا الثانية بملاحظة قوله- عليه السّلام-: حتى توالى عليها حيضتان حيث إنّ كلمة حتى تعليلية كما في قولك: أسلم حتى تدخل الجنة، لا غائيّة كما في قوله- عليه السّلام-: كل شي ء طاهر حتى تعلم أنّه قذر، و كما في قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: على اليد ما أخذت حتى تؤدي، أنّ الميزان في حصول العادة الشرعية صدق الاستواء و اتحاد النظم و النسق بين الحيضتين المتواليتين سواء اتفق ذلك في الوقت فقط أم في العدد كذلك أم في كليهما.


1- الوسائل: باب 7، من أبواب الحيض، ح 1.
2- المصدر نفسه: ح 2.

ص: 211

و من هنا يعلم عدم الموضوعية لتوالي الشهرين الهلاليين، فلو تكرر الدم على نسق واحد في الشهر الأوّل و العاشر و لم تر بينهما دما أصلا كفى في حصول العادة لصدق عنوان توالي الحيضتين، و يكفي أيضا في حصول عادة العدد رؤية الدم مرتين بعدد واحد في شهر واحد.

نعم في حصول عادة الوقت تحتاج إلى حيضة ثالثة بأن ترى الدم ثلاثة مثلا و الطهر عشرة ثمّ الدم ثلاثة، ثم الطهر عشرة ثمّ الدم ثلاثة فتصير في هذه المرّة ذات، عادة وقتيّة أيضا لاستقرار وقتها في اليوم الحادي عشر من الطهر فترجع إليها في المرّة الرابعة.

و لو رأت شهرا ثلاثة و شهرا أربعة و شهرا خمسة ثمّ دارت عليها الدورة الثانية أيضا بهذا الترتيب تحقّق لها العادة المركبة.

نعم لو رأت شهرين ثلاثة و شهرين أربعة ثم رأت بهذا الترتيب نوبة أخرى ففي حصول العادة المركبة إشكال لاحتمال كون كل شهرين ناسخين لما تقدّمهما.

نعم لو تكرّر مرارا عديدة بحيث استقرّ لها العادة العرفية بهذا النظم و الترتيب اندرجت حينئذ في من تعرف أيّامها بالنسبة إلى هذا المركب، و هل يكفي الأقل المتكرر في العدد الزائد و الناقص في حصول العادة بالنسبة إلى العدد الناقص، و كذا الكلام في الوقت المشترك بين الوقتين المختلفين، الظاهر العدم و ذلك لعدم صدق تكرّر الدم على نسق واحد فيكون الأخذ بذلك القدر الجامع أخذ بقرء واحد و قد سنّ لها النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم الأخذ بالأقراء لا القرء الواحد، و لو كان في الدمين المتكررين نقاء متخلّل إمّا في أحدهما أو في كليهما إمّا على نسق واحد أو بالاختلاف فهل تحصل العادة في المجموع من أيّام الدم و النقاء أو أنّ العبرة

ص: 212

بخصوص أيّام الدم، الظاهر الأوّل فإنّه بعد محكومية النقاء شرعا بالحيضية لا بدّ من احتسابه من العدد و لا يضر تفاوت الدمين فيه باتحاد النسق بينهما كما لا يضر تفاوتهما في لون الصفرة و الحمرة باتحاد نسقهما بعد كون كل منهما محكوما بالحيضية شرعا بقاعدة الإمكان.

و الأقوى حصول العادة بالتميز كما لو استمر بها الدم في شهرين و كان خمسة من أوّلهما واجدة للصفات إذ المستفاد من أخبار الصفات أنّ الشارع جعلها أمارة على الحيضية شرعا فتندرج المرأة بواسطة قيام هذه الأمارة عندها مرتين متواليتين في موضوع من تعرف أيامها، كما أنّ المستفاد من دليل قاعدة الإمكان أيضا أنّ الشارع جعل إمكان الحيض أمارة على الوقوع فيكفي في حصول العادة إحراز حيضية الدمين المتكررين بالقاعدة أيضا، و العجب من بعض الأجلّة الإعلام حيث صدر منه خلاف ذلك في مسألة الصفات.

مسألة: لا إشكال في أنّ ذات العادة الوقتية تترك العادة بمجرّد الرؤية

إذا رأت في الوقت أو قبله أو بعده على وجه يصدق تعجيل الوقت أو تأخّره، و تدل عليه بعد الإجماع قوله- عليه السّلام- في مرسلة يونس القصيرة: «فإذا رأت المرأة الدم في أيّام حيضها تركت الصلاة فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فهي حائض» (1) إنّما الإشكال فيما لو رأت قبل الوقت لا على الوجه المذكور أو بعد الوقت و في ذات العادة العددية فقط و في المبتدئة و المضطربة.

و مجمل الكلام في جميع هذه الأقسام أنّ مقتضى العلم الإجمالي بتوجه إحدى وظيفتي الحائض و المستحاضة لزوم رعاية كلتيهما و أصالة عدم الحيض معارضة


1- الوسائل: باب 12، من أبواب الحيض، ح 2.

ص: 213

بأصالة عدم الاستحاضة، و قاعدة الإمكان غير جارية لاختصاصها بصورة استقرار الإمكان بمعنى اجتماع الشرائط العامة و فقد الموانع كذلك و قبل استمرار الدم إلى الثلاثة لم يحرز ذلك وجدانا و إحرازه تعبدا بالاستصحاب أيضا غير نافع لأنّ مراد المجمعين من الاستقرار سكون النفس و الخروج عن التزلزل لا الاستقرار النفس الأمري حتى يمكن إحرازه بالتعبّد و لا أقلّ من احتمال كونه المراد، و قد عرفت أنّ عمدة الدليل على القاعدة هو الإجماع.

لا يقال: فعلى هذا لا مجرى لها بعد الثلاثة أيضا لاحتمال تجاوز الدم عن العشرة و وجود الدم الأقوى هناك و هو مانع عن حيضية هذا الدم و إحراز عدمه بالاستصحاب أيضا غير مجد لما ذكرت.

لأنّا نقول: ليس وجود الدم الأقوى من قبيل الموانع كالصغير و اليأس و الحمل على القول بمانعيته و إنّما هو من قبيل المزاحم فالممتنع إنّما هو جمع الدمين في الحيضيّة بعد الفراغ عن قابلية كل منهما في حدّ ذاته و بحسب مادة الخطاب كما هو الحال في الأختين في باب النكاح فلا مضايقة من استصحاب العدم فيه و إن منعنا عن استصحاب عدم المانع أو وجود الشرط، و قد نبّه على ذلك شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- و كيف كان فلا إشكال في جريان القاعدة بعد الثلاثة، و أمّا قبلها فإن قلنا بعموم مرجعية الصفات كما حقّقناه سابقا فلا بدّ من الحكم بالحيضية مع الصفات و بالاستحاضة مع العدم، و إلّا فلا محيص عن الاحتياط.

مسألة: لو رأت ثلاثة و انقطع ثمّ رأت في ضمن العشرة دما آخر

و انقطع على العشرة أو ما دونها كان الكل مع النقاء المتخلّل حيضا و تدلّ عليه مضافا إلى

ص: 214

الإجماع على خصوص هذا الفرع قاعدة الإمكان بضميمة عدم إمكان أقلّية الطهر من العشرة و لو لا الإجماع لأمكن الخدشة في عموم الحكم بالنسبة إلى المعتادة فيما لو رأت الصفرة بعد أيّامها من جهة المستفيضة (1) الدالة على أنّ الصفرة بعد أيّام الحيض ليست حيضا، و العجب من بعض الأعلام حيث حمل أيّام الحيض على أيّام إمكانه مع كونه خلاف الظاهر، بل خلاف الصريح لبعض الأخبار و هو مرسلة يونس الطويلة فراجع.

و لو رأت ثلاثة مثلا و انقطع ثمّ بعد فصل أقل الطهر رأت ثلاثة أيضا فعلى ما حقّقناه من جريان قاعدة الإمكان كان كل من الدمين محكوما بالحيضية من غير فرق بين كونهما جامعين أو فاقدين أو مختلفين، و لو رأت ثلاثة مثلا ثم رأت قبل فصل أقل الطهر ثلاثة أيضا و كان المجموع مع النقاء المتخلل أزيد من العشرة فإن كان مع أحدهما مرجح من عادة أو صفات كان هو المقدم و إلّا فالباب باب المزاحمة و الأقوى فيه التخيير، و العجب من بعض الأعلام حيث حكم بمرجحيّة السبق الزماني، و أنت خبير بما فيه بعد استواء الدمين فيما هو الملاك كما هو الحال في نظائره من المتزاحمين، و قد يستدل لمرجحيّة السبق الزماني بقول أبي الحسن- عليه السّلام- في خبر صفوان بن يحيى قال: قلت: إذا مكثت المرأة عشرة أيّام ترى الدم ثم طهرت فمكثت ثلاثة أيام طاهرا ثم رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة، قال: لا هذه مستحاضة. (2)

و فيه: أنّ مفروض السائل الفراغ عن حيضية الدم الأوّل و هو لا يتحقّق إلّا


1- راجع الوسائل: باب 4، من أبواب الحيض.
2- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 3.

ص: 215

بالعادة أو الصفة، و أمّا بالقاعدة فهو أوّل الكلام.

مسألة: إذا انقطع دم الحيض في الظاهر مع احتمال ثبوته في الباطن وجب عليها الاختبار

بإدخال قطنة و الصبر هنيئة فإن خرجت نقية حكمت بكونها طاهرة فقد جعل الشارع نقاء الباطن طريقا ظاهريا على الطهر الواقعي في مقابل احتمال كونه نقاء متخللا و حيضا حكميا، كما جعل نقاء القطنة طريقا ظاهريا على نقاء الباطن.

و تدل على وجوب الاختبار موثقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال قلت له: المرأة ترى الطهر و ترى الصفرة أو الشي ء فلا تدري أطهرت أم لا؟ قال- عليه السّلام-: «إذا كان كذلك فلتقم فلتلصق بطنها إلى حائط و ترفع رجلها على الحائط كما رأيت الكلب يصنع إذا أراد أن يبول ثم تستدخل الكرسف فإذا كان ثمّة من الدم مثل رأس الذباب خرج فإن خرج دم فلم تطهر و إن لم يخرج فقد طهرت» (1)، و ظاهرها كون الاختبار واجبا طريقيا فقد أوجب الشارع في هذا الفرد من الشبهة الموضوعية الفحص عن الواقع بالرجوع إلى هذا الطريق الظاهري و لم يرخص الرجوع إلى الأصل العملي أعني استصحاب بقاء الدم في الباطن و استصحاب حدث الحيض لاحتمال كون النقاء متخلّلا، لا واجبا نفسيا حتّى في حقّ من يعلم بالبقاء أو يعمل بالاحتياط، و لا مقدّميا لاعتبار حصول الجزم في النية أو إحراز الطهر في صحة الغسل في خصوص المقام، و لا إرشاديا مسوقا بغرض جعل الطريق فقط من دون إيجاب الرجوع حتى يكون الأصل جاريا قبل اعمال الطريق.


1- الوسائل: باب 17، من أبواب الحيض، ح 4.

ص: 216

و العجب من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حيث استظهر الاحتمال الأخير في الرواية حتى التجأ في حملها على المعنى الأوّل إلى فهم الأصحاب، مع أنّك خبير بأنّ ظاهر الأمر هو المولوية دون الإرشاد.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الخصوصية المذكورة في الرواية للاختبار غير واجبة و إنّما هي دخيلة في كمال الواجب لا في أصله لشهادة صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر- عليه السّلام-، قال- عليه السّلام-: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة فإن خرج فيها شي ء من الدم فلا تغتسل و إن لم تر شيئا فلتغتسل، و إن رأت بعد ذلك صفرة فلتتوضأ و لتصل» (1) مع ملاحظة اختلاف الأخبار المقيدة ففي بعضها ذكر الرجل اليسرى و في آخر اليمنى و في ثالث من دون الوصف، و هذا ممّا يوجب و هن ظهورها في إرادة الوجوب.

ثمّ إنّ موضوع الاختبار هو الانقطاع الظاهري مع احتمال الثبوت الباطني احتمالا زائدا على ما يقتضيه طبع الحيض فإنّه غالبا لا ينفك عن الانقطاع الظاهري مع الظنّ بالثبوت في الباطن، فإذا طرأ عليها حالة ترديد زائد على ذلك وجب عليها الاختبار و كلّما عادت الحالة عاد الوجوب و لو تعذّر عليها الاختبار لظلمة أو عمى مع فقد المرشد فالظاهر بقاء مادة الخطاب بالنسبة إليها و إن سقط الوجوب كما هو الحال في نظائره من الواجبات المطلقة في حقّ العاجز فلا يشرع في حقها الرجوع إلى الأصل و يجب عليها الاحتياط و يتحقّق بالاغتسال في أوّل الأمر و إتيان الصلاة و الصوم، و إذا حصل لها العلم بالنقاء تعيد الغسل و تقضي الصوم.


1- الوسائل: باب 17، من أبواب الحيض، ح 1.

ص: 217

فإن قلت: بل مقتضى العلم الإجمالي بتوجه إحدى وظيفتي الحائض و الطاهر إليها إعادة الغسل عند كل صلاة تحتمل النقاء عندها قلت: مع كونها محتملة للنقاء في أوّل الأمر لا يحصل لها علم إجمالي آخر.

نعم مقتضى الشغل اليقيني بالصلاة المتوقفة على الطهارة تحصيل العلم بالطهارة و لكنّه متعذّر لأنّها كلّما كرّرت الغسل احتملت حصول النقاء في أثنائه أو بعده أو في أثناء الصلاة.

نعم لا إشكال في كون التكرار المذكور أولى، و أمّا الوجوب فلا.

و كيف كان فهذا كلّه فيما لو خرجت القطنة نقية، و أمّا لو خرجت متلطّخة و لو بقليل من الصفرة صبرت المبتدئة و من لم يستقر لها عادة عددية و حكمت بكونه حيضا ظاهرا و واقعا حتى يتبيّن لها النقاء بإعمال الاختبار ثانيا و ثالثا و هكذا أو تمضي العشرة و تدلّ على الحكم في كلا القسمين موثقة سماعة، قال: «سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض تقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة يختلط عليها لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء؟ قال: فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم تجز العشرة» (1)، و كذا الحكم في المعتادة عادة عددية ما لم تنقض عادتها.

و أمّا إذا انقضت عادتها و كانت أقلّ من العشرة و لما تنقض العشرة فقد اختلف العلماء- رضوان اللّٰه عليهم- بعد الإطباق على أصل مشروعية الاستظهار بترك العبادة في مقامين أحدهما في أنّه على نحو الوجوب أو الاستحباب و الثاني في


1- الوسائل: باب 14، من أبواب الحيض، ح 1.

ص: 218

حدّه، و منشأ الاختلاف اختلاف الأخبار فإنّها بين ما حكمت بالاستظهار و بين ما حكمت بالاغتسال و الصلاة و الطائفة الأولى أيضا بين ما لم يذكر فيه حدّ الاستظهار و ما عيّن حد الاستظهار في اليوم و ما عيّنه في اليومين و ما عيّنه في الثلاثة، و ما خيّر بين اليوم و اليومين و الثلاثة، و ما خير بين اليومين و الثلاثة، و ما خيّر بين اليوم و اليومين، و ما عيّنه إلى العشرة، و ما عيّنه في ثلثي العادة، فبعضهم حمل الطائفة الأولى بشهادة الاختلاف الواقع في نفسها و بقرينة الطائفة الثانية المحمولة على أصل المشروعية لكونها واردة بعد سبق الحظر على الاستحباب.

و فيه: أنّه قد ذكر في بعض أخبار الطائفة الأولى في مقام التفريع على الاستظهار قوله- عليه السّلام-: «فإذا حلّ لها الصلاة حلّ لزوجها أن يغشاها» (1) و لا يخفى أنّ تفريع حلّية الغشيان على الاستظهار لا يناسب الاستحباب فالمتعيّن حملها على الوجوب.

و أمّا اختلافها في أنفسها فبعضهم نزله على اختلاف مراتب العادات فذات العادة التسعة تستظهر بيوم و الثمانية بيومين و هكذا، و شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- حمل مادة الاستظهار على معناه اللغوي أعني طلب استكشاف الحال و ظهوره و نزل الاختلاف على مراتب ذلك فإنّ تبيّن الحال قد يحصل بيوم و قد يحصل بيومين و هكذا.

و فيه: أنّه خلاف الظاهر بل الظاهر أنّ المراد به الاحتياط كما عبّر به في بعض الأخبار و إطلاق الأخبار يأبى عن الحمل على ذات عادة مخصوصة فالمتعيّن الحمل على الوجوب التخييري برفع اليد عن ظاهر كل في التعيين بنص الآخر في


1- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 12.

ص: 219

المشروعيّة كما هو الحال في نظائره كما لو ورد: إن ظاهرت فأعتق رقبة، و ورد أيضا:

إن ظاهرت فأطعم ستين مسكينا، و القول بأنّه في المقام غير ممكن لرجوعه إلى التخيير بين الفعل و الترك في الزائد عن اليوم الواحد فيلزم جواز الترك لا إلى بدل بخلاف المثال فإنّ الثابت فيه جوازه إلى بدل و هو لا ينافي الوجوب و يلزم التخيير بين الأقل و الأكثر و هو في التدريجيّات كما في المقام غير معقول كما قرّر في الأصول.

مدفوع بأنّ طرفي التخيير الأمر القلبي و هو عقد القلب و البناء على التحيّض كما هو الحال في تخيّر المستمرة الدم التي ليس لها عادة و لا تميز، بين الأخذ بالست أو السّبع في كل شهر فيرتفع الإشكال بحذافيره.

لكن بإزاء هذه الأخبار أخبار مانعة بظاهرها عن الاستظهار.

منها: ما ورد في المستحاضة من أنّها بعد انقضاء أيّامها تغتسل و تصلّي (1).

و منها: ما ورد في النفساء بهذا المضمون (2).

و منها: المستفيضة الدالة على أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض و في أيام الطهر طهر (3).

و منها: ذيل مرسلة يونس القصيرة: «كلّ ما رأت المرأة من صفرة أو حمرة في أيّام حيضها فهو من الحيض، و كلّ ما رأته بعد أيّامها فليس من الحيض» (4)، و قد


1- راجع الوسائل: أبواب الاستحاضة.
2- الوسائل: باب 3، من أبواب النفاس، ح 1.
3- راجع الوسائل: باب 4، من أبواب الحيض.
4- الوسائل: باب 4، من أبواب الحيض، ح 3.

ص: 220

اختلفت الأنظار في وجه الجمع بين الطائفتين فالمنسوب إلى عامة المتأخّرين و هو مختار السيد الطباطبائي- رحمه اللّٰه- في العروة الحمل على الاستحباب.

و فيه: أنّه ينافيه ما في بعض أخبار الاستظهار من تعليق حلّية الغشيان بمضيّ أيام الاستظهار فإنّه غير مناسب مع الاستحباب كما لا يخفى.

و إلى آخرين حمل أخبار الاستظهار على صورة اجتماع الصفات و الأخبار الأخر على غيرها.

و فيه: أنّه مناف مع ذكر الدم الرقيق في بعض أخبار الاستظهار كذكر الحمرة في ذيل مرسلة يونس القصيرة.

و إلى ثالث معاملة الإطلاق و التقييد بحمل الأخبار الأخيرة على ما بعد الاستظهار.

و فيه: أنّه مناف مع كونهما في مقام التحديد لمقدار جلوس المرأة كقولك: حدّ السفر ثمانية فراسخ، و قولك: حدّه تسعة، و لا يخفى أنّهما عرفا من المتباينين لا الإطلاق و التقييد.

و إلى رابع حمل أخبار الاستظهار على من كان في عادتها خلاف بزيادة يوم أو يومين أحيانا و نقيصة هذا المقدار كذلك بناء على عدم زوال العادة بذلك كما مرّ تقويته، و الأخبار الأخير على مستقيمة العادة بشهادة موثقة البصري (1) المذكور فيها هذا التفصيل.

و فيه: إباء أخبار الاستظهار على كثرتها و بلوغها ثلاثة و عشرين خبرا عن


1- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 8، و البصري هو عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه.

ص: 221

الحمل على هذا الفرد النادر.

و إلى خامس حمل أخبار الاستظهار على من تجاوز دمها العادة في الشهر الأوّل و غيرها على الشهر الثاني و ما بعده بقرينة بعض (1) الأخبار الّذي ورد فيه هذا التفصيل.

و فيه: ذكر المستحاضة في غير واحد من أخبار الاستظهار، و الظاهر أنّ المراد بها من استمر بها الدم أشهرا أو سنين و عدم تمشّيه في أخبار الصفرة و الكدرة لكونه بالنسبة إليها تقييدا للمطلق بالفرد النادر.

و الحق في رفع الاختلاف حمل أخبار الاستظهار على صورة الشك و الترديد في انقطاع الدم على العشرة فما دونها و عدمه بقرينة كلمة الاستظهار و الاحتياط و الانتظار في قوله: فإن انقطع الدم فكذا و إن لم ينقطع فكذا، لوضوح عدم تمشّي هذه الأمور في حقّ القاطع بأحد الطرفين و حمل الأخبار الأخر ممّا عدا ذيل المرسلة و أخبار الصفرة و الكدرة على صورة القطع بالتجاوز عن العشرة سواء حصل القطع من جهة كونها مستحاضة مستمرا دمها أشهرا أو سنين أو من جهة كونها نفساء، و الغالب تجاوز دمها عن الشهر فضلا عن العشر، أو من جهة استقامة عادتها فإنّه أيضا قد يصير أحيانا سببا للقطع المذكور فإنّ مادة الدم لو كانت ضعيفة كان انضباط العادة و استقامتها مانعا و حابسا عن خروج الدم بانقضائها فيستكشف من عدم الحبس و المنع كون المادة قوية لا ينقطع على العشرة فما دونها كما أنّ المرأة المستحاضة الّتي استمر دمها أشهرا أو سنين قد يتّفق لها حالة الترديد و الشك بواسطة استعمال بعض الأدوية و رؤية الفتور و الضعف في خروج الدم


1- الوسائل: باب 3، من أبواب الحيض، ح 3.

ص: 222

و لونه، و ليس هذا تقييدا للمطلق بالفرد النادر، بل هو تعرّض للفرد النادر لما ذكرنا من عدم تمشّي الاستظهار في حقّ غير المتردّد.

و أمّا أخبار الصفرة و الكدرة فمحمولة على الحكم الواقعي بعد تقييدها بصورة التجاوز عن العشرة بواسطة ما دلّ على أنّ ما تراه المرأة قبل العشرة فهو من الحيضة الأولى، و أخبار الاستظهار محمولة على الحكم الظاهري في حقّ من لا يعلم كونه من مصاديق الكلّية الأولى أو الثانية، و الشاهد على هذا الحمل رواية يونس القصيرة فإنّها مشتملة على فقرأت ثلاث: إحداها: قوله: و إذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيّام إلخ. و الأخرى قوله: فإن رأت الدم من أوّل ما رأت الثاني الذي رأته تمام العشرة أيّام و دام إلخ. و الثالثة: قوله: كلّ ما رأت المرأة في أيّام حيضها من صفرة أو حمرة إلخ. فإنّ المراد من الفقرة الأولى إحدى الكلّيتين الواقعيتين و من الفقرة الأخيرة الكلية الأخرى، و من الوسطى هو الحكم الظاهري في أيّام الاستظهار.

و يتفرّع على ما ذكرنا من الحكم الظاهري أنّه لو انكشف الحال بعد ذلك إمّا بالانقطاع أو بالتجاوز تبني على الواقع و إن كان على خلاف ما عملته في الظاهر، ففي الصورة الأولى تقضي ما صامته من أيّام ما بعد الاستظهار، و في الثانية تقضي ما تركته من الصلاة و الصوم في أيّام الاستظهار، و العجب من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حيث ذهب إلى حكومته أخبار الاستظهار على أخبار الصفرة و الكدرة ببيان أنّها توجب اندراج أيّام الاستظهار في أيّام الحيض و احتسابها جزءا منها تعبّدا، و أنت خبير بأنّه ليس مفادها إلّا أنّ المرأة بعد انقضاء أيّامها تعمل عمل الحائض كما أنّ مفاد ما يقابلها أنّها بعد أيّامها تعامل معاملة

ص: 223

الطاهر، و ليس لأحد هذين التعبيرين حكومة على الآخر.

مسألة: إذا حصل النقاء من الحيض و لما تغتسل فهل تحل لزوجها مباشرتها

و لو مع الكراهة أو لا تحل أو تحل مع غسل فرجها و لا تحل بدونه، ثمّ على كل من تقديري الحرمة أو الكراهة فهل يشرع التيمم عند تعذّر الماء لزوالهما أو لا؟ ينبغي قبل التكلم في أدلّة المسألة تأسيس الأصل.

فنقول: قد يقال: إنّه أصل الإباحة و لا ترجع إلى استصحاب الحرمة لكونه مخدوشا بعدم بقاء الموضوع.

و فيه: أنّه قد قرّر في الأصول أنّ الموضوع في الاستصحاب مأخوذ من العرف لا من الدليل و الخدشة المذكورة مبنيّة على الثاني، بل الحق عدم الرجوع إلى الاستصحاب المذكور لكونه محكوما بالدليل و هو قوله تعالى نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ (1) فإنّه إمّا أن يقال بأنّ كلمة أنى ظرف زمان أو يقال بأنّها ظرف مكان بمعنى أيّ موضع من الحرث المذكور قبلا أو دبرا أو غيرهما، فعلى الأوّل فالمرجع هو العموم الزماني دون استصحاب حكم الخاص، و على الثاني فالآية مع قوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ (2) من باب دليلي المسافر و الحاضر و من باب التنويع، و ليس من مقام الرجوع إلى الاستصحاب كما هو واضح و حيث إنّ القدر المتيقّن من المحيض لو لم يكن بظاهره هو التلبس بدم الحيض لا الابتلاء بحدثه كان ما نحن فيه مندرجا تحت الآية الأولى و محكوما بحكم الحلّية، هذا هو الكلام في أصل المسألة.


1- البقرة/ 223.
2- البقرة/ 222.

ص: 224

و أمّا أدلّتها فمجمل الكلام فيها أنّ مقتضى قوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ (1) بناء على قراءة التخفيف حلّية الوطي بعد الطهر بمعنى النقاء.

و بناء على قراءة التشديد توقف الحلّية على الاغتسال فانّ المراد بالآية بناء على التشديد هو الاغتسال كما في آية وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (2) و حينئذ فإن قلنا بتواتر القراءات حصل الإجمال لتكافؤ الظهورين. اللّٰهمّ إلّا أن يقال بأقوائية ظهور قراءة التشديد على قراءة التخفيف فيحمل الثاني على ما لا ينافي الأوّل بحمل الطهر على الطهارة من حدث الحيض لا النقاء من دمه، و إن قلنا بعدم التواتر و عدم جواز الاستدلال و إنّما المسلّم جواز القراءة كما هو الحق المقرّر في محله فحينئذ يحصل الإجمال في الآية، و لكن يمكن الرجوع إلى قوله تعالى بعد تلك الفقرة فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ (3) و لا تعارض بقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ لإمكان حمله على حدث الحيض.

هذا ملخّص الكلام في الآية، و أمّا أخبار المسألة فبين طائفتين في إحداهما النهي عن الوطي قبل الاغتسال، و في الأخرى عدم البأس، و من المعلوم أنّ مقتضى الجمع بين المضمونين هو الحمل على الكراهة، و أمّا صحيحة ابن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام- في المرأة ينقطع عنها الدم دم الحيض في آخر أيّامها قال: «إذا أصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء قبل أن تغتسل» (4) فلا شهادة فيها للجمع بحمل الطائفة المرخصة على صورة الشّبق و المانعة على


1- البقرة/ 222.
2- المائدة/ 6.
3- البقرة/ 222.
4- الوسائل: باب 27، من أبواب الحيض، ح 1.

ص: 225

غيرها.

أمّا أوّلا: فلأنّ تعليق رفع المنع على الشّبق بمعنى شدّة الميل لا يناسب التحريم كما لا يخفى.

و أمّا ثانيا: فلاحتمال كونها في مقام بيان الوسيلة لرفع المنع بعد الفراغ عن أصله، و أمّا إنّ المنع كراهي أو تحريمي فليس بصدده و إنّما هو موكول إلى محله، و من هنا تعرف أنّه لا يمكن الاستشهاد بهذه الصحيحة لوجوب غسل الفرج فإنّ الأمر الّذي يتوسل به إلى رفع الكراهة لا يناسبه الوجوب.

و هل يشرع التيمّم عند تعذّر الماء لرفع الكراهة أو التحريم، ملخص القول فيه: أنّ مقتضى عموم بدلية التيمّم و أنّه يكفيك عشر سنين مشروعيته و عدم انتقاضة بالجماع كعدم انتقاض تيمّم الجنابة بمسّ الميّت و سائر الأحداث غير الجنابة و الخدشة في العموم بأنّه فيما كان الطهارة شرطا لا فيما كان حدث خاص مانعا كما فيما نحن فيه حيث إنّ المباشرة غير مشروطة بالطهارة و إلّا لما شرعت في حق الجنب أو من مس ميّتا و إنّما منع منها حدث الحيض، فمدفوعة بعدم الفرق بين الصورتين في الاندراج تحت قوله- عليه السّلام-: يكفيك التراب عشر سنين، و تدل على المشروعية روايتان ناصّتان بذلك و لا يعارضهما ما في الموثق عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «عن امرأة حاضت ثم طهرت في سفر فلم تجد الماء يومين أو ثلاثة هل لزوجها أن يقطع عليها؟ قال: لا يصلح لزوجها أن يقطع عليها حتى تغتسل» (1)، و ذلك إمّا لورودها في مقام أصل المنع قبل الاغتسال كسائر الأخبار المانعة، و إمّا محمولة على ثبوت المراتب للكراهة و اللّٰه العالم.


1- الوسائل: باب 21، من أبواب الحيض، ح 3.

ص: 226

مسألة: لو دخل عليها الوقت و هي طاهرة ثم عرضها الحيض

فإن اتسع طهرها للفرد الاختياري من الصلاة المجعول في حقّها مع قطع النظر عن التضيق العارض بسبب الحيض، فلا إشكال في ثبوت الأداء و لا في ثبوت القضاء مع ترك الأداء، كما لا إشكال في عدم ثبوتهما لو لم يتسع لا للفرد الاختياري و لا للاضطراري، و القول بثبوت القضاء مع الاتساع لأكثر الصلاة ضعيف لضعف مستنده و هو الرواية الضعيفة سندا و دلالة، و إنّما الإشكال فيما لو اتسع للفرد الاضطراري خاصة دون الاختياري فهل يثبت الأداء و مع عدمه القضاء كما ذهب إليه كاشف اللثام و اختاره شيخنا المرتضى- قدّس سرّهما- أوّلا، و إن رجع عنه أخيرا أو ينتفي كلاهما كما ذهب إليه صاحب العروة و قرّره بعض المحشّين- قدّس سرّهما- أو يفصل بين الأداء فيثبت، و القضاء فينتفي كما ذهب إليه بعض الأعاظم- قدّس سرّه-؟ مستند الأوّل أنّا لا نرى فرقا بين التضيق الذاتي و العرضي الحاصل بسبب عروض الموت أو الجنون أو نحوهما من الأعذار العقلية و بين التضيق العرضي الحاصل بسبب عروض الحيض فكما لا إشكال في ثبوت الأمرين في الأوّل، فلا بدّ أن لا يكون فيه إشكال في الأخير.

و مستند الثاني إبداء الفرق بين الصورتين بدعوى أنّ شرائط مطلوبية الصلاة مادة محقّقة في الأولى. غاية الأمر انتفاء شرائط حسن الخطاب أعني القدرة و الحياة و العقل، و أمّا في الثانية فالطهارة من الحيض قيد شرعي للمطلوبية المادّية دون حسن الخطاب و مع انتفاء المطلوبية المادية لا قضاء لعدم صدق الفوت و لا أداء أمّا الفرد الاختياري فواضح، و أمّا الاضطراري فلأنّه إنّما يشرع في حقّ العاجز عن الفرد الاختياري بعد الفراغ عن مشروعية الاختياري في حقّه مادّة

ص: 227

إن سقط عنه خطابه فعليّة.

و مستند الثالث أمّا في ثبوت الأداء فهو ما ذكر في وجه القول الأوّل، و أمّا في نفي القضاء فهو الأدلة الخاصة النافية للقضاء عن الحائض بدعوى أنّ المتبادر منها نفي القضاء فيما لو صار الحيض سببا لامتناع تحقّق الصلاة المشروعة في حقها مع قطع النظر عن هذا الضيق العرضي، و إن أمكن تحقّقها بملاحظة فردها المجعول بملاحظته.

و الحق في المسألة أن يقال: لا إشكال في أنّ لطبيعة الطهارة من الحيض الكائنة بين الحدّين من الوقت مدخلية شرعية في الجملة في مطلوبية الصلاة مادة، و لهذا لا نقول بثبوت القضاء في حقّ من استوعب حيضها لجميع الوقت، كما أنّه لا إشكال أيضا في أنّ الشرط ليس هو صرف وجود هذه الطبيعة بين الحدين من دون مدخلية مقدار خاص، و لا مع اعتبار كونها بمقدار أكثر الصلاة، و لهذا لا نقول بثبوت القضاء في حقّ من أدرك الطهارة آنا ما من الوقت أو بمقدار أكثر الصلاة، و إنّما الإشكال في أنّه هل المعتبر كونها بمقدار الصلاة الاختياريّة أو يكفي بمقدار الاضطراري، فعلى الثاني يثبت كلا الأمرين، و على الأوّل ينتفي كلاهما و لا يبعد استظهار الأوّل من الأدلّة.

هذا ملخّص الكلام فيما لو أدرك الطهر في أوّل الوقت و مثله الكلام فيما لو أدركه في آخره لجريان ما ذكرنا فيه أيضا حرفا بحرف، و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث فرّق بينهما، فقال في الأوّل بثبوت الأداء دون القضاء كما عرفت، و قال في الثاني بعد اعتبار سعة الوقت لمقدار الطهارة المائية من الغسل و الوضوء بملاحظة الأدلّة الخاصة الناصّة في ذلك بوجوب الأداء و القضاء كليهما

ص: 228

و لو لم يتسع الوقت بعد الطهارة المائية إلّا لإدراك ركعة من الوقت مع إسقاط سائر الشرائط الاختيارية، و أنت خبير بأنّ ما ذكره في جانب أوّل الوقت لنفي القضاء جار هنا أيضا بالنسبة إلى إدراك الركعة و إسقاط سائر الشرائط فلم يعلم للفرق المذكور وجه اللّٰهمّ إلّا أن ينعقد الإجماع في صورة إدراك الركعة على ثبوت الأداء و القضاء مع عدمه.

مسألة: لا إشكال في أنّه تحرم عليها حال التلبس بالدم و ما بحكمه من النقاء المتخلّل الصلاة و الطواف و الصوم

و كذا في حال الانقطاع و قبل الاغتسال، كما أنّه لا إشكال في كون الحرمة في الحالة الثانية على وجه التشريع و إنّما الكلام في الحالة الأولى و أنّ الحرمة فيها تشريعية أو ذاتية، و لا يخفى أنّ مقتضى الأصل هو الأوّل و ذلك لثبوت الحرمة التشريعية على كل حال و إنّما الشك في ثبوت الزائد و الأصل قاض بنفيه.

و أمّا مقتضى الأدلّة فقد يقال: إنّه الثاني نظرا إلى أنّه الظاهر من عنوان الحرمة و عدم الجواز و عدم الحلّية و النهي و الأمر بالترك الوارد كل منها في بعض الأخبار فإنّ الظاهر كون فعل الصلاة مثلا معلّقا لها من حيث الذات لا بعنوان ثانوي و هو التشريع، هذا لو قلنا بأنّ التشريع سار إلى الخارج، و أمّا لو قلنا بأنّه ممحّض في الأمر القلبي من دون سرايته إلى الخارج فالأمر أوضح.

و أيضا هو مقتضى جعل الاحتياط في أيّام الاستظهار بترك العبادة فإنّ الظاهر أنّه من باب دوران الأمر بين المحذورين و أقوائية جانب الحرمة، و إلّا لكان مقتضى الاحتياط فعل العبادة بوظيفة الاستحاضة مع تروك الحائض.

و أيضا هو مقتضى قول الكاظم- عليه السّلام- لمن رأت الدم المشتبه بين الحيض

ص: 229

و العذرة: «فلتتق اللّٰه فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتى ترى الطهر و ليمسك عنها بعلها، و إن كان من العذرة فلتتق اللّٰه و لتتوضّأ و لتصل و يأتيها بعلها إن أحب ذلك» (1) فإنّ المرأة المذكورة كانت عالمة بأنّ الحائض الواقعي تقعد عن الصلاة و الطاهر كذلك تصلّي، و إنّما كانت جاهلة بحكم حال الاشتباه و كانت تصلّي في تلك الحال بعنوان الاحتياط و الرجاء حسب إرشاد فقهاء العامة لها بعد سؤالها إيّاهم أوّلا كما هو مذكور في صدر الخبر المذكور في الحدائق، فكأنّ الإمام- عليه السّلام- قال: فعل الصلاة بعنوان الاحتياط محرّم، و لا يناسب هذا إلّا مع الحرمة الذاتية كما هو واضح.

و يمكن الجواب أمّا عن الأوّل فيما تقرر في الأصول من أنّ هذه العناوين إذا تعلّقت بالماهيات المركّبة في مقام بيان أجزائها و شرائطها فهي ظاهرة في الوضع دون التكليف مضافا إلى أنّ النهي و الأمر بالترك واردان في مقام توهّم الوجوب.

سلّمنا كونها في مقام التكليف لكن عنوان التشريع و إن كان عارضيا لكنّه ملازم غالبي لهذه الأفعال إذا الغالب إتيانها بعنوان التعبديّة، و المأمور بهيّة بأمر الشارع و إتيانها بغير هذه الكيفية مع تحقّق العبادية و إن كان ممكنا لكنّه فرض نادر، فمن الممكن كون النواهي راجعا إليها بملاحظة هذا العنوان الملازم لها غالبا و لا نسلّم كون التشريع أمرا قلبيا، لم لا يجوز أن يكون من قبيل التعظيم و التوهين ساريا إلى الخارج.

و أمّا عن الثاني فبإمكان كون الاحتياط بترك العبادة تشريعا و سائر المحرّمات ذاتا فلا ينافي فعل العبادة بغير وجه التشريع.


1- الوسائل: باب 2، من أبواب الحيض، ح 1.

ص: 230

نعم هذا احتياط ناقص و الاحتياط التام فعل الصلاة بقصد الاحتياط مع مراعاة وظيفة الاستحاضة و تروك الحائض لكن رفع عنها الاحتياط التام و اكتفى بالناقص لأجل مصلحة.

و أمّا عن الثالث فبأنّ الرواية في مقام الإرجاع إلى الطريق المنصوب للتشخيص و أنّه على تقدير تشخيص الحيض يجب رعاية وظيفته الحتمية و على تقدير تشخيص العذرة يجب رعاية وظيفتها كذلك، و أمّا إنّ حرمة الصلاة على التقدير الأوّل تشريعية أو ذاتية فالرواية ساكتة عنه و ملائمة مع كل منهما.

نعم على القول بالحرمة الذاتية لا يشرع لها فعل العبادة رجاء و بعنوان الاحتياط بعد ثبوت الطريق الشرعي و إمكان الرجوع إليه و إن كان مع عدم الثبوت أو عدم إمكان الرجوع لا محيص لها في العبادة من اختيار أحد الأمرين من الفعل أو الترك مع رعاية سائر تروك الحائض.

و أمّا على القول بالحرمة التشريعية فيشرع لها الاحتياط بفعل العبادة و لو مع ثبوت الطريق و إمكان الرجوع إليه كما هو واضح.

مسألة: لا يجوز لها مسّ كتابة القرآن

لقوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (1) و قد كفانا مئونة إجمال الآية من حيث مرجع الضمير و من حيث المراد من المطهّرين رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن- عليه السّلام- قال:

المصحف لا تمسّه على غير طهر و لا جنبا و لا تمس خطه و لا تعلّقه، إنّ اللّٰه تعالى يقول لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (2).


1- الواقعة/ 79.
2- الوسائل: باب 12، من أبواب الوضوء، ح 3.

ص: 231

و توهّم أنّ الرواية موجبة لسقوط الآية عن الاستدلال من جهة الهيئة و أنّ المراد بها مطلق المرجوحية لمكان عطف قوله: «و لا تعلّقه» بعد العلم الخارجي بأنّ النهي فيه للكراهة مدفوع بأنّ استدلال الإمام- عليه السّلام- بالآية إنّما هو للمعطوف عليه لا المعطوف مع شدّة مناسبتها للمعطوف أيضا، فإنّه إذا كان مسّ الكتابة حراما ناسب أن يكون تعليق القرآن مكروها و المناسبة المذكورة و إن لم تصر بمثابة صحّ لأمثالنا التمسّك بها لكن كفى بها وجها مصححا لذكر الإمام- عليه السّلام- الآية في مقام تقريب الحكم المذكور و تأييده و لا ينافي الرواية المذكورة رواية الاحتجاج من أنّه لمّا استخلف الثاني سأل الأمير- عليه السّلام- أن يدفع إليهم القرآن الّذي كان عنده- إلى أن قال بعد أن امتنع أن يدفع إليهم:- فإنّ القرآن الّذي عندي لا يمسّه إلّا المطهّرون و الأوصياء من ولدي، فقال الثاني: فهل وقت لإظهاره معلوم؟ قال علي- عليه السّلام-: نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره و يحمل الناس عليه فتجري السنّة به.

و ذلك لإمكان أن يكون المراد من المطهّرين طبعية جامعة ذات مراتب و كذا من القرآن، فالمرتبة الكاملة من القرآن و هي المحفوظة من إسقاط المحرّفين لا يمسّها إلّا المطهّرون من أرجاس المعاصي أعني الملائكة و الأوصياء إلى زمان ظهور الحجة- صلوات اللّٰه عليه- و المرتبة الناقصة و هي الموجودة منه في ما بأيدينا لا يمسّها إلّا المطهّرون من أرجاس الأحداث.

و تدل على الحكم أيضا موثقة أبي بصير أو صحيحته قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عمّن قرأ في المصحف و هو على غير وضوء؟ قال- عليه السّلام- لا بأس، و لا يمسّ الكتاب (1).


1- الوسائل: باب 12، من أبواب الوضوء، ح 1.

ص: 232

مسألة: هل يشرع لها حال تلبسها بالدم أو ما بحكمه الأغسال المندوبة

كغسلي الإحرام و الجمعة أو الواجبة كغسلي المسّ و الجنابة أو لا يشرع أو هنا تفصيل مجمل القول في ذلك أنّ الكلام تارة بحسب القاعدة و أخرى بحسب الأدلّة الخاصة.

أمّا الأوّل فإن قلنا بأنّ الطهارة الحاصلة من الأغسال حقيقة واحدة ذات مراتب أو حقائق متخالفة كما أنّ الأخير ظاهر قوله- عليه السّلام-: إذا اجتمعت اللّٰه عليك حقوق إلخ (1) فاللازم القول بالمشروعية و احتمال مانعية حدث الحيض عن تأثير الأغسال مدفوع بإطلاق أدلّتها، و إن قلنا بأنّها حقيقة واحدة غير قابلة للتشكيك فاللازم القول بعدمها كما هو واضح.

و أمّا الثاني فاعلم أنّه لا إشكال في مشروعية غسل الإحرام في حقّها لورود النص الخاص بذلك، و أمّا غسل الجمعة فمقتضى رواية ابن مسلم: «الحائض تطهر يوم الجمعة و تذكر اللّٰه؟ قال- عليه السّلام-: أمّا الطهر فلا، و لكنّها تتوضّأ في وقت الصلاة ثمّ تستقبل القبلة و تذكر اللّٰه» (2) عدم المشروعية فإنّ قول السائل تطهر يوم الجمعة بعد معلومية عدم إرادة الطهارة من الخبث لوضوح تمشّيها منها، و عدم إرادة الطهارة من الحدث الأصغر أيضا بقرينة قوله- عليه السّلام- في الجواب: و لكنّها تتوضّأ، يتعيّن حمله على إرادة الغسل فكأنّه قال: الحائض تغتسل يوم الجمعة و لا يخفى ظهوره في إرادة غسل الجمعة، و قد نفاه- عليه السّلام- بقوله: أمّا الطهر فلا، و العجب من المحقّق الخراساني- قدّس سرّه- في فقهه حيث حمل الطهر في


1- الوسائل: باب 43، من أبواب الجنابة، ح 1.
2- المصدر نفسه: باب 22، من أبواب الحيض، ح 3.

ص: 233

الموضعين على غسل الحيض، و لا يخفى أنّه في غاية البعد.

و أمّا غسل الجنابة فقد ورد فيه روايتان مقتضى صريح إحداهما مشروعيته و هي موثقة عمّار عن المرأة يواقعها زوجها ثمّ تحيض قبل أن تغتسل، قال- عليه السّلام-: إن شاءت أن تغتسل فعلت، و إن لم تفعل فليس عليها شي ء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض و الجنابة» (1)، و مقتضى ظهور الأخرى إمّا بحسب الذات أو بمقتضى الجمع عدم وجوبه لعدم وجوب الغايات المشروطة به من الصلاة و غيرها و هي مصححة الكاهلي: «عن المرأة يجامعها زوجها فتحيض و هي في المغتسل تغتسل أو لا تغتسل؟ قال: لا تغتسل قد جاءها ما يفسد الصلاة» (2)، لكن مع ذلك المشهور بينهم عدم المشروعية، بل عن المعتبر دعوى الإجماع، و عن المنتهى أنّه لم ينسب الخلاف إلّا إلى أكثر العامة، و لا يخفى أنّ الإجماع محصّله غير حاصل لوجود الخلاف كما يعلم بالمراجعة و على تقديره غير مجد لاحتمال استنادهم إلى تخيّل المضادّة بين الحدث الملازم لها ما دام رؤية الدم و بين الطهارة و منقوله غير حجة و إذن فالأقوى صحّة جميع الأغسال غير غسل الحيض حتى غسل الجمعة كما أفتى به في العروة، و ذلك لاحتمال أن يكون المراد بقول السائل في الخبر المتقدّم تطهر يوم الجمعة السؤال عن غسل الحيض لتخيّله أنّ حدث الحيض كالاستحاضة ممكن الاجتماع مع الغسل، فإذا جاء هذا الاحتمال حصل الإجمال فيبقى إطلاق أدلّة غسل الجمعة كسائر الأغسال بحاله.

مسألة: لا إشكال في عدم صحّة الصوم منها في حال رؤية الدم

و هل


1- الوسائل: باب 22، من أبواب الحيض، ح 4.
2- المصدر نفسه: ح 1.

ص: 234

يصح بعد الانقطاع و قبل الاغتسال أو لا يصح فتعمّد البقاء على حدث الحيض يكون كتعمّده على حدث الجنابة. المشهور الثاني و ذهب صاحب المدارك و الأردبيلي- قدّس سرّهما- إلى الأوّل، و الأقوى هو المشهور لورود النص على أنّها «إن طهرت بليل ثمّ توانت أن تغتسل حتى أصبحت فعليها قضاء ذلك اليوم» (1) و ضعف السند لو كان منجبر بالشهرة، و قد يستدل للمشهور بأنّ حدث الحيض أشدّ منافاة للصوم من حدث الجنابة ألا ترى عدم بطلان الصوم بحدوث الجنابة القهرية في أثناء النهار و بطلانه بطروّ الحيض كذلك.

و فيه مع كونه قياسا أنّ عدم مجامعة الحيض في حال استمرار الدم مع الصوم مسلّم و لكنّه غير ملازم مع عدم مجامعته بعد الانقطاع و مورد القياس هو الأوّل، و محل الكلام هو الثاني.

مسألة: لا إشكال في حرمة اللبث عليها في سائر المساجد

و مطلق الدخول حتّى الاجتياز في المسجدين الحرامين إنّما الكلام في أنّ المراد من الاجتياز المجوّز في سائر المساجد هل هو خصوص ما لو كان الدخول من باب و الخروج من آخر كما اختاره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أو يعم ما لو كان كل منهما من باب واحد كما رجّحه المحقّق الخراساني- قدّس سرّه- في فقهه لا يبعد ترجيح الأوّل لأنّه المتبادر من لفظ «عٰابِرِي سَبِيلٍ» الواقع في الآية و لفظ الاجتياز الواقع في النص.

و لو حاضت في أحد المسجدين تيمّمت لأجل الخروج للنص الدالّ على ذلك و قيده في العروة بعدم أقصرية زمان الخروج أو مساواته لزمان التيمّم، و لا بأس به و لا يتعدّى الحكم إلى ما لو اضطرت إلى اللبث في سائر المساجد إذ مع استمرار


1- الوسائل: ب 21، من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

ص: 235

الدم كما هو المفروض لا يجدي في حقها الغسل، فكيف بالتيمّم الّذي هو بدله، و إنّما قلنا به في الصورة الأولى تعبّدا للنص فلا يتعدّى إلى غيرها.

مسألة: لا إشكال في أنّه يحرم على الحائض كالجنب وضع الشي ء في سائر المساجد إذا استلزم اللبث

كما أنّ أخذ الشي ء و تناوله منها و لو مع الاستلزام المذكور جائز لورود النص في الموضعين إنّما الكلام في أنّ الوضع لذاته و لو انفك عن اللبث كما لو كان من خارج المسجد محرّم آخر أيضا، أو أنّ المحرّم هو اللبث مع استلزامه و لا حرمة بدونه، و إسناد الحرمة [في الثاني ظ] إلى الوضع عرضي و من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف، الأقوى هو الثاني لأنّه مقتضى ما ورد في النص من تعليل الحرمة في جانب الوضع بأنّه يقدر على وضع ما بيده في غير المسجد، و الجواز في جانب الأخذ بأنّه لا يقدر على أخذ ما في المسجد إلّا من المسجد إذ كما أنّ تعليل الرخصة في الشي ء بالضرورة العرفية لا يصلح إلّا مع وجود مقتضى المنع فيه، و مع وجود مقتضى الجواز في ذاته لا يصلح التعليل بالضرورة العرفية، كذلك تعليل المنع بعدم الضرورة العرفية لا يصلح إلّا مع وجود مقتضى المنع في ذات الشي ء إذ مجرّد عدم الضرورة ليس من مقتضيات المنع كما هو واضح، و لا يخفى أنّ ما يصلح أن يكون مقتضيا للمنع في هذين الفعلين ليس إلّا اللبث خصوصا مع سبق قوله- عليه السّلام-: الجنب و الحائض لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين (1) و ليس في البين شي ء آخر صالحا للمانعية، هذا و قد ورد نص آخر بتحريم الأخذ و تجويز الوضع معلّلا باستلزام الأخذ للدخول دون الوضع و هو مؤيد لما ذكرنا في جانب الوضع، نعم هو معارض مع النص الأوّل في جانب


1- الوسائل: باب 17، من أبواب الحيض، ح 2.

ص: 236

الأخذ فإن أمكن حمله على الكراهة فهو و إلّا فالمتعيّن طرحه لكونه معرضا عنه عند الأصحاب.

مسألة: لا إشكال في أنّه يحرم عليها كالجنب قراءة سور العزائم الأربع

أعني: سورة اقرأ و النجم و حم السجدة و الم السجدة، و توهم اختصاص الحرمة بخصوص آية السجدة ضعيف فإنّه و إن ورد في غالب نصوص الباب لفظ السجدة و هو لو لم نقل بظهوره في نفس الآية فلا أقلّ من الإجمال، و لكن عن المحقّق- قدّس سرّه- في المعتبر أنّه قال: يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا ما شاءا من القرآن إلّا سور العزائم الأربع و هي: اقرأ باسم ربّك، و النجم، و تنزيل السجدة، و حم السجدة، و روى ذلك البزنطي في جامعه عن المثنى عن الحسن الصيقل عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- و لا يخفى أنّ اسناد ما ذكره إلى خصوص البزنطي شاهد قطعي على أنّ الموجود في تلك الرواية أسماء السور لا لفظ السجدة و إلّا لما كان للتخصيص به وجه.

ثمّ هل التحريم مختص بقراءة المجموع أو يعم الأبعاض حتّى البسملة لو قرأها بقصد تلك السورة؟ الظاهر الثاني لأنّه المتبادر من النهي المتعلّق بالأفعال المركّبة التدريجية كما في قولك: لا تقرأ هذا الكاغذ، أو لا تأكل هذا الرغيف، و ليس حال النهي كالأمر أو الإجازة المتعلّقين بتلك الأفعال.

ثمّ إنّ الظاهر دوران الحكم في القراءة و اللبث مدار ثبوت الوصف العنواني، أعني: كونها حائضا لأنّ المشتق حقيقة في ما تلبس بالمبدإ، و لا يخفى أنّ المبدأ هنا و هو مادة الحيض عبارة عن نفس خروج الدم لا الأثر الحاصل منه و هو الحدث على عكس الحال في مادة الجنابة فإنّها عبارة عن الحدث الحاصل من

ص: 237

خروج المني لا عن سببه الّذي هو الخروج، فإذا قيل الحائض و الجنب كذا فكأنّه قيل المتلبس بحدث الجنابة و بخروج دم الحيض كذا، و العجب من بعض الأعاظم حيث ذهب إلى تعميم التحريم لما بعد الانقطاع قبل الاغتسال مستدلا بأنّه مقتضى المناسبة المغروسة في الأذهان، و فيه ما لا يخفى.

ثمّ لا إشكال في ثبوت الكراهة في مطلق القراءة ممّا عدا سور العزائم و تأكدها في ما زاد على السبع و اغلظيّتها في ما زاد على السبعين كما هو مقتضى الجمع بين الأخبار إنّما الإشكال في تصوير الكراهة فإنّها بالمعنى المصطلح لا تناسب العبادية المتقوّمة بالرجحان، و بمعنى قلّة الثواب إنّما تتمشّى في ما إذا كانت للطبيعة من حيث نفسها مقدار من المصلحة تختلف باختلاف فرديها المتبادلين في الوجود نقيصة و عدمها حتى يصح النهي عنها باعتبار وقوعها في ضمن أحد ذينك الفردين إرشادا إلى إيقاعها في ضمن الفرد الخالي عن المنقصة، و هذا المعنى أيضا غير متحقّق في ما نحن فيه فانّ القراءة في غير حال الحيض ليست مطلوبة بدلا عن القراءة في حاله، بل كل منهما مطلوب استقلالي كما هو واضح، و حسم مادة الاشكال أن يقال: إنّ الكراهة هنا ليست بأحد المعنيين المذكورين و إنّ القراءة في حال الحيض على حدّ مصلحتها في غير هذا الحال، و لكن الفرق ابتلاؤها في هذا الحال بضد وجودي أرجح منها و أهم فورد النهي عنها بالعرض و المجاز إرشادا إلى ذلك الأهم، و تصحيح عباديّتها حينئذ إمّا بالأمر الترتّبي إن صحّحناه في باب الضد و بالرجحان الذاتي إن لم نصححه أو بالأمر المطلق إن صحّحنا توجيه الطلب نحو الضدين بنحو الإطلاق في ما كان على وجه الاستحباب، و أنّ المحذور مختص بصورة كونه على وجه الوجوب.

ص: 238

ثمّ لا إشكال في وجوب سجدة التلاوة عليها فيما إذا قرأت آية السجدة عصيانا أو نسيانا، و أمّا لو سمعتها ففيه روايتان (1) في إحديهما الأمر بالسجود و في الأخرى النهي عنه، و مقتضى الجمع و إن كان إمّا حمل الأمر على الاستحباب بقرينة النهي المحمول على جواز الترك لوروده في مقام توهّم الوجوب، أو حمل النهي على الكراهة بقرينة الأمر المحمول على جواز العمل لوروده في مقام توهم الحظر، و لكن هنا جمع آخر أقرب منهما و هو حمل الأمر على صورة الاستماع و النهي على صورة السماع بشهادة موثقة ابن سنان عن رجل سمع السجدة، قال- عليه السّلام-: لا يسجد إلّا أن يكون منصتا لقراءته، مستمعا لها أو يصلّي بصلاته، و أمّا أن يكون في ناحية و أنت في أخرى فلا تسجد لما سمعت (2).

و نوقش فيها تارة: باشتمال الطريق على محمد بن عيسى و قد حكى الصدوق عن شيخه ابن الوليد عدم الاعتماد على روايته.

و أخرى: بموافقتها للتقية فانّ المحكي عن ابن عباس و عثمان عدم السجود للسامع.

و ثالثة: باشتمالها على قوله: أو يصلّي بصلاته، فإنّا لا نقول بجواز قراءة العزيمة في الفريضة و لا تشرع الجماعة في النافلة غالبا فلا محمل صحيح لهذه الفقرة.

و رابعة: باشتمالها على النهي عن السجود للسامع مع أنّ المسلّم عندنا الاستحباب على تقدير عدم الوجوب.


1- راجع الوسائل: باب 36، من أبواب الحيض.
2- الوسائل: باب 43، من أبواب قراءة القرآن، ح 1.

ص: 239

و الكل مدفوع، أمّا الأوّل فلأنّ الرواية متلقاة بالقبول عند الأصحاب.

و أمّا الثاني، فلا يضر مع وجود الجمع العرفي.

و أمّا الثالث، فإمّا نختار الجواز و إمّا نحمل الفقرة المذكورة على الاقتداء بالمخالف، فالمحصل من الرواية أنّ السجود يجب في حالين: أحدهما عند الاستماع، و الآخر عند الاقتداء و لو لم يكن استماع.

و أمّا الرابع: فيحمل النهي لكونه في مقام توهم الوجوب على جواز الترك.

فإن قلت: النسبة بين دليل المسألة و هذه الرواية عموم من وجه لاختصاص دليل المسألة بالحائض و عمومه للسماع و الاستماع و عموم الرواية من الحيثية الأولى و خصوصيته من الثانية.

قلت: من أدلّة الباب موثقة أبي بصير قال: «إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع و سمعتها فاسجد، و إن كنت على غير وضوء، و إن كنت جنبا و إن كانت المرأة لا تصلّي إلخ» (1)، و النسبة بين هذه الرواية و رواية عبد اللّٰه بن سنان عموم مطلق فهاتان الروايتان بعد تقييد مطلقهما بمقيدهما تصيران قرينة على تعيين المراد في سائر أدلّة الباب.

مسألة: لا إشكال في حرمة وطي الحائض قبلا

كتابا و سنة و إجماعا بل ضرورة من الدين، و لهذا نقول بكفر مستحلّيه، و لا فرق بين ما إذا كان الحيض معلوما بالوجودان أو ثابتا بالطريق الشرعي كالعادة و التميز و تخيير المرأة العدد المذكور في الروايات، و أمّا في أيّام الاستظهار فهل يثبت التحريم في حقّ الزوج


1- الوسائل: باب 36، من أبواب الحيض، ح 2.

ص: 240

ببنائها على التحيض أولا؟ ذهب بعض الأعاظم- قدّس سرّه- إلى الفرق بين ما إذا كان الاستظهار واجبا تعيينا كما في اليوم الأوّل فيثبت، و ما إذا كان واجبا تخييرا كما في ما بعده إلى العشرة فلا يثبت بالنسبة إلى الزوج و إن حرم عليها التمكين مستدلا بأنّ التخيير في الثاني إنّما هو حكم العقل من باب دوران الأمر بين المحذورين من دون تعبّد شرعي في البين، و أمّا التعيين في الأوّل فحيث لا حكومة للعقل فيه لعدم المرجّح في نظره فلا محيص عن حمله على التعبّد الشرعي كما أنّ التخيير في مورد الأخذ بالروايات أيضا كذلك إذ الموجود هناك مضافا إلى دوران الأمر بين المحذورين في كلّ يوم علم إجمالي بثبوت حيض في مجموع الشهر فالتخيير المذكور من حيث تعيين هذا المعلوم الإجمالي في عدّة أيّام معلومة خارج عن عهدة العقل و لا محيص عن حمله على التعبّد، و حينئذ فالمرجع في حقّ الزوج في ما بعد اليوم الأوّل من الاستظهار هو البراءة دون استصحاب الحيض أو قاعدة الإمكان السقوط هذين الأخيرين في حقّه قطعا لدلالة الأخبار على أنّها لو اختارت البناء على الطهر حلّ لزوجها أن يغشاها هذا ما ذكره.

و فيه: أنّ إيجاب التحيض تعيينا كما في اليوم الأوّل من الاستظهار أو تخييرا كما في مورد الأخذ بالروايات و إن كان شرعيا لكن من الممكن كونه متعرضا لخصوص وظيفة المرأة مع السكوت عن التعرض لوظيفة الزوج فكما قلتم في ذينك الموضعين على ما هو الظاهر بأنّ الشارع جعل اختيار أمر الحيض الّذي هو موضوع لكلتا الوظيفتين بيد المرأة إمّا تعيينا و إمّا تخييرا فلم لا تقولون بمثله فيما بعد اليوم الأوّل من الاستظهار، و إن كان التخيير الّذي يستقل به العقل غير ناظر إلّا إلى وظيفة المرأة، و الحاصل أنّ ما ذكره مخالف للظاهر جدّا.

ص: 241

و لو شكّ في أصل طروّ الحيض و عدمه فلا إشكال في جواز رجوعهما إلى البراءة من دون فحص و لو مع إمكانه بسهولة للإجماع على عدم لزوم الفحص في هذه الشبهة الموضوعية، كما لا إشكال في حجية قولها لو أخبرت بالحيض و انقطاع الأصل بسببه في حقّ الزوج، و ذلك لورود النص المعتبر (1) على أنّ العدّة و الحيض إلى النساء، إذا ادّعت صدقت، إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم هل يعم ما لو كانت المرأة متهمة، أحرز من حالها و لو ظنّها أنّها لا تبالي بمخالفة الشرع في تضييع حقّ الزوج أو يختص بغيرها؟ الظاهر الثاني، لإمكان دعوى انصراف الإطلاق عن شمول الصورة المذكورة، مضافا إلى رواية السكوني (2) عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين- عليهم السّلام- قال: في امرأة ادّعت أنّها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض؟ قال: «كلّفوا نسوة من بطانتها أنّ حيضها كان في ما مضى على ما ادّعت فإن شهدن صدقت، و إلّا فهي كاذبة»، فإنّ الدعوى البعيدة من أحد المناشئ لتحقّق الاتهام و الظن المذكور في حقّ المرأة. نعم لا تصلح الرواية لإثبات المدعى في سائر الأفراد فالعمدة في إثبات العموم هو الانصراف المذكور، و لو ادّعت الطهر بعد ثبوت الحيض فمقتضى الأخبار قبول قولها أيضا كما هو واضح.

مسألة: هل تجب الكفّارة بوطي الحائض أو لا؟

المشهور بين القدماء و المتأخرين هو الأوّل، و المشهور بين متأخّري المتأخّرين هو الثاني، و مستند الأوّل رواية داود بن فرقد عن الصادق- عليه السّلام-: «في كفّارة الطمث يتصدق إذا كان في أوّله بدينار و في وسطه بنصف دينار و في آخره بربع دينار، قلت: و إن لم يكن عنده ما يكفّر؟ قال: فليتصدق على مسكين واحد و إلّا استغفر اللّٰه و لا يعود، فإنّ


1- الوسائل: باب 47، من أبواب الحيض، ح 1.
2- المصدر نفسه: ح 3.

ص: 242

الاستغفار توبة و كفارة لمن لم يجد السبيل إلى شي ء من الكفارة» (1)، و هنا روايات أخر بين مطلقة في إثبات الدينار أو نصفه أو التصدق على مسكين بقدر شبعه، و بين مقتصرة على الدينار في أوّل الحيض و نصفه في وسطه لكنّها محمولة على ما ذكر في الرواية الأولى من التفصيل حملا للمطلق على المقيّد، و لا ينافيها رواية عبد الملك قال: سألت أبا عبد اللّٰه عن رجل أتى جارية و هي طامث؟ قال: يستغفر ربه، قال عبد الكريم، فانّ الناس يقولون عليه نصف دينار أو دينار؟ فقال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: فليتصدق على عشرة مساكين (2) لإمكان كون قوله- عليه السّلام- فليتصدّق تقريرا لما ذكره السائل من الدينار و نصفه و بيانا لمصرفه و عدم تعرّضه ابتداء لعدم كونه بصدد البيان من هذه الجهة، و لا رواية علي بن إبراهيم في تفسيره قال: قال الصادق- عليه السّلام-: من أتى امرأة في الفرج في أوّل حيضها فعليه أن يتصدق بدينار، و عليه ربع حدّ الزاني خمسة و عشرون جلدة و إن أتاها في آخر أيّام حيضها فعليه أن يتصدّق بنصف دينار و يضرب اثنتي عشرة جلدة و نصفا (3) لإمكان حمل نصف الدينار المذكور في آخر الحيض في هذه الرواية على الاستحباب بقرينة الرواية الأولى، و مستند الثاني صحيحة العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّٰه عن رجل واقع امرأته و هي طامث؟ قال: «لا يلتمس فعل ذلك و قد نهى اللّٰه أن يقربها، قلت: فإن فعل أ عليه كفّارة؟ قال لا أعلم فيه شيئا يستغفر اللّٰه» (4) و قريب منها عدّة روايات أخر فتحمل الأوامر الواردة في الطائفة


1- الوسائل: ج 3، باب 28، من أبواب الحيض، ح 1.
2- المصدر نفسه: ص 574، ح 2.
3- المصدر نفسه: ص 575، ح 6.
4- المصدر نفسه: باب 29، من أبواب الحيض، ص 576، ح 1.

ص: 243

الأولى بقرينة هذه على الاستحباب، و لا يخفى أنّ مقتضى الصناعة و إن كان ذلك لكن اعراض مشهور القدماء و المتأخّرين عن الطائفة الثانية مع كون الجمع المذكور بمثابة من الوضوح لا يكاد يخفى على أدنى الطلبة قد يوجب الوهن و التزلزل في أركان حجيّتها.

ثمّ إنّ هاهنا فروعا لا بأس بالتنبيه عليها:

الأوّل: هل الحكم المذكور مختص بوطي الزوجة أو يعم الأجنبية؟ مقتضى الإطلاقات هو الثاني، و قد يمنع الإطلاق بدعوى كونها في مقام الوطي المباح ذاتا الحرام عرضا لأجل الحيض.

الثاني: هل يجري الحكم في وطي المملوكة أيضا أم يختص بالزوجة؟ مقتضى الإطلاقات هو الأوّل، لكن المنقول عن الفقه الرضوي مؤيدا بالإجماع المحكي عن الانتصار و نفي الخلاف المحكي عن السرائر التصدّق بثلاثة أمداد في وطي المملوكة و رفع اليد عن المطلقات بمجرد ذلك بناء على القول بالوجوب في غاية الإشكال. نعم لا بأس به بناء على الاستحباب تسامحا.

الثالث: لا فرق في الزوجة بين الدائمة و المنقطعة و الحرّة و الأمة لتساوي الكل في الاندراج تحت الإطلاق.

الرابع: هل يختص الحكم بالعامد العالم بالحكم و الموضوع أم يعم الجاهل مطلقا أو في خصوص الجهل بالحكم دون الموضوع، الأقوى في الجهل بالموضوع أو الحكم قصورا العدم بقرينة ذكر الاستغفار و لفظ الكفّارة، كما أنّ الظاهر في الجهل بالحكم تقصيرا الثبوت لا لاندراجه تحت الإطلاق.

ص: 244

الخامس: المراد من الدينار، المثقال من الذهب و من المثقال، المثقال الشرعي و لا إشكال في ذلك. إنّما الإشكال في أنّه هل يتعيّن دفع العين أم يكفي القيمة؟ لا يبعد الثاني لأنّ المتبادر من الأمر بدفع الأثمان ملاحظتها من حيث المالية، فإذا قيل: ادفع تومانا للفقير، يكفي دفع هذا المقدار من الفلوس، و يشهد له ذكر نصف الدينار و ربعه إذ من البعيد غايته إرادة الكسر المشاع إذ الظاهر عدم مسكوكية النصف و الربع في تلك الأزمان مستقلا.

السادس: الظاهر أنّ مصرف هذه الكفّارة مصرف سائر الكفّارات و هو مستحقّ الزكاة و لا يعتبر فيه التعدّد و إن ذكر في رواية عبد الملك المتقدّمة التصدق على عشرة مساكين، لكن رفع اليد عن المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان بمثل هذه الرواية في غاية البعد خصوصا مع عدم عمل أحد بها.

السابع: المتبادر من الروايات أنّ لكلّ حيض أوّلا و وسطا و آخرا لا أنّ هذه الأمور ملحوظة بالنسبة إلى العشرة و هو واضح.

الثامن: هل تتكرر الكفّارة بتكرّر موجبها أم لا؟ المسألة مبنيّة على القول بالتداخل في باب الأسباب المتعددة لمسبب واحد و عدمه، و حيث إنّ المختار فيها كما قرّر في الأصول هو القول بعدم التداخل فالأقوى في المسألة هو التكرّر.

مسألة: لا إشكال في وجوب الغسل عليها بعد الانقطاع

كما لا إشكال في كون وجوبه غيريا لأجل وجوب الغايات المشروطة بالطهور و إطلاق الأمر و إن كان يقتضي النفسية لكن بعد معهودية غيرية الوضوء و الغسل في الشريعة لا يبقى مجال للإطلاق و مقدماته كما لا يخفى. نعم لو قلنا بالانصراف كان لاحتمال النفسية في المقام وجه، لكنّه قول ضعيف كما قرّر في محلّه.

ص: 245

و لا إشكال أيضا في اتحاد كيفيته مع غسل الجنابة كما هو الحال في سائر الأغسال من الواجبة و المندوبة، و إنّما الكلام في أنّه هل هو مثله في الإغناء عن الوضوء فيستباح بمجرده الدخول في الصلاة و نحوها أو لا، بل تتوقف الاستباحة المذكورة على ضم الوضوء، ذهب جمهور الأصحاب- رضوان اللّٰه عليهم- إلى الثاني و اختار ابن الجنيد و السيد المرتضى من القدماء و المحقّق الأردبيلي و أصحاب المدارك و الذخيرة و المفاتيح و الحدائق- قدّس سرّهم- الأوّل.

و يدلّ على المشهور مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق- عليه السّلام- قال- عليه السّلام-: كل غسل قبله الوضوء إلّا غسل الجنابة. (1)

و مرسلته الأخرى عنه- عليه السّلام- قال- عليه السّلام-: في كل غسل وضوء إلّا الجنابة (2). و إرسالهما بعد كون المرسل ابن أبي عمير مجبور بعمل الأصحاب، و تقريب الدلالة أنّه بعد معلومية عدم إرادة كون الوضوء إمّا مطلقا أو في صورة التقديم شرطا لصحة الغسل كإطلاق الماء أو طهارته و لا لكماله كالمضمضة و الاستنشاق و لا معدودا من أجزائه كالغسلات الثلاث فإنّه كاحتمال كون الغسل شرطا لصحة الوضوء أو لكماله أو معدودا من أحد أجزائه مضافا إلى بعده في نفسه مناف لإطلاق الأدلّة الواردة في الشريعة في بيان ماهية الغسل و الوضوء، و بعد معلومية عدم إرادة الوجوب النفسي أو الاستحباب كذلك يتعيّن حمل الكلام على إرادة الوضوء الصلاتي و كون وصف التقديم إمّا مستحبا نفسيا أو موجبا لكمال فردي في الوضوء.


1- الوسائل: باب 35، من أبواب الجنابة، ح 1.
2- المصدر نفسه: ح 2.

ص: 246

و العجب من بعض الأعاظم حيث جعل احتمال كون الوضوء شرطا كماليا للغسل كالمضمضة و الاستنشاق في عرض ما ذكرنا، بل جعله أولى، و أنت خبير بأنّه لا يصلح للعرضية فضلا عن الأولوية و بإزاء هاتين المرسلتين أخبار أخر و لكنّها بين مطلقة دالة إمّا على أنّ أي وضوء أطهر من الغسل و أنقى، و إمّا على أنّ الوضوء بعد الغسل كما في بعضها أو قبله و بعده كما في بعض آخر بدعة، و هذه قابلة للحمل على خصوص الجنابة بقرينة المرسلتين، و بين ما دلّ على أنّ غسل الجمعة و غيره مجز عن الوضوء، و مقتضى الجمع العرفي الواضح بين هذه و بين المرسلتين حمل المرسلتين على الاستحباب، و حيث إنّ وضوح هذا الجمع بمثابة لا يكاد يخفى على أدنى الطلبة فضلا عن جمهور الأصحاب- رضوان اللّٰه عليهم- و مع ذلك لم يعتنوا بهذه الأخبار كشف ذلك كشفا قطعيا عن وجود خلل في حجيتها إمّا صدورا و إمّا جهة و إمّا دلالة فتبقى المرسلتان سليمتين عن المعارض الحجة، فيكون القول بعدم الاجتزاء مع كونه مخيّرا في الوضوء بين التقديم و التأخير و إن كان الأوّل هو الأفضل هو الأقوى.

و العجب من بعض الأعاظم حيث مال هنا إلى القول بالاجتزاء، بل قال به في مبحث الاستحاضة و لعلّ نظره إلى أنّ إعراض الأصحاب لا يكشف عن وجود الخلل المذكور إذ لعلّهم أخذوا بالمرسلتين ترجيحا أو تخييرا أو جمعا بوجه آخر غير ما ذكرنا كما هو الحال في بابي المنجزات و انفعال البئر، و لكنّه- قدّس سرّه- غفل عن أنّ وضوح الجمع الذي ذكرنا يسد باب هذه الاحتمالات، و من غرائب الأوهام في المقام أنّه لو كان المراد من قولهم- عليهم السلام- أي وضوء أنقى من الغسل هو الإطلاق و إرادة الماهيّة دون الفرد المعهود منها و هو غسل الجنابة يلزم كون الغسل

ص: 247

كافيا عن الوضوء في حقّ المحدث بالأصغر مع عدم ابتلائه بشي ء من موجبات الأكبر.

و فيه: أنّه لو قلنا بالإطلاق فالكلام المذكور ليس مشرعا نظير قولهم- عليهم السلام-: الناس مسلّطون على أموالهم، فكما أنّ هذه القضية في مقام رفع حجر المالك عن التصرفات بعد الفراغ عن مشروعيتها، كذلك القضية الأولى في مقام أرجحية الغسل من الوضوء في رفع الحدث الأصغر في الموارد التي فرغ عن مشروعية الغسل فيها.

مسألة: لا إشكال في سقوط قضاء الصلوات اليومية عنها و ثبوت قضاء صوم رمضان عليها

إنّما الإشكال في قضاء غير اليومية من الصلوات كالكسوفين و سائر الآيات و الصلاة و الصوم الواجبين بالنذر و شبهه، أمّا قضاء الكسوفين فمجمل الكلام فيه أنّه قد يقال بانصراف دليل نفي القضاء عنهما، و فيه عدم الفرق بين الدليل المذكور و بين قوله: «لا صلاة إلّا بطهور» و «دعي الصلاة أيام أقرائك» فإن صح الانصراف ففي كليهما، و إن لم يصح كما هو الحق فكذلك و لا وجه للتفكيك بينهما.

و قد يقال بأنّه و إن لم يكن انصراف لكن مقتضى تعليل نفي القضاء في بعض النصوص في جانب الصلاة بكونها متكرّرة في كل يوم و ليلة مرّات و في الصوم بكونه في السنة شهرا الاختصاص في الأوّل باليومية، و قد يدفع تارة بأنّ العلّة المذكورة ملحوظة بالنسبة إلى جنس الصلاة و الصوم لا أفرادهما.

و فيه: أنّه خلاف المقرر في محلّه من كون العلّة معمّمة و مخصّصة بالنسبة إلى أفراد الجنس و غيرها.

ص: 248

و أخرى بأنّا لا نسلّم كون المراد بها العلّة الحقيقية للحكم بل المراد ما يكون من قبيل الحكم و المقتضيات.

و فيه: أنّه خلاف الظاهر، ألا ترى عدم جريانه في مثل قول القائل لا تأكل الرّمان بعلّة أنّه حامض.

و ثالثة: بأنّ الاختصاص مسلّم في صورة انحصار العلّة و عدم علّة أخرى تقوم مقامها، و لكن في المقام علّة أخرى مذكورة في بعض النصوص مقتضاها العموم للكسوفين أيضا و هو كون الصلاة أمرا وجوديا مانعا عن اشتغال الأركان بأضدادها الوجودية الراجعة إلى مرمّة المعاش بخلاف الصوم فإنّه أمر عدمي غير موجب لاشتغال الأركان.

و فيه: أنّ عنوان المانع و إن كان بحسب الدقة صادقا على الكسوفين و لكنّهما بواسطة قلّة أفرادهما و كونها في العمر معدودة قليلة لا يحسبان من أفراده عرفا و لا أقل من الشك فيرجع إلى بعض الروايات المقتصرة على العلّة الأولى و هو رواية أبي بصير فراجع. و إذن فالأقوى لو لا شبهة الإجماع في المسألة كما يظهر من بعض الكلمات هو القول بثبوت القضاء، و قد أفتى به في العروة و وافقه أكثر المحشّين.

و أمّا صلاة الزلزلة و سائر الآيات فإن قلنا بكونها موقّتة إلى آخر العمر فلا إشكال في وجوبها بعد الانقطاع لبقاء وقتها بحسب الفرض، و إن قلنا بكون هذه الأمور أسبابا لها من دون توقيت في البين فمقتضى القاعدة عدم الوجوب لمصادفة السبب مع وجود المانع، و كذا الحال لو شككنا في أنّها من أي النحوين.

و أمّا الصلاة الواجبة بالنذر و شبهه فقد يقال إنّا و إن قلنا في الكسوفين بالوجوب لا نقول به هنا لأنّ عنوان الوفاء الذي هو الواجب غير قابل للتدارك

ص: 249

لأنّه تابع لالتزام الناذر الّذي هو بحسب الفرض على نحو وحدة المطلوب لوضوح أنّ الكلام في هذه الصورة و إلّا فلا إشكال في الوجوب في ما إذا كان بنحو تعدّد المطلوب. نعم ذات الصلاة الّتي هي متعلّق الالتزام قابلة للتدارك و لكنّها غير واجبة.

و فيه: أنّ عنوان الوفاء جهة تعليلية فالموضوع في الحقيقة هو ذات الصلاة و هي قابلة كما هو واضح.

و الحق أن يقال بعدم الوجوب لأنّ مصادفة الحيض كاشفة عن عدم انعقاد النذر من الأوّل و لا فرق بين اختصاص النذر باليوم الّذي صادف الحيض و بين عمومه لكلّ يوم كنذر صلاة ركعتين في كل خميس لانكشاف الفساد حينئذ أيضا بالنسبة إلى الفرد المصادف، و منه يظهر الكلام في الصوم المنذور أيضا.

ص: 250

المبحث الثاني: في الاستحاضة

اشارة

و تمام الكلام فيه يقتضي رسم مسائل:

مسألة: لا إشكال في أنّ الدم الّذي ليس بنفاس و لا قرح و لا جرح و لا عذرة [يكون استحاضة]

و امتنع كونه حيضا لفقد بعض شروطه كالخارج من الصغيرة أو اليائسة أو الأقل من الثلاثة لا ينحصر أمره في أن يكون خارجا من عرق العاذل الواقع في أقصى الرحم الّذي هو موضوع للأحكام الخاصة و ذلك لإمكان كونه خارجا من سائر العروق الموجودة في بدن الإنسان كما هو الحال في دم الرعاف و الخارج بالقي ء و نحوه، إنّما الكلام في أنّه هل هنا أصل ثانوي قاض بكون الدم استحاضة بعد امتناع كونه حيضا كالأصل الأوّلي القاضي بالحيضية مع إمكانها، ذهب صاحب المدارك- قدّس سرّه- إلى إمكان استفادة هذا الأصل من أخبار الصفات في صورة جامعيّة الدم لها، أعني: كونه باردا أصفر، رقيقا خارجا بفتور على عكس دم الحيض، و أمّا في صورة فاقديّته فالمتبع هو الدليل الخاص فإن قام فهو و إلّا فمقتضى الأصل الموضوعي و الحكمي عدم كونه استحاضة هذا ما ذكره.

ص: 251

و فيه: أنّ لفظة الاستحاضة عرفا و لغة عبارة عن استمرار دم الحيض و تجاوزه عن أيّام العادة فليس مطلق الدم الخارج من عرق العاذل مسمّى بهذا الاسم، بل خصوص ما كان منه مسبوقا بالحيض و مختلطا معه.

نعم هو بالمعنى الأوّل اصطلاح جديد لدى الفقهاء و لا يمكن حمل كلام الشارع و الأئمّة- عليهم السلام- على هذا الاصطلاح الجديد، و على هذا فمن الممكن كون الصفات من خواص الدم بوصف كونه استحاضة بالمعنى القديم لا له بوصف كونه كذلك بالمعنى الجديد.

و الحق أنّ يقال بأنّ المستفاد من مذاق الشرع وجود الأصل الثانوي المذكور من دون ملاحظة الصفات، و منشأ هذه الاستفادة أمران بنحو الاستقلال و إن أبيت فلا أقلّ من كون كل منهما جزءا للسبب الكاشف، أحدهما: تتبّع الفتاوى، و الآخر النصوص المتفرقة، و يكفي من الأوّل قوله العلّامة- قدّس سرّه- في محكي النهاية: الاستحاضة قد يعبر بها عن كل دم تراه المرأة غير دمي الحيض و النفاس خارج من الفرج ممّا ليس بعذرة و لا قرح سواء اتصل بالحيض كالمجاوز لأكثر الحيض أ و لم يكن كالّذي تراه المرأة قبل التسع. إلى أن قال: و قد يعبّر بها عن الدم المتصل بدم الحيض وحده، و بهذا المعنى تنقسم الاستحاضة إلى معتادة و مبتدئة و أيضا إلى مميّزة و غيرها، و يسمّى ما عدا ذلك دم فساد، و لكن الأحكام المذكورة في جميع ذلك لا تختلف انتهى.

و قول الوحيد- قدّس سرّه- في محكي شرح المفاتيح أنّ كل دم يكون أقل من ثلاثة أيّام و لم يكن من قرح أو جرح فهو استحاضة عند الفقهاء، و يكفي من الثاني صحيحة الحسين بن نعيم الصحاف قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- إنّ أم

ص: 252

ولدي ترى الدم و هي حامل كيف تصنع بالصلاة؟ قال فقال لي: إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الّذي كانت ترى فيه الدم من الشهر الّذي كانت تقعد فيه فانّ ذلك ليس من الرحم و لا من الطمث فلتتوضّأ و تحتشي بكرسف و تصلّي الحديث (1) ألا ترى أنّه- عليه السّلام- فرّع بالفاء التفريعيّة وجوب التوضّؤ على عدم كون الدم من الطمث فهو بمنزلة العلّة المنصوصة يتعدّى من موردها إلى غيره و بعد وضوح استظهار كون الوضوء مسببا عن خروج الدم لا عن سائر الأسباب كالنوم و نحوه يكون المحصل كون الدم المذكور حدثا بعلّة عدم كونه من الطمث و حيث إنّ حدثية الدم الذي ليس من الطمث منحصرة في كونه نفاسا أو استحاضة، و المفروض في المقام عدم الأوّل فيتعيّن كونه من الثاني، فيكون الحكم باستحاضية الدم معلّلا بعدم حيضيته و هو المطلوب.

و قوله في مرسلة يونس القصيرة (2): فإن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت و صلّت و انتظرت من يوم رأت الدم إلى عشرة أيّام- إلى أن قال:- و إن مرّ بها من يوم رأت الدم عشرة أيّام و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الّذي رأته لم يكن من الحيض إنّما كان من علّة إمّا من قرحة في جوفها و إمّا من الجوف.

الحديث. ألا ترى أنّه- عليه السّلام- مع إبداء احتمال كون الدم من قرحة في الجوف أو من الجوف رتّب عليه وجوب الاغتسال و بعد امتناع كونه غسل الحيض كما هو واضح يتعيّن كونه غسل الاستحاضة، إلى غير ذلك من النصوص الواردة في بابي النفاس و الحامل الّتي يستفاد منها الأصل الثانوي المذكور.

نعم القدر المتيقّن منه غير الدم الخارج من الرضيعة كما أنّ المتيقّن منه


1- الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 577، ح 3.
2- المصدر نفسه: باب 16، من أبواب الحيض، ح 3.

ص: 253

صورة عدم العلم بعلّة أخرى في الباطن يحتمل كون الدم خارجا من تلك العلّة، فإنّ الشارع اعتنى بالاحتمال مع العلم المزبور في مقابل الأصل الأولي، فكيف لا يعتني به في مقابل الأصل الثانوي، و أمّا مع عدم تحقّق العلم و كون المتحقّق صرف الاحتمال فالمستفاد من مذاقه عدم الاعتناء، و قد يتمسك لتقريب الأصل المذكور ببناء العقلاء على أصالة السلامة في عامة الأشياء الّتي منها مزاج المرأة و ينظّر المقام بباب الألفاظ حيث إنّ مقتضى الأصل الأوّلي فيها هو الحمل على الحقيقة مع إمكانها، و مقتضى الثانوي الحمل على أقرب المجازات مع تعذّرها و لكنّا في غنى و فسحة عن إثبات ذلك بعد ما تقدّم و إن اعتمد عليه بعض الأعاظم- قدّس سرّه- و حكاه أستاذنا الحائري عن سيّده الأستاذ السيّد محمد الأصفهاني- طاب مضجعهما.

مسألة: لا إشكال في اجتماع الحيض مع الإرضاع. و في اجتماعه مع الحمل قولان: المشهور هو الاجتماع

اشارة

و ذهب المفيد و الإسكافي و الحلّي و المحقّق في الشرائع- قدّس سرّهم- إلى عدمه و نسبه في النافع إلى أشهر الروايات، و ليعلم أوّلا: أنّ مقتضى الأصل هو الاجتماع لا لقاعدة الإمكان لاحتمال أن يكون عدم الحمل من حدود الحيضية شرعا، فالإمكان الّذي هو الموضوع في القاعدة غير محرز مع وجود الحمل، بل للاستصحاب، و تقريره أنّ المرأة الحامل كانت قبل الحمل بحيث متى رأت الدم بقانون الحيض كانت محكومة بترك الصلاة و سائر الأحكام، فالآن كما كانت و لا يعارض باستصحاب أحكام الطاهر الّتي كانت ثابتة قبل رؤية الدم لأنّه من قبيل الاستصحاب الفعلي، و الأوّل من التعليقي، و قد قرّر في محلّه حكومة التعليقي على الفعلي.

ص: 254

نعم إنّما ينفع هذا الاستصحاب لجريان أحكام الحائض على المرأة لا لجريان أحكام الحيض من نزح المقدّر لوقوعه في البئر و عدم العفو عن قليله في الصلاة على نفس الدم لكونه من الأصل المثبت بالنسبة إليه، و لا يجري مثله بالنسبة إلى الدم لكونه من الاستصحاب التعليقي في الموضوع، و قد قرّر في محلّه بطلانه.

إذا عرفت ذلك فنقول: مستند المشهور روايات مستفيضة (1) بل متواترة.

في بعضها: إنّ الحامل ربما قذفت بالدم يعني الحيض.

و في آخر: إن كان ما رأته دما كثيرا فلا تصلينّ، و إن كان قليلا فلتغتسل عند كل صلاتين.

و في ثالث: إن كان دما عبيطا فلا تصلّي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين.

و في رابع: إن كان دما كثيرا أحمر فلا تصلّي، و إن كان قليلا أصفر فلتتوضّأ.

و في خامس: إنّ الولد في بطن أمّه غذاؤه الدم فربما كثر ففضل عنه، فإذا فضل دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة.

و في سادس بعد السؤال عن الحلبي ترى الدم كما كانت ترى أيام حيضها مستقيما في كل شهر قال: تمسك عن الصلاة كما كانت تصنع في حيضها.

و في سابع بعد السؤال عن امرأة ترى الدم في الحبل قال: تقعد أيامها التي كانت تحيض فإذا زاد الدم على الأيام الّتي كانت تقعد استظهرت بثلاثة أيّام ثم هي مستحاضة.


1- الوسائل: باب 30، من أبواب الحيض.

ص: 255

و في ثامن بعد السؤال عن الحبلى ترى الدم و هي حامل كما كانت ترى الدم قبل ذلك في كل شهر هل تترك الصلاة، قال: تترك الصلاة إذا دام، و الظاهر أنّ قوله- عليه السّلام-: إذا دام شرط للحيضية الواقعية لا لتحيّضها بمجرد الرؤية. هذه أدلّة المشهور، و مستند القول الآخر رواية السكوني عن جعفر عن أبيه أنّه قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم ما كان الهّٰر ليجعل حيضا مع حبل، يعني: أنّها إذا رأت الدم و هي حامل لا تدع الصلاة إلّا أن ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة.

و في رواية أخرى: إنّ اللّٰه تعالى حبس عليه الحيضة فجعلها رزقه في بطن أمّه، و في ثالثة بعد السؤال عن الحبلى ترى الدفقة و الدفقتين من الدم في الأيام و في الشهر و الشهرين، قال: تلك الهراقة ليس تمسك هذه عن الصلاة. و الأخبار المستفيضة، بل المتواترة في استبراء السبايا بحيضة، و كذا الجواري المنتقلة ببيع أو غيره، و الموطوءة بالزنا، و الأمة المحللة للغير، و المرأة المسترابة بالحمل.

و في الكل نظر بل منع، أمّا الأوّل فلإمكان كونه إخبارا عن الغالب فانّ عدم اجتماع الأمرين أمر غالبي مرتكز في الأذهان حتى يجعل أحدهما دليلا و أمارة على عدم الآخر، و لهذا كثر السؤال من الرواة عن إمكانه، و إن أبيت إلّا عن كونها لبيان الحكم الشرعي فلا بدّ من حملها على التقية لما حكي من موافقتها لما هو المشهور بين العامة.

و أمّا الثاني فلعدم منافاة الحبس المذكور مع دفع الزائد عن مقدار الكفاية.

و أمّا الثالث فلأنّ الحكم بعدم الحيضية في مفروض السائل من الدفقة و الدفقتين في الأيّام أو الشهر و الشهرين إنّما هو لأجل اختلال شروط الحيض

ص: 256

لا لعدم اجتماعه مع الحمل.

و أمّا الرابع فلأنّ غلبة عدم اجتماع الأمرين كما مرّ كافية في صحة جعل أحدهما أمارة على عدم الآخر، بل جعل الشارع العدة في بعض المواضع ثلاث حيضات لحكمة عدم اختلاط الأنساب دليل على إمكان اجتماعهما، و إلّا لكان المتعيّن جعل العدّة حيضة واحدة في جميع المواضع، بل ربما يقال: إنّ جعلها حيضة واحدة أيضا دليل على بطلان القول بالامتناع إذ عليه يتوقّف إحراز الحيضية على إحراز الشرط و هو عدم الحمل، فلو توقّف الثاني أيضا على الأوّل لزم الدور لكنّه مدفوع بأنّ إحراز المشروط إنّما يكون بقاعدة الإمكان أو العادة أو الصفات، و إحراز الشرط بعد ذلك إنّما يكون بطريق الإنّ، و الحاصل أنّه على كلا القولين يكون الدم عند الشك في وجود الحمل محكوما بالحيضية على القواعد الظاهرية، و هذا المقدار كاف في تحقّق الاستبراء و الحكم ببراءة الرحم و الحكم بكونه استحاضة على القول بالامتناع بعد كشف الخلاف و استبانة الحمل لا يضر بالأمارية قبل الكشف.

و هنا قولان آخران: أحدهما التفصيل بين الحمل المستبين فلا يجتمع مع الحيض، و غيره فيجتمع. و هو للشيخ في الخلاف و لم يذكر له مستند سوى الصحيحة الآتية و لا إشعار فيها به، بل مقتضى إطلاقه كإطلاق سائر الأخبار، بل صريح البعض عدم الفرق بين القسمين.

و القول الآخر للشيخ أيضا في نهايته و كتابي الأخبار و هو التفصيل بين ما رأته المعتادة الحامل متأخرا عن عادتها بعشرين يوما فلا يكون حيضا و غيره فيكون حيضا، مستدلّا بصحيحة الحسين بن نعيم الصحاف: «إذا رأت الحامل الدم بعد

ص: 257

ما يمضي عشرون يوما من الوقت الّذي كانت ترى فيه الدم في الشهر الذي كانت تقعد فيه فإنّ ذلك ليس من الرحم و لا من الطمث، فلتتوضأ و تحتشي بكرسف و تصلّي، فإذا رأت الحامل قبل الوقت الذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنّه من الحيضة» (1) بناء على أنّ المعيار هو الصدر، و المذكور في الذيل من باب أحد مصاديق مفهومه.

و فيه: أنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان و حفظ ظهور هذا الخبر في نفي الحيضية الواقعية و بين حفظ تلك الإطلاقات و رفع اليد عن الظهور المذكور بحمله على نفي التحيض الظاهري بمجرّد الرؤية قبل استكشاف الخلاف بالاستمرار إلى الثلاثة اعتناء بالأمارتين الضعيفتين عند اجتماعهما أعني الحمل و التأخّر عن العادة بالمقدار المذكور، و الثاني لو لم يكن أرجح فلا أقل من المساواة الموجبة للإجمال المسقط للخبر عن الاستدلال فيكون المرجع تلك المطلقات نظير ما لو ورد: أكرم العلماء، ثم ورد: لا تكرم زيدا، و تردد بين زيد العالم و الجاهل فانّ العام المذكور يكون مرجعا بالنسبة إلى زيد العالم، بل يكون رافعا لإجمال الخاص فكذلك الحال في مقامنا.

و إذن فالأقوى هو القول بالاجتماع من غير فرق بين الاستبانة و عدمها و التأخّر عن العادة بعشرين و عدمه.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث سمّى رفع اليد عن عدم التحيّض الظاهري بعد كشف الخلاف بمضي الثلاثة تقييدا مع أنّه ليس إلّا من باب ارتفاع الحكم الظاهري بارتفاع موضوعه لكشف الخطاء.


1- الوسائل: باب 30، من أبواب الحيض، ح 3.

ص: 258

تتميم: الظاهر أنّ حال الحامل في عدم التحيّض بمجرد الرؤية عند عدم مصادفة العادة إلّا مع وجود الصفة كحال غيره

و أمّا عند مصادفة العادة فهل تتحيّض بمجرد الرؤية و لو مع فقد الصفة أو لا؟ يظهر من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- الدغدغة نظرا إلى احتمال انصراف ما دلّ على تحيّض المعتادة بمجرد الرؤية كمرسلة يونس القصيرة عن شمول المقام و إطلاق قوله- عليه السّلام- في أخبار الباب:

«إن كان دما عبيطا فلا تصلّي» بالنسبة إلى ذات العادة مضافا إلى ظهور قوله في بعض آخر منها في خصوص ذات العادة: «تترك الصلاة إذا دام» في كون الحيض متأخرا عن الثلاثة ثم جعل أقرب التوجيهات في مقام الجمع بين الأخبار هو القول باعتبار العادة إذا انضمت مع الصفة و عدم اعتبارها مع الانفكاك.

و فيه أنّه لا وجه لما احتمله من الانصراف إلّا ندرة الوجود و هي غير موجبة له، مع أنّ قوله في بعض أخبار المسألة: «تقعد أيّامها التي كانت تحيض فإذا زاد الدم على الأيّام التي كانت تقعد استظهرت بيوم»، ظاهر في القعود بمجرد حضور الأيّام بلا مهلة كما أنّ الاستظهار يكون بمجرد مضي الأيّام كذلك، و أمّا قوله: «تترك الصلاة إذا دام»، فقد مرّ أنّ الصدر راجع إلى الحيضية الواقعية لا التحيّض الظاهري يعني أنّها تتحيّض فعلا بشرط عدم انكشاف الخلاف فيما بعد، و إذن فتقييد دليل اعتبار العادة بدليل الصفة مع كون كل منهما أمارة مستقلة تقييد بلا وجه.

مسألة: لا إشكال في ما لو انقطع الدم على العشرة فما دون في أنّه محكوم بالحيضية مطلقا

ص: 259

ما لم يمنع عنه مانع آخر، و أمّا لو تجاوز عن العشرة فقد اختلط حينئذ الحيض بالاستحاضة، فلا بد من الرجوع في التشخيص إلى ما نصبه الشارع مائزا في حقها بحسب تكليفها الفعلي، فإنّها على أقسام لأنّها إمّا تكون مبتدئة أو غيرها و مرادنا بالمبتدئة من لم تستقر لها عادة سواء لم تر الدم قط و كان هذا أوّل ما رأت و تسمّى بالمبتدئة بالمعنى الأخص، أم رأت مكرّرا و لكن لا على نسق واحد و تسمّى مضطربة كذلك، و غير المبتدئة بالمعنى الأعم و لا محالة تكون ذات عادة فعليّة إمّا تكون ذاكرة لعادتها، و إمّا ناسية لها و قد تسمّى هذه مضطربة أيضا، فهذه أقسام أربعة.

و ليعلم أوّلا أنّ مرسلة يونس الطويلة قد قسمت المستحاضة إلى أقسام ثلاثة: ذات العادة و الناسية و المبتدئة بالمعنى الأخص و صرّحت في صدرها بأنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم سنّ لها ثلاث سنن، قد بيّن كل مشكل لمن سمعها و فهمها حتى لم يدع لأحد فيه مقالا بالرأي، و في موضع آخر بأنّ جميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث لا تخلو أبدا من واحدة منهنّ، فتوهم صاحب الرياض أنّ المراد حصر المستحاضة في الثلاث فالتجأ إلى إدراج المضطربة في المبتدئة مع أنّه فسّرها في المرسلة بقوله: «و إن لم يكن لها أيام قبل ذلك و استحاضت أوّل ما رأت».

فقال- قدّس سرّه-: إنّ المراد بالأوّل هو الأوّل بالإضافة إلى حصول العادة أي رأت الدم أوّلا قبل حصول العادة و لا يخفى أنّ ما ذكره خلاف صريح قوله في موضع آخر: «و لم تر الدم قط و رأت أوّل ما أدركت» كما أنّ المراد من الحصر حصر السنن لا المستحاضة.

ص: 260

و مثل هذا التوهّم ما ذكره جمال الملّة في حاشية الروضة في ذات السنة الثانية حيث جعلها في المرسلة لمن كانت لها أيّام متقدمة ثم اختلط عليها من طول الدم و زادت و نقصت حتى أغفلت عددها و موضعها من الشهر فتوهّم- قدّس سرّه- أنّ المراد بها المضطربة بالمعنى الأخص لا الناسية و أنّ المراد بقوله- عليه السّلام-:

أغفلت، تركت لا نسيت.

و فيه: أنّه لا يلائم مع قوله- عليه السّلام-: «السنّة في الحيض أن تكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيّام الحيض إذا عرفت حيضا كلّه إن كان الدم أسود أو غير ذلك فهذا يبيّن لك أنّ قليل الدم و كثيره أيام الحيض حيض كلّه إذا كانت الأيّام معلومة، فإذا جهلت الأيّام و عددها احتاجت إلخ» فإنّ المراد بأيّام الحيض في قوله: «الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض» أيّام العادة فتكون هي المراد بالأيام في قوله: «فإذا جهلت الأيام» و لا يخفى أنّ الجهل يحتاج إلى واقع محفوظ، و إرادة عدم العلم بنحو السالبة المنتفية الموضوع خلاف الظاهر جدّا.

نعم قوله- عليه السّلام-: زادت و نقصت، و قوله: تقدّمت و تأخّرت، يناسب إرادة المضطربة لكن دلالة ما ذكرنا على إرادة الناسية أقوى فيراد بالتقدّم و التأخّر و الزيادة و النقصان ما يلائم محفوظية العادة فعلا مع ذهول الذهن عنها لا ما يلازم زوال العادة و متروكيّتها رأسا و كيف كان فلنرجع إلى حكم الأقسام في طي مسائل فنقول:

مسألة: لا إشكال في رجوع المبتدئة بالمعنى الأعم إلى الصفات

و ما توهّمه صاحب الحدائق من اختصاص الصفات بالناسية و انحصار الأمر في المبتدئة بالمعنى الأخص في الرجوع إلى الروايات نظرا إلى المرسلة المتقدمة فيخصّص بها

ص: 261

عموم الروايات الآمرة بالرجوع إلى الصفات بقول مطلق، مدفوع بأنّ قوله- عليه السّلام- في ذيل المرسلة: فإن أطبق الدم عليها و كان الدم على لون واحد و حالة واحدة فسنتها السبع و الثلاث و العشرون، لأنّ قصّتها كقصّة حمنة حين قالت: إنّي أثجّه ثجّا، يدل على أنّ رجوع الناسية إلى الصفات معلّل باختلاف اللون مع عدم العادة و رجوع المبتدئة إلى الروايات معلّل باتحاد اللون مع عدمها، فيعلم من ذلك جريان حكم كل منهما في الأخرى مع جريان علّته فيها كما هو واضح.

ثمّ إنّه لا إشكال في الرجوع إلى التميّز فيما إذا لم يكن المتّصف بصفة الحيض أقل من ثلاث و لا أزيد من العشرة و لا تخلّل الدم الضعيف الأقل من العشرة بين القويّين.

و أمّا مع فقد أحد هذه الأمور الثلاثة فهل المرأة فاقدة التميز و مرجعها عادة النساء أو الروايات مطلقا أو أنّها واجدة التميز في الجملة في جميع تلك الصور؟ قد أفتى بالأوّل في نجاة العباد، و اختار الثاني بعض الأعلام، و محصل ما ذكره أنّه في صورة النقصان عن الثلاثة أو الزيادة على العشرة ترجع في تشخيص المحل إلى التميز و في تشخيص العدد إلى عادة النساء أو الروايات و في صورة تخلّل الضعيف بين القويّين إن أمكن حيضية الجميع، فإن قلنا بأنّ الحكم باستحاضية الضعيف من باب عدم الأمارة على حيضيته تعيّن الحكم بحيضية الكل، إذا الحكم بحيضية القويّين الحافّين أمارة على حيضية الوسط و إن قلنا بأنّه من جهة أماريّة صفة الاستحاضة يحكم على القويّ الأوّل بالحيضية و على الوسط و ما بعده بالاستحاضية للسبق الزماني في الأوّل فلا يعارضه الدم الوسط و الأخير، و هذا مع إمكان حيضية الكل، و أمّا مع عدم الإمكان سواء أمكن جعل بعض الأسود الثاني جزءا من

ص: 262

الحيضة الأولى أم لم يمكن فرجح أوّلا الحكم بحيضية الأسود الأوّل دون ما بعده مطلقا.

فاعترض على نفسه بأنّه غير تام في صورة إمكان جعل بعض الثاني من الحيضية الأولى بناء على القول بأنّ الحكم باستحاضيّة الأصفر من باب عدم الأمارة على الحيضية فإنّ المتعيّن حينئذ القول بحيضية الأوّل و الثاني و ما أمكن جعله حيضا من الثالث.

فأجاب بأنّه يلزم حينئذ من الرجوع إلى الصفة عدمه إذ تندرج المرأة بذلك تحت من رأت الدم على هيئة واحدة مستمرا إلى أن تجاوز العشرة و مرجعها عادة النساء أو الروايات، و على هذا فيتعيّن ما ذكرناه حتى لا يلزم هذا المحذور.

ثمّ رجح ثانيا كون المقام بقسميه من قبيل الخبرين المتعارضين بأن لا يكون السبق الزماني مرجحا في البين، و على هذا فيحكم بأمارية الصفة بحيضية أحد الدمين و يرجع في تشخيصه إلى عادة النساء أو الروايات إن أمكن، و إلّا فإلى المرجّحات الظنّية الموجودة مع أحدهما إن كانت في البين و إلّا فيحكم بالتخيير هذا ما ذكره- قدّس سرّه.

و فيه أوّلا: أنّ ما ذكره في صورتي النقصان عن الثلاثة و الزيادة على العشرة خلاف المستفاد من المرسلة إذ المستفاد منها مرجعية التميز بلا نقيصة عنه و لا زيادة عليه، و مع عدم إمكان ذلك جعلت مرجعها الروايات و لعلّ هذا سرّ ما يظهر من كافة من عدا شيخ الطائفة و كاشف اللثام و سيد الرياض- قدّس أسرارهم- من جعل الصورتين فاقدة التميز رأسا.

و ثانيا: أنّ ما ذكره في صورة تخلّل الضعيف مع إمكان حيضية الكل من

ص: 263

احتمال الحكم بحيضية الأسود الأوّل دون الثاني و الثالث لا وجه له، بل المتعين الحكم بحيضية الكل كما أفتى به شيخنا المرتضى و الميرزا الشيرازي- قدّس سرّهما- فانّ الظاهر أنّ الحكم باستحاضيّة الدم عند الإدبار يكون من جهة عدم إقبال الحيض و ظهور صفاته لا من جهة صفات الاستحاضة المقارنة لإدبار الحيض و علائمه.

و ثالثا: أنّ ما ذكره في صورة تخلّل الضعيف مع عدم إمكان جمع الكل في الحيضية من ترجيح السبق الزماني أوّلا ثمّ اختيار التعارض بين الدمين ثانيا و الرجوع إلى المرجّح لو كان و إلّا فالتخيير، فيه أنّ السبق الزماني كيف يكون مرجحا مع واجديّة كل من السابق و اللاحق شرائط الحيضية بحسب الذات.

و أمّا ما ذكره من التخيير فهو حق كما في الجمع بين الأختين لو لا إرجاع المرسلة إلى الروايات.

فإن قلت: كما يقولون في ذات العادة الوقتية فقط بالرجوع من حيث العدد إلى التميز ثم إلى عادة الأهل ثمّ إلى الروايات فما وجه عدم القول به في واجدة التميز الفاقدة فأحد الشروط الثلاثة.

قلت: وجهه أنّ الظاهر من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة و إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلّي»، صورة إمكان الرجوع إلى كلّ من الإقبال و الإدبار بلا زيادة و لا نقصان و من دون لزوم محذور و هو غير متحقّق إلّا مع اجتماع الشرائط الثلاثة و مقتضى التقابل المستفاد من المرسلة بين موردي السنة الثانية و الثالثة أنّ كلّ ما خرج عن مورد الثانية فهو داخل في الثالثة، و لعلّ هذا منشأ فتوى شيخنا المرتضى و من تبعه في الرسالة العملية بذلك.

ص: 264

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ الأسود قوي الأحمر، و الأحمر قوي الأشقر، و هو قوي الأصفر، و هو قوي الأكدر. و لا يخفى أنّ اللازم منه ملاحظة المرتبة في كل واحد من هذه الأصناف فالأشد سوادا قوى أضعفه و هكذا، و الالتزام به مشكل فإنّه و إن كان ملائما مع مقتضى كلمتي الإقبال و الإدبار لكن لا يناسب قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «دم الحيض أسود يعرف» لاندراج كل من الشديد و الضعيف تحته.

نعم لا يبعد إلحاق الثخانة و النتن ممّا يوجب الظن النوعي بالحيضية دون الظن الشخصي أو مطلق الظن و لو حصل من الرؤيا و نحوها.

ثمّ لا إشكال في حصول العادة بتطابق الشهرين المتواليين في صفة الدم على نسق واحد فتكون هي المرجع في الشهر الثالث و لو خالفت مع التميز و لا يلزم زيادة الفرع على الأصل فإنّ العادة إنّما تحصل من تكرّر التميز لا من نفسه.

فإن قلت: ظاهر أدلّة حصول العادة بالمرتين هو المرتان المستويتان في الأخذ و الانقطاع و هما مفقودان مع استمرار الدم.

قلت: فيلزم عدم حصول العادة و لو مع القطع الوجداني بالحيض و تطابق الشهرين فيه مع الاستمرار و هو مخالف لقوله- عليه السّلام-: حتى توالى عليها حيضتان إلخ.

مسألة: لا إشكال في أنّه مع عدم التميّز ترجع المبتدئة بالمعنى الأعم إلى عادة أهلها

اشارة

لو كانت لقوله- عليه السّلام- في مضمرة سماعة بعد السؤال عن جارية حاضت أوّل حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر و هي لا تعرف أيّام أقرائها؟ فقال- عليه السّلام-: أقراؤها مثل أقراء نسائها فإن كنّ نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة

ص: 265

و أقلّه ثلاثة. (1)

و موثقة زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها ثمّ تستظهر على ذلك بيوم. (2)

و قوله- عليه السّلام- في رواية أبي بصير: النفساء إن كانت لا تعرف أيّام نفاسها فابتليت جلست مثل أيّام أمّها أو أختها أو خالتها و استظهرت بثلثي ذلك. (3)

و على هذا فيجب تقييد المرسلة المتقدمة الآمرة بالرجوع إلى الروايات بصورة فقدان الأهل أو اختلافهنّ في العادة كما أنّ الرجوع إلى الأهل مرتّب على التميّز فإنّ التميز كالعادة أمارة على معرفة الحيض و عادة الأهل جعلت أمارة لمن لا أمارة لها على معرفة الحيض فسائر الأمارات مقدمة عليها و هي مقدّمة على الروايات التي هي بمنزلة الأصل العملي، و لا يعتبر اتّحاد البلد كما لا يعتبر اتّحاد المأكل و الملبس و المسكن للإطلاق، و لا فرق بين كون الانتساب من الطرفين أو من طرف واحد.

نعم لا عبرة بالقرابة السببية كما هو واضح، و لا إشكال في الاعتبار بعادة الأهل في العدد فإنّه المتيقّن من النص، و أمّا من حيث الوقت فمحل إشكال لمكان قوله: فإن كنّ مختلفات فأكثر جلوسها عشرة و أقلّه ثلاثة، و قوله: استظهرت بيوم و لا أقلّ من الشك، فالمرجع إطلاق المرسلة لكون الشبهة مفهومية.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث جزم بدخول العادة


1- الوسائل: باب 8، من أبواب الحيض، ح 2.
2- المصدر نفسه: ح 1.
3- المصدر نفسه: ب 3، من أبواب النفاس، ح 20.

ص: 266

الوقتية العددية معا، و العددية فقط في مورد النص و تردد في الوقتية فقط، مع أنّ اللازم من اختصاص النص بالقسمين الأوّلين اجتماع اللحاظين فإنّ العدد إن كان ملحوظا على وجه التقييد بالوقت اختص بالقسم الأوّل و إن لو حظ على وجه الإطلاق اختص بالثاني.

و أعجب من ذلك احتماله الأخذ بالقدر المشترك بين العدد الزائد و الناقص، مع أنّه مخالفة صريحة لقوله- عليه السّلام-: فإن كنّ مختلفات إلخ.

و من هنا لا محيص عن حمل الروايتين الأخيرتين الآمرتين بالرجوع إلى البعض أو إلى الأم أو الأخت أو الخالة على صورة حصول الظن من ذلك بموافقة البقية و إن كان فرضا نادرا، بل نفس حصول الاتفاق من الكل بحيث كان الخارج عنه معدوما أو بحكمه، و حصول الاطّلاع عليه جزما أو ظنّا أمر نادر الوقوع.

و بهذا يرتفع التهافت بين أخبار المسألة و بين المرسلة الدالة على حصر السنن في الثلاثة التي ليس الرجوع إلى الأهل من أحدها فإنّ الحصر المذكور مستقيم مع الندرة المذكورة، و يندفع ما ربّما يتوهم في المقام من كون التعارض بين الطائفتين على وجه التباين فلا محيص عن الرجوع إلى المرجّحات السندية و هي مع المرسلة، لأنّ المرسل و هو يونس بن عبد الرحمن من أصحاب الإجماع إذ فيه أنّ ذلك إنّما يلزم لو حملنا الروايتين على مرجعية البعض في مرحلة الثبوت أو في مرحلة الإثبات و لكن بنحو الكاشفية التعبدية، و أمّا لو حملناهما على الكشف الظنّي فلا.

ثمّ لا فرق بين الأحياء و الأموات من الطبقة الأولى.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث اعتبر في الأحياء حصول العلم بالاتّفاق و لو بالرجوع إلى البعض و اكتفى في الأموات بعدم العلم بالمخالفة و لم يعلم وجه الفرق.

ص: 267

تتميم: نسب إلى المشهور اعتبار عادة الأقران إمّا في عرض عادة الأهل و إمّا في طوله

و لم يعلم له وجه سوى دعوى كونه أمارة ظنية على تشخيص حيض المرأة أو دعوى كون الأقران مندرجة تحت عنوان نسائها على نحو الظهور الطولي، و في كلتا الدعويين ما لا يخفى، إذ لا دليل على حجية مطلق الظن لا من دليل الانسداد و لا غيره، و اللازم من الأخذ بالظهور الطولي المذكور الاعتبار بعادة أهل البلد مع فقد الأقران و لا قائل به.

مسألة: لو فقد الأهل أو كنّ مختلفات أو تعذّر العلم بحالهنّ فلا إشكال في رجوع المبتدئة بالمعنى الأعم إلى العدد

المذكور في الروايات، و إنّما الإشكال في تعيين ذلك العدد، فقيل: إنّه السبع في كل شهر معينا، و قد اختاره السيد الأصفهاني- قدّس سرّه- في وسيلته و تعليقته على العروة، نظرا إلى أنّه العدد المصرّح به في غير موضع من المرسلة، و في موضع واحد منها و إن صرّح بالست مردّدا بينه و بين السبع لكن لم يعلم كون الترديد من الإمام أو الراوي، فالقدر المتيقن هو السبع و حيث صرّح فيها بأنّ أقصى حيضها السبع و أقصى طهرا الثلاث و العشرون فقد نفى صريحا ما عداه من الأعداد من الفوق و التحت، فلا جمع عرفي بينها و بين الأخبار المثبتة لسائر الأعداد فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات و هي مع المرسلة لكونها متلقّاة بالقبول بين الأصحاب مع كون مرسلها من أصحاب الإجماع. و فيه أنّ الظاهر كون الترديد من الإمام لأنّ مقتضى الأصل العقلائي كون صورة ما نقله الناقل بجميع الخصوصيات مسموعة له بدون وقوع سهو منه أو اشتباه، و أمّا ما ذكر من عدم الجمع العرفي ففيه: أنّ الّذي يسهل

ص: 268

الخطب وقوع هذا التهافت في نفس المرسلة بناء على ما ذكرنا من ظهور كون الترديد من الإمام فما يكون الجواب عنه يكون بعينه جوابا عن التهافت الواقع بينه و بين سائر الأخبار، و حاصل الجواب في المقامين أنّ الأقصائية المذكورة مختصة بالمرأة التي اختارت العدد المذكور، فمن اختارت التحيّض بالسبع كان أقصى طهرها الثلاث و العشرين، و من اختارت التحيّض بغيره كان أقصى طهرها ما يناسب ذلك. و إذن فالحق وجود الجمع العرفي و قد اختلفت الأنظار في تعيينه.

فقيل: إنّ مقتضى الجمع هو التخيير بين الست و السبع و الثلاث في كل شهر و قد اختاره في العروة الوثقى و قرّره بعض المحشّين- قدّس سرّهم- نظرا إلى أنّه مقتضى الجمع بين المرسلة و موثقتي ابن بكير.

إحداهما: في المرأة إذا رأت الدم في أوّل حيضها فاستمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيّام ثمّ تصلي عشرين يوما، فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيّام و صلّت سبعة و عشرين يوما (1).

و الأخرى «في الجارية، أوّل ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون مستحاضة إنّها تنتظر بالصلاة فلا تصلي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض فإذا مضى ذلك و هو عشرة أيّام فعلت ما تفعله المستحاضة ثمّ صلّت فمكثت تصلّي بقية شهرها ثمّ تترك الصلاة في المرّة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة و تجلس أقل ما يكون من الطمث و هو ثلاثة أيّام، و فإن دام عليها الحيض صلّت في وقت الصلاة الّتي صلّت و جعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر و تركها الصلاة أقل ما يكون من الحيض» (2)، فإنّ الظاهر من هاتين الموثقتين كون العشرة وظيفة للشهر


1- الوسائل: باب 8، من أبواب الحيض، ح 6.
2- الوسائل: باب 8، من أبواب الحيض، ح 5.

ص: 269

الأوّل خاصة و كون الثلاثة وظيفة لبقية الشهور، و إن بلغت ما بلغت و لا سيما الرواية الثانية لقوله- عليه السّلام- فيها: فإن دام عليها الحيض صلّت في وقت الصلاة الّتي صلّت إلخ. الظاهر في سبق هذه الكيفية لها، و لا يتحقق ذلك إلّا في المرة الثالثة.

و قوله- عليه السّلام-: و جعلت تركها الصلاة أقلّ ما يكون من الحيض لوجوب حمله على المرّة الثالثة لئلّا يلزم التكرار.

و على هذا فالظاهر أنّ العشرة في الشهر الأوّل أيضا من باب التحيّض الظاهري لاحتمال الانقطاع على العشر فما دونه، و إلّا فالوظيفة الواقعية فيه كسائر الشهور هو الثلاثة. و على هذا المعنى يحمل مقطوعة سماعة (1) المتقدمة في عادة الأهل، فإن كنّ مختلفات فأكثر جلوسها عشرة و أقلّه ثلاثة، و رواية الخزاز عن الكاظم- عليه السّلام- في المستحاضة كيف تصنع إذا رأت الدم و إذا رأت الصفرة و لم تدع الصلاة؟ فقال- عليه السّلام-: أقلّ الحيض ثلاثة و أكثره عشرة و تجمع بين الصلاتين (2).

و فيه أنّ حمل المقطوعة و رواية الخزاز على عشرة التحيض في خصوص الشهر الأوّل خلاف الظاهر جدا، فإنّ الموضوع المذكور في صدر المقطوعة هو المرأة الّتي دام دمها ثلاثة أشهر، كما أنّ الموضوع في رواية الخزاز هو المستحاضة و هو بقول مطلق يشمل من استمر بها الدم أشهرا متمادية أو سنين، و لهذا ذهب بعض الأعلام- قدّس سرّه- إلى وجه جمع آخر و هو حمل المقطوعة و الرواية على الاجزاء و الموثقتين و المرسلة على الفضل و الاستحباب بمعنى أنّ المستحاضة يجزيها اختيار


1- الوسائل: باب 8، من أبواب الحيض، ح 2.
2- الوسائل: باب 8، من أبواب الحيض، ح 4.

ص: 270

أي عدد شاءت من الثلاثة أو العشرة و ما بينهما لكن يستحب لها اختيار السبع أو الست أو الثلاثة في كل شهر.

و فيه: أنّه خلاف ما استقرّ عليه ديدنهم في أمثال المقام من حمل المطلق على المقيد و التصرف في مادة المطلق لا حمل المقيد على المطلق و التصرف في هيئة المقيد، و عليه هذا فالوجه في مقام الجمع أن يقال: أنّه يتصرف أوّلا في الموثقتين بقرينة المقطوعة و الرواية، فيحملان على جعل الشهور شهرين شهرين و جعل العشرة في أحدهما و الثلاثة في الآخر، ثمّ يتصرّف في إطلاق المقطوعة و الرواية فتحملان على مفادي المرسلة و الموثقتين، فإنّ المقطوعة تدل بإطلاقها على جواز اختيار الثلاثة و العشرة تخييرا في شهر واحد و على جواز اختيار أحدهما في شهر و الآخر في شهر آخر، و كذا تدل بإطلاقها على جواز اختيار أيّ عدد شاءت من المراتب المتوسطة بين الثلاثة و العشرة، فمن الحيثية الأولى يقيّد إطلاقها بالموثقتين و من الحيثية الثانية يقيّد بالمرسلة، فيكون المتحصل تخييرها بين الست و السبع في كل شهر و بين الثلاثة في شهر و العشرة في آخر كما ذهب إليه المشهور.

و على هذا فيكون المراد من قوله في الموثقة الثانية: صلّت في وقت الصلاة الّتي صلّت، هو الإشارة إلى تأخير الظهر و المغرب و تعجيل العصر و العشاء لا إلى سبق التطهّر بالسبع و العشرين حتى لا يتحقّق موضوعه إلّا في الشهر الثالث و ما بعده.

و هل يتعيّن عليها وضع العدد في أوّل الشهر أو لها الخيار في أيّ جزء و المراد بالشهر هو المبدوء من أوّل الرؤية دون خصوص الهلالي كما هو واضح الظاهر الأوّل، لكونه المتبادر عرفا من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم في المرسلة: تحيّضي في كل شهر في علم اللّٰه

ص: 271

ستة أيّام أو سبعة أيام ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثة و عشرين يوما أو أربعة و عشرين، فإنّ الظاهر كون التحيّض و التطهّر كليهما مظروفين للشهر مع اعتبار وقوع الثاني عقيب الأوّل كما هو مقتضى العطف بثمّ و لا يخفى عدم تمشّي ذلك إلّا بوقوع سبع التحيض في أوّل الشهر كما هو واضح. هذا مضافا إلى أنّه يجب على المبتدئة بالمعنى الأعم التحيض إلى العشرة في أوّل الرؤية نصّا و إجماعا، و كما مرّ في مسألة وجوب الاستبراء على الحائض، و حينئذ فلا معنى لرفع اليد عن هذا التحيّض الظاهري بعد وقوعه، إذ هو نظير رفع اليد عن إحدى خصال الكفارة بعد إتيانها و تبديل الامتثال و إن كان معقولا لكنّه محتاج إلى دليل خاص و بدونه لا نقول به.

هذا في الدورة الأولى، و مثله الكلام في الأدوار المتأخرة و لو لم نقل بجريان عشرة التحيض الظاهري فيها و اختصاصه الدورة الأولى كما هو الظاهر من دليله و من أدلّة التميّز، فإنّه بعد تبادر التوالي في الثلاث و العشرين مدة التطهر و تعقبها لسبع التحيض لا يتمشّى ذلك إلّا بوقوع سبع التحيض في أوّل كل دورة من الأدوار اللاحقة.

هذا مع أنّا لو قلنا بإجمال الأدلّة و احتملنا جريان تبديل الامتثال في المقام لكان مقتضى الاشتغال العقلي تعيّن الوضع في الأوّل إذ الأمر حينئذ دائر بين التعيين في الأوّل و التخيير و لا يحتمل تعيّن الوسط أو الآخر، و نحن و إن قلنا بالبراءة في سائر المقامات عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير في المسألة الفقهيّة لا بد أن نقول بالاشتغال في هذا المقام، و ذلك لأنّ التحيّض غير خال عن التشريع و النسبة إلى الشرع فلا يجوز مع الشك و يجب الاقتصار فيه على مورد اليقين.

ص: 272

ثمّ على القول بالتخيير هل لزوجها إلزامها بالوضع في جزء معين؟ الظاهر العدم لأنّ حق الزوج مبني على تقدير طهرها من الحيض، فلها قلب هذا التقدير بضدّه بواسطة اختيار التحيض.

ثمّ لو اختارت عددا في شهر فلا يتعيّن عليها ذلك العدد في الشهر الآخر بل لها الخيار في أوّل كل دورة.

نعم هذا بناء على ما اخترناه من كون التخيير مقتضى الجمع العرفي و أمّا بناء على كونه من باب التخيير بين الخبرين المتعارضين، فالمسألة مبنية على القول بالتخيير الاستمراري في المسألة الأصوليّة و تنقيحه موكول إلى محلّه.

مسألة: لا إشكال في أنّ ذات العادة العددية الوقتية عند الاستمرار ترجع إلى عادتها

اشارة

و لا رجوع لها إلى التميّز لا في صورة المعارضة مع العادة و القول بالتخيير بينهما، فضلا عن ترجيح التميز ضعيف إذ المستفاد من المرسلة اختصاص أمارية التميز بصورة فقدان العادة، بل و لا في صورة عدم المعارضة، إمّا لفصل أقل الطهر بينهما، و إمّا لكونهما معا في ضمن عشرة واحدة، إذ المستفاد من المرسلة أنّه لا سنة لذات العادة غير عادتها و لا مرجعية لإقبال الدم و إدباره في حقّها أصلا.

إنّما الكلام في ذات العادة العددية فقط أو الوقتية كذلك، في أنّ المرجع في غير جهة عادتها، أعني الوقت في الأولى و العدد في الثانية ما ذا؟

و ملخص الكلام في الأولى أنّها تأخذ بالعدد بمقتضى عادتها فإن كان تميز يوافق العدد تأخذ به و إن لم يوافقه أخذت به أيضا لكن مع إكماله من الفاقد في صورة النقيصة و تنقيصه في صورة الزيادة، و إن لم يكن تميّز جعلت العدد في أوّل الدم، لأنّه مقتضى الاشتغال العقلي في الدوران بين التعيين و التخيير في مقامنا كما

ص: 273

تقدم توضيحه في المسألة المتقدمة، و لا رجوع هنا إلى عادة الأهل و لا إلى الروايات أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلعدم استفادة أزيد من مرجعيته في مقام تعيين العدد من دليله كما مرّ في محلّه.

و ملخص الكلام في الثانية أنّها تأخذ من حيث الوقت بمقتضى العادة و أمّا من حيث العدد فإن حصل لها بواسطة تكرر الدم مرارا كثيرة علم أو اطمئنان بقدر جامع بين عددين و أنّه لا يخرج حيضها عمّا بين الأربعة و السبعة مثلا لرؤيته كذلك دائما في مدّة متمادية وجب عليها إعمال قاعدة التميّز و عادة الأهل أو الروايات بنحو الترتيب في ما بين الحدين إن أمكن و إلّا وجب عليها الاحتياط بمراعاة عمل المستحاضة و انقطاع الحيض فربما يجتمع عليها عند إرادة عدم التداخل ثمانية أغسال بل عشرة للزوم إعادة غسل الاستحاضة للعصر و العشاء بملاحظة تخلّل الفصل بين الصلاتين بغسل الحيض و مقدماته و إن لم يحصل لها العلم أو الاطمئنان المذكور وجب عليها إعمال القواعد الثلاث في الوقت المعتاد في ما بين الثلاثة إلى العشرة إذ لا دليل على ثبوت العادة الشرعية بالنسبة إلى العدد المتكرر بين العددين المختلفين كما مرّ توضيحه في محلّه.

فروع:

الأوّل: صاحبة العادة العددية الوقتية لو رأت عددها متقدّما على الوقت أو متأخرا عنه حكم بحيضيته

بل و كذا لو رأت غير عددها كذلك إذا انقطع على العشرة فما دون و أمّا لو تجاوز العشرة في إحدى الصورتين فتجعل عددها في أوّل الدم حيضا مع عدم التميّز و في مورده مع وجوده و الباقي استحاضة كما مرّ

ص: 274

توضيحه في المسألة المتقدمة، و لو رأت عددها في غير الوقت و رأت في الوقت بغير عددها و لم يمكن جمعهما في الحيضية لا استقلالا و لا انضماما مع إمكان حيضية كلّ منهما بانفراده تحقّقت المعارضة بين العادتين و لا وجه لترجيح إحداهما على الأخرى.

و حينئذ فإن وافق أحد الدمين مع التميز أو إحدى الروايات كان هو المقدّم و إلّا فلا بدّ من الاحتياط في كليهما.

هذا هو الكلام في أصل الحيضية و أمّا التحيّض بمجرد الرؤية فإن كان التقدّم و التأخّر على وجه يصدق تعجيل العادة و تأخيرها كما لو كان بيوم أو يومين فلا كلام في تحيضها بمجرّد الرؤية بحكم العادة، و كذا لو كان الدم بصفة الحيض و إلّا فلا تتحيّض إلّا بعد مضي الثلاثة لعدم استقرار الإمكان إلّا بعده كما مرّ توضيحه في محلّه.

الثاني: صاحبة العادة العددية الوقتية لو رأت قبل الوقت و فيه

أو فيه و بعده، أو قبله و فيه و بعده، ففي جميع الصور الثلاث إن انقطع الدم على العشرة فما دونها كان الكل حيضا، و إن تجاوز العشرة كان العادة حيضا و ما عداها سواء كان المتقدّم أم المتأخر أم كليهما استحاضة و هذا واضح.

الثالث: صاحبة العادة العددية سواء كانت وقتية أم لا إذا كانت عادتها في كل شهر مرة

فرأت عددها أو غيره في شهر مرتين مع فصل أقل الطهر كان كل منهما حيضا لعدم القطع أو الاطمئنان بنفي الحيضية في أحدهما و لا ثبوت تعبّد شرعي بذلك، فمقتضى قاعدة الإمكان حيضية كليهما.

نعم هذا مع انقطاع كل منهما على العشرة فما دون مع عدم النقصان عن

ص: 275

الثلاثة و أمّا لو تجاوز أحدهما أو كلاهما عن العشرة مع تخلّل أقل الطهر بينهما فتجعل مقدار العادة في أوّل كل من الدمين حيضا و الباقي استحاضة في صورة عدم التميز و مع وجوده تجعل مقدار العادة في مورده.

مسألة [في حكم الناسية الواجدة للتمييز بأقسامها]

قد عرفت حكم استمرار الدم في المبتدئة بقسميها و في صاحبة العادة بأقسامها.

بقي الكلام في الناسية فنقول: لا إشكال في رجوعها إلى التميز لو كان سواء كانت ناسية للوقت و العدد معا أو لأحدهما فقط، غاية الأمر أنّها ترجع إلى التميّز في الأولى لتشخيص كلا الأمرين، و في الثانية لتشخيص خصوص ما جهلته منهما دون ما كان معلوما.

فلو ذكرت الوقت فقط و لا محالة يكون تذكره إجمالا إمّا بأوّله أو وسطه أو آخره لعدم تعقّل نسيان العدد مع ذكره تفصيلا تتحيّض في أيّامها المعلومة و إن كانت فاقدة و إنّما ترجع إلى التميز في الأيّام المشكوكة.

و لو ذكرت العدد فقط فإن وافق التميز عددها فهو و إلّا وجب إكماله من الفاقد في صورة النقيصة و تنقيصه بقدر ما يوافق عددها في صورة الزيادة.

و لو ذكرت أنّ عادتها المنسية لم تكن في الشهر أزيد من مرّة واحدة فرأت التميز في شهر مرّتين أو ثلاثا تحيضت بالجميع إلّا إذا علمت أو اطمأنّت من الاعتياد في المرّات الكثيرة، نفي حيضية ما زاد عن المرّة الواحدة كما مرّ مثل ذلك في صاحبة العادة الذاكرة لها.

و العجب من بعض الأعلام حيث يظهر منه الفرق بين المقامين و لم يظهر له وجه.

ص: 276

و الدليل على رجوع الناسية إلى التميّز: مرسلة يونس سواء قلنا بأنّ مورد السنة الثانية فيها من كانت له عادة سابقة ثمّ زالت أو من كان له عادة ثم نسيتها، أمّا على الثاني فواضح، و أمّا على الأوّل فلأنّ المستفاد منها أنّ علّة الرجوع إلى التميز عدم إمكان الرجوع إلى العادة من غير فرق بين كونه لأجل فقد العادة ثبوتا أو لأجل فقدها إثباتا مع تحقّقها ثبوتا.

ثمّ لا إشكال في تحيّضها بمجرّد رؤية الدم المتّصف من غير حاجة إلى انتظار الثلاثة، فإنّ الاعتماد على أمارية الصفة دون قاعدة الإمكان حتى تحتاج إلى إحراز استقراره بمضيّ الثلاثة و هو واضح.

مسألة [في حكم الفاقدة للتمييز بأقسامها]

قد عرفت الحال في الناسية الواجدة للتميز بأقسامها و بقي الكلام فيها في صورة فقد التميز، و لنتكلم في هذه المسألة في الناسية للوقت الحافظة للعدد.

و ليعلم أوّلا أنّ العدد المحفوظ: تارة يكون ضالا في جملة لا يكون ذلك العدد أزيد من نصف تلك الجملة سواء ساواه أم كان أنقص كالخمسة أو الأربعة في جملة العشرة فإنّ الخمسة مساوية لنصف العشرة و الأربعة أنقص منه.

و أخرى يكون أزيد من نصف الجملة المذكورة كالستة في العشرة فإنّ الستة أزيد من نصف العشرة و هو الخمسة بواحد و لا يخفى أنّه في الصورة الثانية يكون هنا يقين حيض بتلك الزيادة و ضعفها، ففي المثال المذكور يكون الخامس و السادس حيضا بيقين و على هذا القياس سائر الأمثلة، فالكلام في مسألتنا ممحض في حال المرأة بالنسبة إلى أيّامها المشكوكة و هي جميع أيّام الجملة التي وقع فيها الضلال في الصورة الأولى و ما قبل المقدار المتيقن و ما بعده في الصورة الثانية.

ص: 277

إذا عرفت ذلك فنقول: في المسألة أقوال خمسة: الأوّل: ما حكي عن شيخ الطائفة- قدّس سرّه- من وجوب الاحتياط عليها في جميع الأيّام المشكوكة للعلم الإجمالي في كل يوم يوم منها يتوجه التكليف إليها إمّا بأفعال المستحاضة و إمّا بتروك الحائض، و بهذا التقريب يندفع الإشكال بأنّ العلم الإجمالي في الأمور التدريجية غير مؤثر في التنجيز مضافا إلى فساد الإشكال من أصله كما قرر في محلّه، فإنّ الإشكال إنّما يتوجه على تقدير تقريبه بالعلم الإجمالي بوجود حيض إمّا في اليوم الحاضر و إمّا في أحد الأيّام الآتية و أمّا على ما ذكرنا، فلا موقع للإشكال كما هو واضح.

كما أنّ الإشكال باستلزام الاحتياط المذكور للعسر مدفوع بعد الغضّ عن ابتنائه على جريان دليل الحرج في الأحكام العقلية و الغضّ عن عدم وروده في من لم يتحقّق في حقّه عسر أصلا إلّا على تقدير اعتبار الحرج بالإضافة إلى النوع و هو خلاف التحقيق بأنّ غاية الأمر سقوط الاحتياط في ما فيه الحرج كترك الوطي دائما مثلا و هو غير موجب لسقوطه فيما لا حرج فيه كترك قراءة العزائم و ترك دخول المسجدين و لبث سائر المساجد دائما. لكن يرد على القول بإيجاب الاحتياط:

أوّلا: أنّه مبني على القول بحرمة العبادات في حقّ الحائض تشريعا، و أمّا على القول بحرمتها ذاتا فهو و إن كان تامّا في العبادات المستحبة و عامة التروك، و لكنّه غير تام في العبادات الواجبة فإنّ الأمر فيها دائر بين الوجوب و الحرمة و حكم العقل في مثله التخيير بين الفعل و الترك، و حيث إنّ الترك في جميع أيّام الشهر و كذا الترك في يوم و الفعل في آخر خلاف الإجماع و الضرورة، فلا يبقى إلّا جواز الترك بمقدار العدد و في أيّ موضع شاءت من الشهر و اختيار الفعل في بقية الشهر

ص: 278

خروجا عن مخالفة الإجماع و الضرورة.

بل يمكن تطبيق هذا على القاعدة أيضا بأن يقال: إنّ التكليف الظاهري بالتحيّض في عدّة أيّام من الشهر و التطهر في بقيّته الثابت في الشريعة في حق المبتدئة و من لم يستقر لها عادة في الوقت مع ثبوت العادة في العدد محتمل الثبوت في الناسية التي هي محل كلامنا قطعا و حينئذ فإذا اختارت ترك العبادة في اليوم الأوّل من الشهر فأمرها في اليوم الثاني دائر بين جواز كل من الفعل و الترك لو لم يكن التكليف المذكور ثابتا في حقها، و بين تعيين الترك على تقدير ثبوته فيكون الترك خارجا عن التحيّر الّذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير، و هكذا الكلام إلى أن ينقضي عددها، فإذا انقضى انعكس الأمر كما انّها إذا اختارت فعل العبادة من أوّل الشهر إلى أن بقي من الشهر مقدار عددها تعيّن حينئذ اختيار الترك لعين التقريب المذكور.

و ثانيا: أنّ إيجاب الاحتياط اجتهاد في مقابل النص، فإنّ المستفاد من مرسلة يونس الطويلة أنّ جميع أحكام المستحاضة منحصر في السنن الثلاث، و لا شك أنّ الناسية المذكورة من أقسام المستحاضة كما لا شبهة في أنّ مرجعها ليس هو السنّة الأولى و لا الثانية فانحصر أمرها في الثالثة، و لا شبهة في عدم مرجعية خصوص عدد الست و السبع مطلقا في حقها، فانحصر الأمر في أن يكون المرجع لها عددها المحفوظ لها إمّا مخيرة في وضعه في أيّ موضع من الشهر أو مع تعيين وضعه في الأول مع التطهر في بقية الشهر.

و يؤيد ما ذكرنا ملاحظة حال من لم يستقر لها عادة في الوقت مع ثبوت العادة في العدد فإنّ مجرد تحقّق العادة في الوقت في مرحلة الثبوت مع عدم الطريق

ص: 279

إلى معرفتها إثباتا في ما نحن فيه ليس إلّا كمجرّد تحقق أصل الحيضية في مرحلة الثبوت مع عدم الطريق إلى معرفتها إثباتا في المرأة المذكورة، و كذا ملاحظة الحال في النّاسية الّتي لم تحفظ شيئا من عددها و وقتها فإنّ معلومية العدد في ما نحن فيه لا تجعلها أسوأ حالا من المرأة المذكورة.

القول الثاني: ما ذهب إليه الأكثر بل المشهور من الرجوع إلى العدد المحفوظ مخيرة في وضعه في أيّ موضع من الشهر شاءت، و مستنده إمّا القاعدة العقلية المشار إليها بناء على الحرمة الذاتية و إمّا المرسلة المذكورة بالتقريب الذي مرّ مع استفادة التخيير منها.

و القول الثالث: ما ذهب إليه الشهيد- قدّس سرّه- في الذكرى و البيان من ملاحظة الأمارات الظنية في تعيين الوقت أوّلا ثمّ الرجوع إلى التخيير المذكور و مستنده في التخيير ما ذكر و في تعيين العمل بالظنّ أوّلا أنّ المستند في التخيير إن كان القاعدة العقلية، فلا يخفى أنّ حكم العقل بالتخيير يكون بمناط قبح الترجيح بلا مرجح و مع وجود الأمارة الظنية يرتفع المناط المذكور و إن كان المرسلة المذكورة فأوّلا لا نسلّم دلالتها على التخيير، بل هي مجملة من هذا الحيث و على تقدير دلالتها فلا إطلاق لها بالنسبة إلى مورد وجود الظن.

القول الرابع: و هو الأقوى ما ذهب إليه كاشف اللثام من الرجوع إلى العدد معينا لوضعه في أوّل الشهر من دون ملاحظة الأمارة الظنية أمّا التعيين في الأوّل فلدلالة المرسلة المذكورة عليه و قد تقدّم تقريب دلالتها في مسألة المبتدئة فراجع، مضافا إلى أنّه يجب على الناسية المذكورة التحيّض في أوّل الرؤية إلى العشرة و بعد التجاوز لم يثبت جواز تبديل الامتثال في حقها، فإذا تحقّق هذا في الدورة الأولى

ص: 280

جرى في الأدوار المتأخرة لما يستفاد من النصوص من وجوب تأخّر التطهر عن التحيّض كما مر في مسألة المبتدئة، و أمّا عدم وجوب ملاحظة الظن فلبطلان الدليل العقلي المذكور لبطلان مبناه و هو الحرمة الذاتية كما تقدّم في محلّه، و أمّا المرسلة المتقدمة فمنع إطلاقها في غاية الضعف فإنّها تدل على أنّ المرأة المستحاضة بعد عدم إمكان الرجوع إلى العادة في حقها و استواء أيّامها في الصفات المنصوصة للدم من الحرقة و الحرارة و الدفع و العبيطية و البحرانية و السواد تتحيّض في عدّة أيّام من الشهر إمّا مع التخيير و إمّا مع التعيين في الأوّل، كما مرّ تقويته و تتطهر في البقية من غير فرق بين وجود أمارة نوعية مفيدة للظن في بعض الأيّام كالبين، أو أمارة شخصية مفيدة للظن الشخصي لامرأة شخصيّة و عدمه.

القول الخامس: ما ذهب إليه بعض الأعلام- قدّس سرّه- من مرجعية العدد مع التعيين في الأوّل مع ملاحظة الأمارة الظنية أولا، و قد عرفت قوته في الجزء الأوّل و ضعفه في الثاني.

مسألة: الناسية للعدد الذاكرة للوقت

بنحو الإجمال ليتعقل معه نسيان العدد إذا ذكرت أوّل حيضها فلا إشكال في أنّها تتحيّض بما ذكرته أوّل حيضها و بما بعده ممّا يكمّله ثلاثة قطعا، بل و كذا بما بعد الثلاثة ممّا لا يحتمل نقصان عادتها عنه.

و إنّما الكلام فيما بعد ذلك إلى العشرة من الأيّام المشكوكة المحتمل كونها من عادتها فهل تعمل في جميعها عمل المستحاضة نظرا إلى أصالة العموم في أوامر العبادة و إن كانت الشبهة مصداقية أو إلى قاعدة المقتضي و المانع اللتين قد بيّن في الأصول ضعفها أو تحتاط في الجميع بالجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة

ص: 281

نظرا إلى العلم الإجمالي بتوجه إحدى الوظيفتين إليها في كل يوم.

أو تتحيض في الجميع نظرا إلى استصحاب الحيضيّة و قاعدة الإمكان و إن كان في الأخير أنّ مورد القاعدة مختصّ بما إذا كان العلّة الأخرى محتمل الوجود في الباطن لا مقطوعة و المقام من قبيل الثاني، إذا الفرض اختلاط الحيض بالاستحاضة مع القطع بوجود كليهما إجمالا.

أو ترجع إلى الروايات فتتخير بين الأخذ بالسبعة في كل شهر أو الستة كذلك أو الثلاثة في شهر و العشرة في آخر ما لم تعلم مخالفة إحداها لعادتها و إلّا فلتأخذ بما عداها نظرا إلى مرسلة يونس الطويلة الدالة على التخيير المذكور في موردها و لو بمعونة الدليل الخارجي فإذا بنينا على التعدّي من موردها بالتقريب الذي مرّ في المسألة المتقدّمة فلا بدّ من القول بالتخيير المذكور أيضا في ما تعدينا إليه.

أو تأخذ بخصوص السبعة في كل شهر أو الستة كذلك نظرا إلى أنّ الدليل الخارجي خاص بالمبتدئة فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر المرسلة فيما نحن فيه و لا يلزم من ذلك استعمال الصيغة في معنيين، أعني: التخيير بالنسبة إلى المبتدئة و التعيين بالنسبة إلى الناسية فإنّهما ليسا بمعنيين متباينين فانّ التخيير منتزع من تقييد الصيغة و التعيين من إطلاقها كما بيّن ذلك مشروحا في الأصول.

و الأقوى من الوجوه المذكورة هو الوجه الأخير كما لا يخفى وجهه و لو علمت مخالفة كلا العددين لعددها إجمالا، فهل ترجع إلى استصحاب الحيض أو إلى الأقرب من العددين بالقدر الممكن في طرفي النقيضة و الزيادة؟ لا يبعد الثاني نظرا إلى تصريح المرسلة بأنّ ما فيها من السنن الثلاث وظيفة منحصرة لأقسام

ص: 282

المستحاضة بأسرها بحيث لا تخرج واحدة من أفرادها عن تحت إحدى السنن المذكورة.

و من هنا يعلم الحال في ما لو ذكرت آخر وقتها أو وسطه الحقيقي المحتلف بمتساويين أو غير الحقيقي أو شيئا منه مع عدم العلم بكونه أوّلا أو آخرا أو وسطا، فإنّ الحكم في الجميع هو الأخذ بأحد العددين على وجه يناسب مع ما ذكرته من الآخر و الوسط.

و كذا يعلم الحال في ناسية الوقت و العدد كليهما المسماة بالمتحيّرة و إن اختلفت الأقوال فيها حتى انتهت إلى قريب من عشرين قولا.

ثمّ على تقدير القول بالاحتياط في الناسية فهل تقضي صومها بعد انقضاء شهر رمضان ثلاثة أيّام أو عشرة الذي ذهب إليه القائل بالاحتياط هو الثاني و الذي صرّح به شيخنا المرتضى معترضا على القول المذكور هو الأوّل و لم يعلم وجهه، فإنّ حيضية الزائد عن الثلاثة و إن كانت على سبيل الاحتمال لا القطع لكن وقعت طرفا للعلم الإجمالي فإنّها تعلم إجمالا بأنّ عشرة أيّام من الشهر، إمّا مورد لتوجه وظائف الحيض التي منها قضاء عشرة أيّام من الصوم بعد الشهر، و إمّا مورد لتوجّه وظائف المستحاضة فلا بدّ من الخروج عن عهدة هذا العلم الإجمالي.

مسألة: لا إشكال في انقسام المستحاضة إلى ثلاثة: قليلة و كثيرة و متوسطة

فانّ دمها إمّا يثقب الكرسف و يجاوزه و ينفذه و إمّا لا، و على الأوّل إمّا يسيل منه إلى الخرقة و إمّا لا، فغير الثاقب قليلة، و الثاقب غير السائل متوسطة، و الثاقب السائل كثيرة، و هل يعتبر في المتوسطة انغماس القطنة و استنقاعها من جميع جوانبها بحيث

ص: 283

لو بقي من أحد جوانبها شي ء غير منغمس كانت قليلة أو يكفي الثقب و النفوذ و لو مع عدم الانغماس المذكور المصرّح به في المسالك هو الأوّل، و لكن المتبادر من ألفاظ الثقب و أخواته المذكورة في النصوص هو الثاني، و الغالب و إن كان عدم انفكاك أحد الأمرين عن الآخر لكن المعيار ما جعل موضوعا للحكم منهما و إن انفك عن الآخر و إن كان فرضا نادرا و هذا واضح.

إنّما الكلام في ما ذكروه من الأحكام في هذه الأقسام: فمنها: وجوب تبديل القطنة أو تطهيرها لكل صلاة فريضة أو نافلة في القسم الأوّل، أعني: القليلة.

و استدل عليه بالإجماعات المنقولة في عبائر جملة من أساطين الأصحاب- رضوان اللّٰه عليهم- و بوجوب إزالة النجاسة للصلاة و بالأخبار الدالّة على الوجوب في القسمين الآخرين بضميمة عدم تعقّل الفرق أو عدم القول بالفصل.

و الجواب أمّا عن الأوّل فبأنّ الإجماع محصّله غير حاصل و منقوله غير حجّة مضافا إلى قوّة احتمال استنادهم إلى الوجهين الأخيرين، و لذا نسب إلى المتأخرين الذهاب إلى عدم الوجوب.

و أمّا عن الثاني فبأنّ ما ظهر من القطنة طاهر في هذا القسم بحسب الفرض و ما كان منها باطنا، فحاله حال النواة حيث إنّها ما دامت داخلة في الجوف و إن علم ملاقاتها للقذر غير مانعة عن الصلاة قطعا، و إن كانت بعد الخروج محكومة بالنجاسة احتياطا، و ليست كالدودة المتكونة في الجوف المعلوم ملاقاتها للقذر إذا خرجت غير متلطخة فإنّها محكومة بالطهارة. هذا مضافا إلى أنّ ما نحن فيه من قبيل المحمول الذي لا يتم فيه الصلاة و قد تقرر في محلّه اختيار عدم مانعية نجاسته في الصلاة.

ص: 284

و أمّا عن الثالث، فأوّلا: نمنع دلالة الأخبار على الوجوب في الأصل، أعني:

القسمين الآخرين فكيف الحال في الفرع و هو القسم الأوّل. وجه عدم الدلالة أنّ خبر صفوان منها حيث قال: «هذه مستحاضة تغتسل و تستدخل قطنة بعد قطنة و تجمع بين صلاتين بغسل» (1) و إن كان ظاهرا في لزوم تجديد القطنة و وقوع هذا العمل منها مكرّرا، و بعد القطع بعدم إرادة فعل ذلك مطلقا و تردد الأمر بين إرادته عند كل غسل أو عند كل صلاة كان الثاني أنسب بمعنى التكرار، لكن دلالة الأخبار الأخر على عدم الوجوب أظهر. مثل رواية الجعفي (2): و إن هي لم تر طهرا اغتسلت و احتشت و لا تزال تصلّي بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف.

و مثل صحيحة الصحاف (3) في حديث حيض الحامل- إلى أن قال:- فلتغتسل ثمّ تحتشي و تستذفر و تصلّي الظهر و العصر ثمّ لتنظر، فإن كان الدم فيما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف، فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل، و إن طرحت الكرسف و لم يسل فلتتوضأ و لتصل و لا غسل عليها إلخ.

حيث إنّ ظاهر الأوّل ظهورا قويا إناطة إعادة الكرسف بإعادة الغسل لا بإتيان الصلاة، و ظاهر الثاني كذلك ان اختيار طرح الكرسف بيدها من دون إلزامه عليها.


1- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 3.
2- المصدر نفسه: ح 10 و 7.
3- المصدر نفسه: ح 10 و 7.

ص: 285

و ثانيا: على فرض تمامية الدلالة في الأصل نمنع عدم تعقل الفرق بينه و بين الفرع إذ كما أنّ وجوب الغسل من مختصات الأصل لم لا يجوز أن يكون هذا أيضا كذلك و كفى فارقا ظهور الدم في السطح الظاهر من القطنة في الأصل دون الفرع مضافا إلى إيجابه لتلوّث الخرقة، فمن الممكن أن يكون التبديل لأجل عدم العفو عن هذه النجاسة و إن كانت في المحمول الّذي لا يتم فيه الصلاة.

ثمّ لا يخفى أنّ وجوب الاختبار لا يفيد بحال القائل بوجوب التبديل في القليلة نظرا إلى استلزام إدخال القطنة بعد إخراجها لتلويث ظاهر الفرج مضافا إلى تبادر الطاهرة من دليل استدخال القطنة.

إذ فيه أوّلا: أنّ الحقّ كما يأتي في محلّه إن شاء اللّٰه عدم وجوب الفحص و الاختبار و جواز الرجوع إلى الاحتياط أو الاستصحاب كما هو الحال في عامة الشبهات الموضوعية.

و ثانيا: على فرض القول بالوجوب إنّما نقول به في ما لو احتمل تبدّل الدم من حالة إلى أخرى لا مع القطع بالعدم و وجوب تغيير القطنة على القول به أعمّ من ذلك كما هو واضح.

و من جملة الأحكام الّتي ذكروها في هذا القسم، أعني: القليلة، وجوب الوضوء لكل صلاة كما ذهب إليه جمهور الأصحاب- رضوان اللّٰه عليهم- و خالف فيه العماني و ابن الجنيد.

فذهب الأوّل إلى أنّ الدم في هذا القسم ليس بحدث أصلا فلا يوجب غسلا و لا وضوءا.

و الثاني إلى أنّه موجب في اليوم و الليلة غسلا واحدا مع اشتراكهما في إدراج

ص: 286

المتوسطة في قسم الكثيرة في إيجابها لكل يوم و ليلة أغسالا ثلاثة.

و مستند الأوّل صحيحة زرارة قال قلت له: النفساء متى تصلّي؟ فقال:

تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين فإن انقطع الدم و إلّا اغتسلت و احتشت و استثفرت و صلّت، فإن جاز الدم الكرسف تعصبت و اغتسلت ثمّ صلّت الغداة بغسل و الظهر و العصر بغسل و المغرب و العشاء بغسل و إن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد. قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء، الحديث (1) بناء على حمل الغسل الواحد على غسل النفاس.

و مخالفته للظاهر غني عن البيان مضافا إلى ارتكاب خلاف الظاهر ف حمل جاز و لم يجز على معنى ثقب و لم يثقب.

و مستند الثاني موثقة سماعة المضمرة قال: قال: «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين و للفجر غسلا و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كلّ يوم مرّة و الوضوء لكل صلاة، و إن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل، هذا إذا كان دما عبيطا و إن كان صفرة فعليها الوضوء». (2)

حيث إنّها ظاهرة في أنّ دم الاستحاضة على قسمين ثاقب و غير ثاقب فتجب في الأوّل ثلاثة أغسال و في الثاني غسل واحد فيراد من عدم الجواز في الذيل بقرينة الصدر عدم الثقب و المراد بالوضوء لكل صلاة هو الوضوء المعهود لكل صلاة عند تحقق أسبابه المعهودة، و على هذا فالمراد بقوله: و إن كان صفرة فعليها الوضوء، سلب الأثر عن الصفرة بالمرة و كونها كدم الرعاف و لعلّه يقول به


1- الوسائل: ج 2، باب 1، من أبواب الاستحاضة، ص 605، ح 5.
2- المصدر نفسه: ص 606، ح 6.

ص: 287

ابن الجنيد هذا غاية ما يوجه به الاستدلال بالرواية للقول المذكور.

و لكن فيه أنّ التصرف في الصدر بقرينة الذيل بحمل الثقب على الجواز أولى من العكس، أعني: حمل عدم الجواز على عدم الثقب.

وجه الأولوية أنّ الغالب في الدم الّذي يثقب الحائل الكثيف مثل الكرسف جريانه و تجاوزه عنه فارادة الجواز من الثقب ليس بذلك البعيد، و هذا بخلاف حمل عدم الجواز مع كونه أعم لغة على خصوص فرد منه و هو عدم الثقب.

فإن قلت: على قولكم أيضا يلزم حمله على خصوص فرد منه و هو الثقب.

قلت: نعم و لكن لا نسلّم بعده عرفا، ألا ترى أنّ قولك فلان لم يتجاوز في سيره عن بلدة بغداد، يفهم منه عرفا وصوله إلى تلك البلد، و حمل الكلام على خصوص عدم الوصول إليها بعيد، و على هذا فيراد من قوله: و إن كان صفرة فعليها الوضوء، خصوص غير الثاقب فإنّ الصفرة ملازمة غالبا مع ضعف الدم الملازم مع عدم الثقب، و المراد بالوضوء في هذه الفقرة ما تقدّم ذكره في الفقرة السابقة من الوضوء لكل صلاة، الظاهر في كونه لأجل هذا السبب، و حمله على سائر الأسباب خلاف الظاهر فتنطبق الرواية بتمامها على المذهب المشهور من تثليث أقسام الدم بحسب الكمّيّة قوّة و ضعفا من غير اعتبار بكيفيته و لونه، و هو و إن كان مخالفا للجمود على ظاهر عنواني الدم العبيط و الصفرة لكن يتعين المصير إليه بقرينة سائر الأخبار مثل:

صحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق- عليه السّلام-: و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت و دخلت المسجد و صلّت كل صلاة بوضوء. (1)


1- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 1.

ص: 288

و في موثقة زرارة: و تصلّي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم، فإذا نفذ الدم اغتسلت (1) إلى غير ذلك من الأخبار.

و ممّا ذكرنا ظهر ضعف ما ذكره بعض الأساطين ممّن عاصرناه من تثليث الأقسام بوجه آخر غير ما ذهب إليه المشهور من تقسيم الدم إلى الأحمر و الأصفر، ثمّ تقسيم الأوّل إلى السائل و غير السائل، و الحكم في الأوّل بثلاثة أغسال و في الثاني بغسل واحد و في الأصفر بجميع أقسامه و إن كان سائلا بالوضوء لكل صلاة، و قد ظهر وجه ضعفه ممّا تقدّم فلا حاجة إلى الإطالة.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث إنّه مع اعترافه بظهور الأخبار في المذهب المشهور و تطبيق قوله- عليه السّلام- في صحيحة الصحاف، فإن طرحت الكرسف عنها و سال الدم وجب عليها الغسل على مذهبهم بحمله بقرينة سابقه و لا حقه على إرادة كون السيلان بدرجة متى وضعت الكرسف صبغ الدم سطحه الخارج و لا يسيل عنه و انّه يراد من التحديدات الثلاثة في كلام المشهور هي على تقدير وضع الكرسف لا طرحه كما يراد من وصول الكف إلى الركبة في تحديد الركوع هو على تقدير وضع الكف لا إرساله، عدل عن ذلك. و قال بما حاصله: أنّ المستفاد من قوله- عليه السّلام-: إن طرحت الكرسف و سال الدم وجب الغسل، و قوله في رواية الجعفي: و لا تزال تصلّي بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف. أنّ ظهور دم الاستحاضة من الفرج بلا قطنة أو على السطح الخارج من القطنة معها موجب للغسل، كما يستفاد من قوله: إذا بلت فتوضّأ، انّ خروج البول موجب للوضوء،


1- الوسائل: ج 2، باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 9.

ص: 289

لكن الفرق انّ خروج البول لا فرق بين أنحائه، و لكن يعتبر في دم الاستحاضة أنّ يكون خروجه بنفسه بدليل انّها لو طرحت الكرسف مع عدم تلطّخ سطحه الخارج فظهر تلطخ سطحه الّذي كان باطنا مع عدم خروج الدم بعد الطرح لا يوجب الغسل بنص الرواية، و كما أنّه لو أمكن الاحتفاظ من خروج البول و احتباسه بشدّ رأس الإحليل فلا يضرّ البول المحتبس في المجرى بطهارته بعد الوضوء، كذلك لو أمكن احتباس دم الاستحاضة بحشو الفرج من القطنة بنحو لا يصبغ سطحها الخارج، فلا يضر الدم المحتبس في الجوف و في داخل القطنة بطهارتها بعد الغسل.

نعم هذا إذا أمكن ذلك في مقدار معتد به من الزمان كاف للطهارة و الصلاة، و أمّا لو لم يمكن بحيث متى وضعت القطنة ظهر الدم على سطحها الخارج صبيبا لا يرقى كانت حينئذ كسلس البول، و قد اكتفى الشارع في حقّها في اليوم و الليلة بأغسال ثلاثة.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- معترف بأنّ ظهور الأخبار الدالة على كفاية الغسل الواحد في اليوم و الليلة في خصوص المستحاضة الوسطى مقدّم على الظهور المذكور لو سلمت دلالتها على الخدشة، و لكنّه- قدّس سرّه- رفع اليد عنها لأجل خدشات اختلجت في ذهنه سنذكرها مع دفعها.

فنقول: لا يخفى أنّ دلالة الأخبار على تثليث الأقسام على ما يوافق المشهور ممّا لا سبيل لإنكاره كما اعترف به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إذ هي بين ثلاثة مضامين:

الأوّل: ما رتّب فيه الأغسال الثلاثة على سيلان الدم من الكرسف إلى الخرقة و إن اختلفت في التعبير عن هذا المعنى، فتارة عبّر عنه بسيلان الدم من خلف

ص: 290

الكرسف صبيبا لا يرقى. و أخرى: بصبغ القطنة دم لا ينقطع. و ثالثة: بمجاوزة الدم الكرسف. و رابعة: بثقب الدم إيّاه و المراد بالأخير بحكم الغلبة و قرينة سائر الأخبار هو المجاوزة.

و المضمون الثاني: ما رتّب فيه الغسل في اليوم و الليلة مرّة واحدة على عنوان عدم مجاوزة الدم الكرسف.

و الثالث: ما رتّب فيه عدم الحاجة إلى الغسل أو إثبات الوضوء لكل صلاة على عدم ثقب الدم الكرسف و إن اختلفت في التعبير عن ذلك أيضا، فعبّر عنه تارة بعدم الثقب، و أخرى بعدم النفوذ، و ثالثة بعدم الظهور على الكرسف.

و قد عرفت في ما تقدّم أنّ المراد بعدم المجاوزة في القسم الوسط بحكم التبادر العرفي هو السلب بانتفاء المحمول لا الموضوع فكما يفهم من قولنا: فلان لم يتجاوز بغداد انّه وصل إليها، كذا يفهم من قولنا: لم يتجاوز الدم الكرسف انّه وصل إلى سطحه الظاهر، فالقول بأنّ الحكم بدخول هذا الفرد تحت العموم يحتاج إلى تجشم و تشبّث بذيل أصالة الإطلاق لو لم نقل بالانصراف عنه عجيب، بل ينبغي أن يقال ذلك في عكسه.

و أعجب منه القول بأنّه حمل للمطلق على الفرد النادر. إذ فيه أنّه خلط بين إشباع الدم للسطح الظاهر و بين صبغه له من دون إشباع خصوصا إذا كان لجزء منه لا لتمامه، كما هو الحال في أوائل أمره حيث إنّه تدريجي الحصول، فالذي يندر تخلّفه عن المجاوزة إنما هو القسم الأوّل، و أمّا الثاني خصوصا في أوائل الأمر فتخلّفه عن المجاوزة كثير كما لا يخفى مضافا إلى أنّه لو سلم كونه فردا نادرا، لكن مقتضى التبادر الّذي ذكرنا أنّه من باب التعرض للفرد النادر و ليس هو بعيدا

ص: 291

كحمل المطلق على النادر.

و أعجب منه القول بأنّه لما وقع قولهم- عليهم السلام-: إذا لم يجاوز، مقابلا لقولهم- عليهم السلام-: إذا ثقب الدم الكرسف، فلا بدّ من حمله على قولنا لم يثقب قضية للمقابلة. إذ فيه أنّه بعد حمل قوله- عليه السّلام-: إذا ثقب، بحكم الغلبة و بقرينة سائر الأخبار على قولنا: إذا جاوز فمفروغية الوصول إلى السطح الظاهر في كلتا القضيّتين لا تنافي قضية المقابلة، ألا ترى أنّ مفهوم قولنا: إن كان زيد قائما فكذا، ليس قولنا: إن لم يكن زيد موجودا، بل قولنا: إن لم يكن زيد الموجود بقائم.

و أعجب منه القول بأنّ المعنى الذي ذكرتم للأخبار معارض بمعنى آخر و هو حمل عدم المجاوزة في الطائفة الثانية على عدم الثقب مع اختصاصه بالحمرة مع تخصيص الطائفة الثالثة بالصفرة بقرينة ما في ذيل بعض الطائفة الثانية من قولهم- عليهم السلام-: هذا إذا كان دما عبيطا إلخ.

إذ فيه مضافا إلى عدم مساعدته للفهم العرفي الذي عرفت و إلى أنّ حمل الدم الّذي هو عبارة عمّا يعبّر عنه بالفارسية ب «خون» على الصفرة الّتي هي عبارة عمّا يعبّر عنه فيها ب «خونابه» من البعد بمكان أنّه كفاه إشكالا انّه ممّا لم ينقل القول به من أحد حتى من ابن الجنيد، و إن نقلنا عن بعض الأساطين- قدّس سرّه- آنفا تقويته زاعما أنّه لا وحشة من الانفراد مع مساعدة الدليل و لا يخفى أنّ عدم الوحشة من الانفراد مع مساعدة الدليل إنّما يصح في المسائل العقلية، و أمّا في النقليات، فكفى بالانفراد عيبا و خدشة.

و قد اتّضح ممّا ذكرنا انّه لا يحتاج في تطبيق الأخبار على مذهب المشهور إلى القول بأنّه يستكشف من الفتاوى و من الفقه الرضوي المصرّح بالتثليث المذكور

ص: 292

وجود قرينة موجبة للتأويل في ظواهر الأخبار حتى يرد عليه أنّه ليس بأزيد من ظن خارجي لا يعبأ به و ذلك لما عرفت من كمال مساعدة الفهم العرفي لما ذهبوا إليه، فافهم و استقم.

و حينئذ فالأقوى ما ذهبوا إليه من الفرق بين المتوسطة و الكثيرة باختصاص الأولى بالغسل في اليوم و الليلة مرّة واحدة و الثانية بثلاثة أغسال و أمّا القليلة فليس عليها إلّا الوضوء لكل صلاة.

و هل هو معتبر في كل ركعتين من النافلة أيضا أم يختصّ اعتباره بخصوص الفريضة؟ الظاهر من قوله- عليه السّلام-: «توضأت و دخلت المسجد و صلّت كل صلاة بوضوء» (1) هو الأوّل بعد ملاحظة انّ بناءهم في الصدر الأوّل كان على تفريق الصلوات على الأوقات إدراكا للفضيلة و عدم جمعهم لاثنتين منها في وقت واحد كما جرت عليه العادة في هذه الأعصار.

و حينئذ فلا يضر الانصراف إلى الفريضة في سائر الأخبار لو سلم بعد وجود هذا الظهور في الخبر المذكور كما لا ضير في كون الحكم حرجيا بعد كونه استحبابيّا.

مسألة [لا وجه لاختصاص موجبية الاستحاضة المتوسطة للحدث الأكبر بخصوص صلاة و كونها بالنسبة إلى سائر الصلوات من موجبات الحدث الأصغر]

قد عرفت الكلام في تبديل القطنة، بل و الخرقة في الاستحاضة المتوسطة، و أنّه لا دليل على لزومه لكل صلاة و غاية ما يستفاد من الأدلّة وجوب تبديل القطنة لكل غسل اللّٰهمّ إلّا أن يكون إجماع كما يظهر من بعضهم، كما انّك عرفت أنّ الأقوى في هذا القسم هو الاكتفاء في اليوم و الليلة بالغسل مرّة واحدة، وفاقا للمشهور و خلافا للعماني و ابن الجنيد حيث سوّيا بينه و بين الكثيرة في لزوم ثلاثة أغسال، و إن اختاره صاحب المفاخر و المحقّق في المعتبر و جمع من متأخّري


1- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 1.

ص: 293

المتأخرين، و قد مرّ تضعيفه مفصلا في المسألة المتقدّمة فلا حاجة إلى الإعادة.

ثمّ لا يخفى انّه لا وجه لاختصاص موجبية الوسطى للحدث الأكبر بخصوص صلاة الصبح و كونها بالنسبة إلى سائر الصلوات من موجبات الحدث الأصغر، كما لا وجه لاختصاص موجبيّتها للحدث الأكبر بالنسبة إلى سائر الصلوات بما إذا كان حدوثها في وقت صلاة الصبح و لو بعد فعلها، و إن كان ربما يتراءى من عبائر الفتاوى و الفقه الرضوي الوجه الأوّل، و لكن لا بدّ من حملها على إرادة ما ذكرنا و ذكرهم لخصوص من جهة فرضهم الكلام في مستمرة الدم و ذلك لإطلاق قوله- عليه السّلام- في رواية الجعفي (1): و لا تزال تصلّي بذلك الغسل حتى يظهر على الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف، فإنّه مطلق من كلتا الجهتين المذكورتين و هذا واضح.

و إنّما الإشكال في أنّه لو فرض حدوث المتوسطة قبل العشاء فهل يبقى أثر غسلها لتمام الدورة الّتي أوّلها العشاء و آخرها المغرب أو لا بدّ من تجديد الغسل لغداة الغد. الظاهر من النصوص هو الأوّل، و إن كان ربما يتراءى من عبائرهم الثاني و لكن لا وجه له.

مسألة: لا إشكال في أنّه يجب في قسم الكثيرة علاوة على تغيير القطنة و الخرقة و الوضوء لكل صلاة و الغسل لصلاة الغداة غسلان آخران

أحدهما للظهرين تجمع بينهما، و الآخر للعشاءين كذلك.

إنّما الكلام في تعيين ما هو الميزان لوجوب ثلاثة أغسال، فهل العبرة بتحقّق تلك الحالة في وقت ما و لو مع انقطاعها بعده، أو أنّ العبرة بتحقّقها في وقت


1- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 10.

ص: 294

الصلاة الّتي تغتسل لأجلها فلا عبرة بتحقّقها قبل الوقت.

و لا يخفى أنّ الوجه الأوّل إفراط كما أنّ الثاني تفريط و الحق اختيار وجه ثالث و هو أن يقال أوّلا: إنّ التقادير الثلاثة الموجودة في الأخبار محمولة على الوجود التقديري كما هو الحال في تحديد الركوع و نظائره من الأمثلة العرفية بمعنى أنّ المراد كون قوة الدم بدرجة متى وضعت الكرسف و صبرت بالمقدار المتعارف كان الدم ثاقبا أو غير ثاقب، و على الأوّل سائلا أو غير سائل، ثمّ يعتبر في حدوث حدثية هذا الدم خروجه من الفرج و لو بمقدار رأس إبرة، كما هو الشأن في سائر موجبات الحدث الأصغر و الأكبر. نعم يكفي في بقاء حدثيته استدامته في الباطن على الحالة الكذائية.

و حينئذ فنقول: يكفي خروج الدم و لو قبل الوقت في إيجاب مقتضاه للصلاة الّتي بعدها، و أمّا سائر الصلوات فإن فرض انقطاع الدم ظاهرا و باطنا من حين الشروع في الغسل، إمّا الفترة، أو لبرء، فلا موجب للوضوء أو الغسل بالنسبة إليها، فيعتبر في إيجاب ذلك للصلاة المتأخرة من بقاء الدم بالصفة الكذائيّة و لو في الباطن في أثناء الغسل أو فيه و في ما بعده.

و بعض الأعاظم- قدّس سرّه- أعاد في هذا المقام كلامه الّذي قدّمناه سابقا و قدمنا مخالفته للأدلّة من وجوه، و نقول هاهنا انّه مخالف لكلمات القوم أيضا من وجوه:

الأوّل: إنّه- قدّس سرّه- يكتفي في وجوب الوضوء بمجرّد نزول الدم عن محله الأصلي المسمى بعرق العاذل إلى فضاء الفرج و لو لم يخرج أصلا و هم يعتبرون خروجه و لو بتوسط قطنة و بمقدار رأس إبرة، و كما لا يقال بانت المرأة أو حاضت

ص: 295

أو أمنت إلّا مع خروج هذه الأمور و برزوها في الظاهر، فكذلك الحال في قولنا استحاضت.

الثاني: إنّه- رحمه اللّٰه- يكتفي في وجوب الغسل بمجرد خروج الدم بنفسه عند عدم المانع و لو كان في غاية درجة من الضعف و القلّة و هم يعتبرون بلوغه في القوة إلى حد يثقب الكرسف لو وضعته.

و الثالث: إنّه- قدّس سرّه- لم يفرق بين المتوسطة و الكثيرة، بل جعل الأولى مع أخفيّتها أشد حالا من الثانية مع أشدّيّتها لأنّه أوجب في الأولى خمسة أغسال فجعل لكل صلاة غسلا لو ظهر الدم على الكرسف كذلك و اكتفى في الثانية بثلاثة أغسال.

و الرابع: إنّه- قدّس سرّه- يكتفي في عدم إيجاب الغسل بالتحفّظ من خروج الدم و لو كان في غاية درجة من القوة و الشدّة بأيّ وسيلة أمكنت ما لم تصل إلى حدّ العسر و الحرج و لو بوضع القطنة الملبّدة و نحوها ممّا يؤمن معه من نفوذ الدم، و هم يكتفون في إيجاب الغسل بمجرد كون قوّة الدم بدرجة لو وضعت القطنة المتعارفة الغير الملبّدة و لا المندوفة كان الدم نافذا امّا مع السيلان أو بدونه.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- معترف بمخالفة كلامه لكلامهم لكن استراح بموافقة كلامه للاحتياط مع أنّه من الجهة الأخيرة مخالف للاحتياط أيضا كما هو واضح.

مسألة [في وجوب الوضوء لكل صلاة في الاستحاضة المتوسطة و الكثيرة]

قد عرفت في ما تقدّم وجوب الوضوء لكل صلاة في الاستحاضة القليلة لدلالة الأخبار المعتبرة، بقي الكلام من هذه الجهة في المتوسطة و الكثيرة.

و ملخص الكلام في الأولى أنّه لا خلاف في وجوب الوضوء فيها بالنسبة إلى بقية الصلوات غير الغداة و أمّا فيها فذهب بعضهم إلى الوجوب و آخر إلى الاجتزاء

ص: 296

بالغسل.

و الأقوى الأوّل لا لما قيل من أنّ حدّي التوسط و الكثرة أبدا مسبوقان بالقلّة الّتي هي موجبة للوضوء، لأنّ القلّة عبارة عن كينونة الدم في باطن الفرج بعد نزوله عن محله الأصلي، و مقتضى القاعدة في مثل المقام من المسببين المتخالفين في الحقيقة عدم التداخل و إن قلنا بالتداخل في المتوافقين، و ذلك لما مرّ من أنّه يعتبر في حدوث الاستحاضة و لو كانت قليلة من خروج الدم في ابتداء الأمر و لو بمقدار رأس إبرة كما هو الحال في مادتي الحيض و الأمناء.

فإن قلت: هذا تقييد منك في قولهم- عليهم السلام- في مقام تعيين ميزان القلّة:

«إذا لم ينفذ الدم القطنة وجب الوضوء».

قلت: بعد تسليم الظهور المذكور في مادة الاستحاضة، فالقول المذكور ليس تحديدا مطلقا، بل مقصورا على تعيين مرتبة الدم، فكأنّه قيل الدم البالغ بحدّ عدم الثقب يكون بخروجه موجبا للحدث الأصغر.

لا يقال: على قولكم أيضا لا محالة يكون الحدّان مسبوقين أبدا بالقلّة و ذلك لكونهما تدريجيّين في الحصول فلا يصل بحد الثقب بلا سيلان إلّا بعد وصوله إلى حدّ عدم الثقب كما لا تصل إلى الثقب مع السيلان إلّا بعد وصوله إلى الثقب بدونه.

لأنّا نقول: كلّا بل نفس شأنية الوصول إلى الحدّين من أوّل الأمر كافية في اتّصاف الدم من الأوّل بالتوسط و الكثرة و عدم اتّصافه بالقلّة، بل الوجه في قوّة القول بالوجوب روايتا (1) سماعة المتقدمتان المصرّحتان في المتوسطة بإثبات الغسل


1- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 6، و باب 1 من أبواب الجنابة، ح 3.

ص: 297

في كل يوم مرّة و الوضوء لكل صلاة.

فإن قلت: قوله- عليه السّلام-: في رواية الصحاف: فإن طرحت الكرسف و سال الدم وجب عليها الغسل، و قوله في موثقة زرارة: فإذا نفذ الدم اغتسلت، و في رواية الجعفي: و لا تزال تصلّي بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف، و في رواية البصري: فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل ثم تضع كرسفا آخر ثمّ تصلّي مع كونها مطلقات كثيرة واردة في مقام البيان يشكل رفع اليد عنها بالموثقتين، بل المتعيّن حمل المطلقات على صورة اتّصال الغسل بالصلاة كما هي ظاهرها و الموثقتين على صورة الانفصال كما لا يبعد فيهما، فإنّ شمولهما لصورة الاتصال إنّما هو بأصالة الإطلاق فيمكن رفع اليد عنها لظهور تلك المطلقات.

قلت: نمنع ظهور المطلقات المذكورة في الاتصال و الموثقتين في الإطلاق، بل كل منهما مطلق من كلتا الجهتين، و حينئذ فلا بدّ من معاملة المطلق و المقيد بينهما، و مقتضى القاعدة تقديم إطلاق المقيد على إطلاق المطلق، و لا مانع من جهة كثرة المطلقات كما له نظائر كثيرة في الفقه.

و ملخّص الكلام في الثانية أنّ الأقوال فيها ثلاثة: الأوّل وجوب الوضوء لكل صلاة، و الثاني عدم كذلك، و الثالث وجوبه مع كل غسل، و رواية الباب منحصرة في قوله- عليه السّلام- في مرسلة يونس الطويلة: فلتدع الصلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل و تتوضأ لكل صلاة، قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب، و الإنصاف أنّ دلالتها على إثبات الوضوء لكل صلاة في الاستحاضة الكثيرة غير قابلة للإنكار.

نعم لو حملنا الاغتسال فيها على غسل الحيض تمّت دلالتها على الوجوب

ص: 298

أيضا، و إن حملناه على غسل الاستحاضة كما لعلّه الظاهر لكونه أحوج إلى البيان من الوضوء، فإن جعلنا الظرف، أعني قوله: لكل صلاة، متعلقا بخصوص الفعل الثاني، فكذلك تمّت دلالتها على الوجوب، و إن جعلناه متعلّقا بكلا الفعلين، كما لعلّه الظاهر في نظائره مثل قولك: سلّم و أعط درهما لكل من هؤلاء، فحيث إنّ الأمر بالغسل حينئذ لا بد من حمله على الاستحباب فحمل الأمر بالوضوء على الوجوب مع وقوعه في سياقه مشكل، بل إتيان الوضوء في ما بين صلاتي الظهر و العصر و في ما بين المغرب و العشاء خلاف الاحتياط لمنافاته الفورية المعتبرة في ما بين الصلاتين. نعم لا بأس بإتيانه في أثناء الإقامة إلّا أن يقال باشتراطها بالطهارة.

و لكن الإنصاف تمامية دلالة الرواية على الوجوب، فإنّ الظاهر أنّها في مقام أصل إثبات الصلاة بعد انقضاء العادة في حقّ المستحاضة قبالا لتركها في أيّامها مع الإشارة إلى الوظيفة المشتركة بين الأقسام الثلاثة و إحالة الوظائف الخاصة إلى محالّها، فالمراد بالاغتسال غسل الحيض.

و دعوى ظهور الأخبار المطلقة الواردة في هذا القسم، أعني: الكثيرة، الخالية عن ذكر الوضوء في صورة الاتّصال، كذيل رواية الصحاف و ما ورد في قصّة حمنة من مرسلة يونس الطويلة، و ذيل رواية البصري، و مصحّحة أبي بصير، و رواية ابن مسلم فتحمل هذه الرواية على صورة الانفصال بقرينتها إن قلنا بإطلاقها، و إن قلنا بإهمالها من هذه الجهة فالأمر أوضح يعلم جوابها ممّا مرّ في المتوسطة.

و ليعلم انّ الكلام في مسألتنا غير مبتن على الكلام في المسألة العامة، أعني:

إغناء كل غسل عن الوضوء و عدمه في غير غسل الجنابة، و ذلك لإمكان القول بعدم الإغناء في تلك المسألة و القول بعدم الوجوب هاهنا لعدم وفاء الأدلة بإثبات

ص: 299

كون الاستحاضة الكثيرة من موجبات الحدث الأصغر، و من المعلوم أنّ القول بعدم الإغناء في تلك المسألة غير واف بإثبات المقتضي و كذا إمكان القول هناك بالإغناء و هنا بالوجوب، نظر إلى أنّ الإغناء لو قلنا به إنّما هو بالنسبة إلى الوضوء الّذي أوجبه السبب المتقدم على الغسل لا ما قارنه أو تأخّر عنه.

هذا على تقدير القول بانفكاك المتوسطة و الكثيرة عن القليلة.

و أمّا على القول بتلازمهما معها فلازم القول بالاغناء في المسألة العامة عدمه هنا مع انفصال الغسل عن الصلاة لتخلل الحدث الأصغر في أثنائه أو ملحوقيته بالحدث المذكور، و من المعلوم أنّ القائل بالإغناء لا يقول به في هاتين الصورتين كما أنّ لازمة الإغناء هنا مع الاتصال إذ كما أنّ الوضوء المتصل لا يضرّه الحدث المتخلّل أو المتأخّر، فكذلك الغسل الّذي هو مؤثّر أثره و قائم مقامه عند هذا القائل.

نعم يشكل الحال في صلاة العصر عند جمعها مع الظهر إذ اللازم الإتيان بالوضوء لها مع عدمه للظهر، و هذا ممّا لم يقل به أحد إذ قد عرفت أنّ الأقوال بين ثلاثة الوضوء لهما معا، و عدمه لهما كذلك و الوضوء للظهر دون العصر، و أمّا العكس فلا قائل به، و يمكن الجواب بأنّ القائل المذكور يلتزم بعدمه للظهر، للأدلّة العامة و كذلك للعصر فرارا عن القول بالفصل مضافا إلى الأخبار الخاصة الظاهرة في نفيه من حيث السكوت في مقام البيان.

و هل الوضوء مقدّم على الغسل أو بالعكس؟

يظهر من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- التفصيل بين المتوسطة فالأحوط لها تأخير الوضوء، و لعلّه بملاحظة حصول الطهر الحقيقي من الحدث الأكبر بسبب

ص: 300

الغسل، فيبقى ابتلاؤها بالحدث الأصغر الذي أوجبه الدم الباطني الغير الثاقب، فلا بد من تأخير الوضوء ليصير أخف، و بين الكثيرة التي دمها صبيب لا يرقى، فالأحوط لها تأخير الغسل، لأنّ تأخير الوضوء ينافي الفورية المعتبرة في إتيان الصلاة عقيب الغسل.

و فيه أوّلا: أنّ ما ذكره في المتوسطة مبني على أصله من أنّ المتوسطة لا تصير متوسطة إلّا بعد ظهور الدم على القطنة أو إلى خارج الفرج و أنّ التقابل بين القليلة و المتوسطة و الكثيرة تقابل الأقل و الأكثر لا تقابل التباين كما هو ظاهر الأصحاب بل صريحهم، و قد مرّ ضعف الأصل المذكور سابقا.

و ثانيا: أنّ ما ذكره في الكثيرة من الاحتياط في جانب الغسل معارض بالمثل في جانب الوضوء، و مجرد كون الأوّل رافعا للأكبر و الثاني للأصغر غير مرجح.

و ثالثا: أنّ مقتضى الأخبار الخاصة الواردة في المتوسطة المذكورة فيها الغسل و الوضوء بعطف الثاني على الأوّل بالواو، الخيار في تقديم أيّهما شاءت، فإنّ الواو لمطلق الجمع، و كذا مقتضى إطلاق دليلي الغسل و الوضوء في الكثيرة.

مسألة: هل يجوز للمستحاضة البدار مع رجاء زوال العذر في آخر الوقت أم يجب الانتظار؟

ثمّ ما حكم الإتيان بوظيفتها عند زوال العذر في أثناء الوقت من حيث الاجزاء و العدم؟

و ملخص الكلام في الأوّل: أنّه لا يجوز البدار مع القطع بزوال العذر، بل و كذا مع الظن، لعدم الإطلاق لدليل التكليف الاضطراري بالنسبة إليهما فتبقى إطلاقات التكليف الاختياري بحالها. نعم لا بأس بإطلاق دليل الاضطراري بالنسبة إلى الاحتمال فضلا عن القطع أو الاطمئنان بالبقاء.

ص: 301

و ملخص الكلام في الثاني: أنّ زوال العذر إمّا أن يكون بحصول البرء أو بالفترة الواسعة للطهارة و الصلاة، و على التقديرين إمّا أن يكون قبل الشروع في الأعمال و إمّا في أثنائها، و إمّا بعد الفراغ من الصلاة.

مقتضى القاعدة في جميع الصور المزبورة عدم الاجزاء و لزوم الاستئناف أو الإعادة، و ما يظهر من العروة الوثقى من الحكم بصورة الفتوى بعدم الإجزاء في صورة البرء و بصورة الاحتياط في صورة الفترة الواسعة لم يظهر له وجه، فإنّ الأحكام ليست مرتبة على مرض الاستحاضة بل على دمها، كما أنّ حكم السلس ليس مرتبا على داية بل على خروج البول كما هو واضح.

فإن قلت: ما وجه الفرق بين الوضوء الناقص الصادر من ذي الجبيرة أو في حال التقيّة حيث إنّ صريحهم الحكم بالاجزاء لو زال العذر بعد الصلاة؟ و بين المقام حيث حكمت بعدمه في الصورة المزبورة؟

قلت: وجه الفرق أنّ الوضوء الناقص في موضوعه رافع للحدث حقيقة، و المفروض صدوره في حال وجود الموضوع، و أمّا في المقام فلا يعقل رافعيّة الوضوء و الغسل لما يتخلّل في خلالهما أو يوجد بعدهما. غاية الأمر ثبوت العفو ما دام مستمرا إلى آخر الوقت فتبقى إطلاقات الأدلّة الأوّلية في غيره بحالها.

و لو انقطع الدم في أثناء الصلاة و شكت في أنّه للبرء أو للفترة الواسعة أو غيرها مضت في صلاة نظرا إلى استصحاب الطهارة الحكمية.

و قد يقال باستصحاب كونها مستحاضة.

و فيه أنّ الحكم غير مرتب على مرض الاستحاضة كما مرّ.

و قد يقال بأنّ الأجزاء السابقة كانت لو انضمت مع اللاحقة التأمت منها

ص: 302

الكل و الآن كما كان.

و فيه أنّ الشك في حصول الانضمام.

و قد يقال بأنّ هذه المرأة الشخصية كانت يجب عليها الإتيان ببقية الأجزاء و الآن كما كان.

و فيه أنّه لا يثبت التئام المركب بإتيانها و استصحاب حصول الالتئام بسببها مبني على الاستصحاب التعليقي الموضوعي الّذي قد بيّن في محلّه ضعفه.

مسألة: هل يجب عليها المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء و الغسل أو يجوز لها التأخير؟

لا ينبغي الإشكال في جواز التأخير بمقدار الإتيان بالمقدمات كالذهاب من مكان الغسل إلى مكان الصلاة، بل الرواح إلى المسجد و الاشتغال بالأذان و الإقامة، بل و الإتيان بالمستحبات في خلال الصلاة و عدم الاقتصار على الأقل الواجب.

و أمّا الزيادة على ذلك مثل إتيان الغسل و الوضوء في أوّل الوقت و الصلاة في آخره، فيمكن التشكيك في إطلاق الأدلّة لذلك بواسطة ما فيها من تكرار الوضوء لكل صلاة و الجمع بين الصلاتين فيبقى عموم: لا صلاة إلّا بطهور، بالنسبة إلى هذه الصورة بحاله.

مسألة: و هل يجب عليها استخبار الحال؟ و أنّها داخلة في أيّ من الأقسام؟

قد يقال بالوجوب تارة للزوم المخالفة الكثيرة من العمل بالأصول قبل الفحص و الاستخبار.

ص: 303

و أخرى للعلم الإجمالي بتوجه إحدى الوظائف الثلاث إليها فالأصول متعارضة متساقطة و في كلا الوجهين نظر.

أمّا الأوّل فلأنّ مجرد لزوم المخالفة الكثيرة غير مانع عن جريان إطلاق أدلة الأصول كما هو المشاهد في بابي الطهارة من الحدث و الخبث.

و أمّا الثاني فلانحلال العلم المذكور امّا مع وجود الحالة السابقة لواحد من الأقسام فواضح على ما هو الحق من جريان الأصل في التدريجيات، و أمّا مع عدمه فلجريان أصالة عدم حدوث موجب الأكبر و عدم معارضته بأصالة عدم موجب الأصغر، بناء على ما هو الحق من كون آثار الأقسام من قبيل الأقل و الأكثر لا من باب المتباينين، بأن يكون أحدها موجبا للوضوء فقط و الآخر للغسل كذلك.

مسألة: و هل يجب عليها الاستظهار و التحفّظ من خروج الدم

و لو بشدّ تكّة مثلا في وسطها و جعل خرقة مشدودة الرأسين و شدّ كل من رأسيها في وسطها مع تفريق الشقّين ليكون موجبا لانبساط وسط الخرقة و احتفافه بأطراف الفرج؟

لا إشكال في الوجوب بناء على مختار بعض الأعاظم- قدّس سرّه- من كون احتباس الدم موجبا للطهارة الحقيقية من الحدث الأكبر نظير المسلوس إذا أمكنه التحفظ من خروج البول بمقدار الطهارة و الصلاة و أمّا بناء على المختار من كفاية وجود الدم في الباطن في بقاء الحدثية فالوجه في الوجوب هو التحفظ من سراية الخبث و المنع عن تعديه بالمقدار الممكن.

مسألة [حال الاستحاضة بالنسبة إلى سائر العبادات]

قد عرفت حال المستحاضة بالنسبة إلى صلواتها اليومية. بقي الكلام في حالها بالنسبة إلى سائر العبادات المتوقّفة على الطهارة من الحدثين كالنوافل و صلاتي القضاء و الآيات و الطواف و بالنسبة إلى سائر الأمور المتوقفة إمّا

ص: 304

على الطهارة منهما كمس المصحف أو على خصوص الطهارة من حدث الحيض و شبهه كالوطي و دخول المسجدين و لبث سائر المساجد و قراءة العزائم بناء على حرمة ذلك في حقّ المستحاضة، فهل هي بعد الوظائف الصلاتية بحكم الطاهرة بالنسبة إلى هذه الأشياء و لو بعد انقضاء الوقت فلا تحتاج إلى تجديد الوظيفة إلى أن يجيئها حدث آخر كالجنابة و البول و غيرهما، أو هي كذلك ما دام الوقت، أو ما دام لم تفرغ عن الغاية المنوية، أو تحتاج إلى تجديد الوظيفة لأجل تلك الأشياء مستقلا، أو أنّ تلك الأشياء غير مشروعة في حقها ما دامت مستحاضة رأسا؟

الظاهر من كلماتهم التسالم على عدم الأخير، و أمّا بالنسبة إلى ما قبله فكلامهم غير محررة.

و تحقيق المقام، أنّ الكلام في موضعين: الأوّل في إثبات أصل المشروعية، و الثاني بعد إثباتها في جواز الاكتفاء لها بالوظائف الصلاتية أو الاحتياج إلى الوظيفة المحدّدة.

ملخص الكلام في الموضع الأوّل: أنّه مضافا إلى إمكان التمسك في إثبات المشروعية بظهور اتفاقهم و تسالمهم كما عرفت و بورود الأدلّة الخاصة في بعض الموارد كالنوافل في حق القليلة و الطواف و الطوي مطلقا يمكن التمسك أيضا لإثباتها بإطلاقات أدلّة تلك الأشياء فإنّه لم يرد في دليل تقييدها بالمستحاضة.

فإن قلت: نعم و لكن اشتراطها بالطهارة معلوم كما أنّ عدم تحقق الطهارة في حقّ المستحاضة على وجه الحقيقة أيضا معلوم و تحقّقها على وجه التنزيل لم يثبت في غير الصلوات اليومية و بعض الموارد الخاصة.

قلت: الظاهر أنّ الوضوء و الغسل لما كانا في حقّ المستحاضة مؤثرين في

ص: 305

مرتبة من الطهارة أمر بهما الشارع لأجل الصلوات اليومية لا أنّه لما كانا مأتيّا بهما لأجل الصلوات المذكورة كانا مؤثرين و ورد الأمر بهما.

فإن قلت: سلّمنا ذلك و لكن من أين علمت اكتفاء الشارع بتلك المرتبة في غير الصلوات اليومية، و بعبارة أخرى إن ثبت أنّ الاضطرار ملحوظ حكمة في اكتفاء الشارع ثبت مدعاكم لكن لم يثبت، فلم لا يجوز أن يكون ملحوظا علّة فعلى هذا ما دام لم يضطر إلى مسّ المصحف مثلا لا يجوز لها مسه رأسا؟

قلت: لا يبعد استفادة كونه حكمة بمناسبة الحكم و الموضوع بمعنى أنّ الشارع جعل هذه الوظيفة في حقّ المستحاضة طهارة حكمية كالطهارة الحقيقية في حقّ سائر الأشخاص تستبيح بها كلّ ما يستبيحه سائر الأشخاص.

و قد يقال: إنّ الشكّ لما كان في القدرة على تحصيل الطهارة الّتي هي الشرط جاز التمسك بعمومات أدلّة المشروطات و لا يضر كون الشبهة مصداقية لكون المخصّص لبيّا فإنّ القدرة شرط عقلي.

و لكن فيه: أنّ دليل اشتراط الطهارة ظاهر في الحقيقية لا في الأعم منها و من التنزيليّة فليقتصر في رفع اليد عن هذا الظاهر بمقدار ثبت الدليل على التنزيل.

و ملخص الكلام في الموضع الثاني: أنّ الدليل على جواز الاكتفاء بالوظائف الصلاتية منحصر في الإجماعات المنقولة و استصحاب الطهارة الحكمية.

أمّا الأوّل: فقد ثبت في الأصول عدم حجيّته.

و أمّا الثاني: فلا يجوز التمسك به مع وجود الدليل الاجتهادي، أعني: عموم «لا صلاة إلّا بطهور» و شبهه فانّ القدر المتيقن من رفع اليد عن هذا العموم ما إذا

ص: 306

أتى بتلك المشروطات بوظيفة مستقلة. و العجب من العروة الوثقى حيث إنّ المصرّح به في بعض عباراته الاكتفاء بالأغسال الصلاتية، و في بعضها عدمه و الاحتياج إلى الغسل المستقل، و المحشون أيضا قرروه على ذلك.

مسألة: هل يجوز للمستحاضة مع كونها محدثة بالأكبر دخول المسجدين و لبث سائر المساجد و قراءة العزائم؟

فحال هذا السبب حال مسّ الميت، أو حاله حال الجنابة فيحرم عليها ذلك مع حرمة وضع شي ء في المساجد و مسّ اسم اللّٰه تعالى و خطّ المصحف، أو حاله حال الحيض فيضاف إلى حرمة الأمور المذكورة حرمة الوطي و عدم صحّة الطلاق.

أقصى ما يستدل به على عدم الجواز أمور:

الأوّل: ظهور بعض عبائر معاقد الإجماعات و هو قولهم: إذا أتت بما عليها لم يحرم عليها ما يحرم على الحائض فإنّه نظير قولهم- عليهم السلام-: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شي ء» فكما أنّ مفهوم الثاني أنّه إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجسه كل شي ء من النجاسات، كذلك مفهوم الأوّل أيضا: أنّه إذا لم يأت بما عليها يحرم عليها كل ما يحرم على الحائض. و أمّا بيان كون المفهوم في العبارتين و نظائرهما إيجابا كلّيا لا جزئيا فموكول إلى محلّه.

و الثاني: ظهور الأخبار الدالّة على تحريم الأشياء المذكورة على الحائض بدعوى أنّ الاستحاضة استفعال من الحيض فمادّة الحيض فيها محفوظة، فيجري فيه ما ثبت للحيض إلّا ما خرج بالدليل.

و الثالث: الاستصحاب.

و في الجميع ما لا يخفى.

أمّا الأوّل: فلأنّه لا يزيد على الإجماع المنقول، نعم يظهر من العروة الوثقى

ص: 307

و محشّيها الاعتماد على الإجماع المدعى على تحريم الأشياء الخمسة المحرّمة في حقّ الجنب في حقّها، و لكن دعوى الوثوق بهذا الإجماع أيضا عهدتها على مدّعيها و إن كانت غير بعيدة.

و أمّا الثاني: فأوّلا دم الحيض و الاستحاضة متغايران منشأ و صفة و أحكاما، و على فرض التسليم بعد جعل الشارع إيّاهما قسمين متقابلين بتخصيص الأوّل بما لا يزيد على العشرة و لا ينقص عن الثلاثة، بخلاف الثاني لا يبقى للظهور المذكور مجال.

و أمّا الثالث: فلأنّه أخصّ من المدعى لعدم جريانه في الدم الخارج من اليائسة و الصغيرة مثلا لعدم مسبوقيّتها بالحيض.

هذا كلّه هو الكلام في غير الوطي، و أمّا الوطي فقد وقع الخلاف بعد الاتفاق على جوازه بعد الاعمال في جوازه بدونها رأسا، أو توقفه على الغسل فقط، أو عليه مع الوضوء، أو عليهما مع سائر الأعمال و مستند الجواز مطلقا الأصل الّذي لا أصل له مع وجود الدليل كما يأتي، و آية حل الأزواج و ما ملكت أيمانكم الّتي هي كقضية «الغنم حلال» ليست إلّا في مقام الحليّة الذاتية لا الفعلية و آية فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ (1) التي هي في مقام رفع المنع و الحظر من جهة الحيض فقط و بعض الأخبار الّتي مساقها مساق الآية الأخيرة.

و التحقيق أن يقال: أنّ قوله- عليه السّلام-: في صحيحة البصري: «و كل شي ء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها و لتطف بالبيت» (2) يدل على توقف الجواز على


1- البقرة/ 222.
2- الوسائل: باب 1، من أبواب الاستحاضة، ح 8.

ص: 308

الغسل فقط.

بيان ذلك: أنّ الظاهر منه اتحاد ما يستحل به الصلاة مع ما يستحل به الطواف بالوحدة الشخصية لا النوعية، و من المعلوم أنّ الّذي يقبل الاتحاد الشخصي من المقدمات الصلاتية ليس إلّا الغسل لاحتياج ما عداه إلى التجديد لكون الطواف بمنزلة الصلاة الثانية الّتي هي كذلك قطعا، فإذا كان الغسل وحده هو المراد في جانب الطواف كان كذلك في جانب الوطي أيضا، و الظاهر اعتبار وصف بمعاقبة الطواف للصلاة، إذ كما يعتبر معاقبة الصلاة الثانية للأولى في جواز الاكتفاء بغسل الأولى للثانية، فكذلك الطواف. و بقرينة ذلك يعلم الحال في الوطي أيضا، و على هذا فبعض الأخبار الظاهرة في اعتبار الوضوء في جواز الوطي مضافا إلى الغسل محمول على الاستحباب.

مسألة [هل يتوقف صحة صوم المستحاضة في الكثيرة على الأغسال كما في الصلاة؟]

لا إشكال في مدخلية أغسالها الثلاثة في اليوم و الليلة في الكثيرة في صحّة صلواتها الخمس كغسلها في اليوم و الليلة مرّة واحدة في المتوسطة، و هل يتوقف صحّة صومها أيضا على الأغسال أو لا؟ الّذي جزم به الأصحاب- رضوان اللّٰه عليهم- من غير خلاف يعرف هو الأوّل و لا مستند له سوى مكاتبة ابن مهزيار قال:

كتبت إليه: امرأة طهرت من حيضها أو دم نفاسها في أوّل يوم من شهر رمضان ثمّ استحاضت فصلّت و صامت شهر رمضان كلّه من غير أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكل صلاتين، هل يجوز صومها و صلاتها فكتب- عليه السّلام- «تقضي صومها و لا تقضي صلاتها، لأنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم كان يأمر المؤمنات من نسائه بذلك» (1). و في رواية الكليني و الشيخ: «لأنّ رسول اللّٰه


1- الوسائل: باب 41، من أبواب الاستحاضة، ح 7.

ص: 309

صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم كان يأمر فاطمة- عليهما السلام- و المؤمنات بذلك». و قد خدش فيها سندا بضعفها من جهة الإضمار و كونها مكاتبة، و أجيب بمجبوريتها بالعمل.

و مضمونا باشتمالها على خلاف الإجماع القطعي من عدم وجوب قضاء صلاتها بالإخلال بأغسالها.

و باشتمالها على لفظة: «كان» الظاهرة في تكرير وقوع الأمر بذلك عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم مع عدم اتفاق الابتلاء بذلك إلّا في غاية الندرة و لا سيما مع اشتماله على بعض رواياتها على ذكر الصديقة الطاهرة- سلام اللّٰه عليها- مع ما تكاثرت النصوص بكونها لم تر حمرة قط.

و أجيب عن الأوّل بأنّ عدم مشمولية جزء من الرواية لدليل الحجية لا يضر بالباقي فإنّ التعبّد و الحجية إنّما هو في مورد الشك، فلا مجال له مع القطع بالخلاف كما في مورد القطع بالوفاق.

و عن الثاني بأنّ أمر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم كان في مقام التعليم ليعلم به عند الحاجة كما أنّ أمر الصّديقة- صلوات اللّٰه عليها- كان بتعليمها ذلك للنساء.

و دلالة باحتمال كون «تقضي» في الموردين من باب التفعّل، أو كون مادة القضاء هنا بمعنى الأداء أو المضي.

و أجيب بكون الأوّل في غاية البرودة و الثاني خلاف الظاهر.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث أوجب الخدشة الثانية في نظره سراية الخلل في أصالة عدم الغفلة و الخطأ في حق الراوي، و قال ما معناه: إنّه إذا دار الأمر بين نسبة الكذب إلى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أو إلى الإمام- عليه السّلام- و بين نسبة الغفلة و الخطأ إلى الراوي فالثاني أولى، فنقول: إنّ الحكم صدر من الإمام- عليه السّلام- في حقّ الحائض، فاشتبه الراوي و نقله في حقّ المستحاضة، و منشأ اشتباهه إسقاطه

ص: 310

القيد المبين لذلك عن درج الكلام.

و أنت خبير بأنّه كلّما ازدادت موهنات الرواية فعمل الأصحاب يزيدها قوة و صحّة كما أنّه كلّما ازدادت الرواية صحّة و قوّة فإعراض الأصحاب يزيدها و هنا و ضعفا، فالإنصاف تمامية الاستدلال بالرواية و هل الموقوف عليه صحّة الصوم خصوص الأغسال النهارية أو هي مع الليلة السابقة خاصة أو هي مع الليلة اللاحقة كذلك أو هي مع الليلتين أو خصوص غسل الفجر؟

مستند الأخير تشبيه المقام بحدث الجنابة حيث لا يضر فيه الاحتلام في النهار بالصوم و وجه ما قبله ترك التفصيل في النص بين أغسالها الليلية و النهارية و في الأولى بين الماضية و المستقبلة.

و وجه الثالث ظهور الأغسال إذا أضيفت إلى الكثيرة كما هو ظاهر النص في أغسالها الثلاثة الّتي هي على حسب ما يستفاد من سائر النصوص غسلها للغداة و غسلها للظهرين و غسلها للعشاءين.

و وجه الثاني كون المنع من جهة الحدثية مع البناء على بقاء أثر غسل العشاءين إلى أن يتضيّق وقت غسل الغداة و هو أن يبقى من طلوع الشمس مقدار الطهارة و الصلاة، و كذلك أثر غسل الغداة إلى أن يتضيق وقت غسل الظهرين و أثر غسل الظهرين إلى أن يتضيق وقت غسل العشاءين. و وجه الأوّل: كونه القدر المتيقّن بعد إجمال الرواية و تردد الأمر بين الاحتمالات مع كون الاحتمال الأخير في غاية الضعف لانحصار مستنده في مجرد الاستحسان خصوصا مع التصريح في الرواية بالغسل لكل صلاتين. ثمّ إنّ الأحوط تقديم غسل الغداة على الفجر ثمّ مراعاة معاقبة صلاة الغداة له و مع عدم مراعاتها إعادة الغسل لها ثانيا.

ص: 311

المبحث الثالث: في النفاس

اشارة

و الكلام فيه أيضا يتم في طيّ مسائل:

مسألة [النفاس لغة و شرعا]

النفاس و إن كان في اللغة عبارة عن نفس الولادة و لو لم يكن دم يقال: نفست المرأة إذا ولدت فهي نفساء- بضمّ النون و فتح الفاء- و الولد منفوس. لكن غلب في لسان الشارع و المتشرعة إطلاقه على دمها فلو ولدت بلا دم فلا موضوع للأحكام المقررة كما انعقد عليه الإجماع و دلّت عليه النصوص، فيكون إمّا مجازا شرعيا من باب إطلاق اسم السبب و إرادة ما هو المسبب منه غالبا، و إمّا حقيقة كذلك.

و كيف كان فلا حدّ لأقله، فيكفي في ترتب أحكامه من انتقاض الصوم و الطهارة وجود مسمّاه و لو بمقدار اللحظة للإجماع و لصدق الاسم، أعني: دم الولادة.

و استدل أيضا: برواية ليث المرادي عن النفساء كم حد نفاسها حتى تجب عليها الصلاة و كيف تصنع؟ قال- عليه السّلام-: «ليس لها حدّ» (1).


1- الوسائل: باب 2 من أبواب النفاس، ح 1.

ص: 312

و بصحيحة ابن يقطين في النفساء كم يجب عليها ترك الصلاة؟ قال- عليه السّلام-: «تدع ما دامت ترى الدم العبيط إلى ثلاثين يوما، فإذا رقّ و كانت صفرة اغتسلت» (1).

و لكن في الاستدلال بهما نظر نبّه عليه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أمّا الأولى فلأنّ حملها على حدّ الأقل ينافيه السؤال حيث وقع عن الحدّ الّذي يتعقّبه وجوب الصلاة و لا ينطبق إلّا على حدّ الأكثر، كما أنّ حملها على حدّ الأكثر ينافيه الجواب حيث إنّ لأكثره حدّا أمّا عند الإمامية فلأنّه الثمانية عشر أو العشر، و أمّا عند العامة فلأنّه الأربعون إلى الخمسين، و أمّا حملها على حدّ واحد للأقل و الأكثر كما عن شيخ الطائفة- قدّس سرّه- ففي غاية البعد.

و أمّا الثانية فلأنّ إطلاقها وارد مورد حكم آخر و هو بيان حدّ الكثرة مضافا إلى عدم كونها معمولا بها بين الأصحاب.

مسألة: لا إشكال في نفاسية الدم إذا كان بعد الولادة و قبل أقصى النفاس

كما لا إشكال في نفاسيته إذا كان مقارنا معها لصريح قوله- عليه السّلام- في رواية زريق: «تصلّي حتى يخرج رأس الصبي، فإذا خرج رأسه لم يجب عليها الصلاة» (2) و قوله في ذيله: فعند ذلك (يعني خروج بعض الولد) يصير دم النفاس، و لا يعارضه قوله في موثقة عمّار: «تصلّي ما لم تلد» (3) فإنّه قابل للحمل على معنى ما لم تشرع في الولادة لا ما لم تفرغ منها، فلا بدّ من حمله عليه جمعا و تحكيما للنص على الظاهر


1- الوسائل: باب 3، من أبواب النفاس، ح 16.
2- المصدر نفسه: باب 30 من أبواب الحيض، ح 17.
3- المصدر نفسه: باب 4 من أبواب النفاس، ح 1.

ص: 313

و هذا واضح.

إنّما الكلام في الدم الّذي تراه قبل الولادة مع جامعيته لشرائط الحيض سوى الفصل بأقل الطهر بينه و بين النفاس و لا إشكال في عدم نفاسيته و إنّما الإشكال في كونه استحاضة أو حيضا.

و ملخص الكلام: أنّه بعد الاتفاق على اعتبار تخلل أقل الطهر بين النفاس و الحيض المتأخر وقع الخلاف في اعتباره بينه و بين الحيض المتقدّم، و منشأ الخلاف اختلاف الأنظار في الاستفادة من الأدلّة، فذهب المشهور إلى الاشتراط مطلقا و بعضهم كصاحبي المدارك و الذخيرة إلى عدمه كذلك و قوّاه في العروة و قرّره بعض المحشّين، و فصل ثالث بين ما إذا أمكن اجتماع حيضيّة الدم المذكور مع نفاسية ما بعده بأن لا يزيد مجموعهما و لو مع النقاء المتخلّل بينهما عن العشرة و بين ما لم يمكن. و في الثاني بين ما إذا أمكن ذلك في بعضه دون بعض و ما إذا لم يمكن مطلقا فحكم بالحيضية في مورد الإمكان و بالاستحاضية في مورد العدم.

و مستند المشهور أمور: أحدها: قولهم- عليهم السلام-: «أقلّ الطهر عشرة أيّام» فإنّ الظاهر أنّ المراد أنّ الحالة الّتي لا تمنع المرأة فيها عن الدخول في الصلاة و الصوم و نحوهما و لو مع الاحتياج إلى الغسل و شبهه إذا تخلّلت بين الحالتين اللّتين تمنعان عن ذلك و لو مع الغسل و نحوه فلا تكون تلك الحالة المتخللة بأقل من عشرة أيّام.

فإن قلت: بل المراد خصوص الطهر الواقع بين الحيضتين، و الشاهد على هذا الاختصاص أمران: الأوّل: عدم اعتبار فصل أقل الطهر بين النفاسين إجماعا، و الثاني: أنّ خروج الحيض مرّة ثانية بعد خروجه مرّة سابقة حيث يحتاج إلى الجمع

ص: 314

في الرحم فيحتاج إلى مضي زمان فقدّر الشارع ذلك الزمان بعشرة، و لازم ذلك اعتبار تخلّله بين النفاس و الحيض المتأخّر و أمّا بينه و بين المتقدم فلا، لأنّ النّفاس محبوس و مجموع من السابق فلا يحتاج إلى جمع آخر حتى يحتاج إلى مضي زمان.

قلت: أمّا عدم اعتباره بين النفاسين، فلأجل الإلجاء و الضرورة، و ذلك لعدم إمكان الحكم بعدم نفاسية شي ء من الدمين بعد كون كل منهما دم الولادة و كذا عدم إمكان مجاوزة النفاس عن الحد الأقصى.

و أمّا الوجه الثاني: ففيه أوّلا: أنّه مجرد استحسان عقلي لا يصلح رفع اليد بسببه عن إطلاق الكلام و من أين علمنا أنّ ملاك الحكم المذكور احتياج الدم إلى الجمع، فلعلّه شي ء آخر.

و ثانيا: أنّه عين ما استند إليه صاحب الحدائق حيث ذهب إلى اعتبار فصل أقلّ الطهر بين الحيضتين المستقلتين دون أجزاء الحيضة الواحدة و قد فرض أنّكم رددتم عليه هذا الكلام في ذاك المقام فلا وجه لتسليمه هاهنا.

الثاني: قولهم- عليهم السلام-: النفاس حيض محتبس، الذي هو مصطاد من مواضع ثلاثة من الأخبار: الأوّل: ما أشير إليه في بعض أخبار حيض الحامل من ادّخار الحيض في الرحم حال الحمل لأجل ارتزاق الولد و اغتذائه، و أنّه إذا فضل منه شي ء يقذفه الرحم، فذلك المقذوف حيض و يترتب عليه أحكامه. و الثاني: ما دلّ على رجوع النفساء المعتادة في الحيض إلى عادتها في الحيض عند مجاوزة دمها العشرة، و الثالث ما دلّ على مساواتهما في الأحكام، فإنّه يستفاد من ذلك اشتراك الدمين في الأحكام الّتي من جملتها لزوم فصل أقل الطهر بينه و بين الحيض من غير فرق بين سبق الحيض على النفاس و لحوقه، و الاعتراض السابق جار هنا أيضا

ص: 315

مع جوابه.

الثالث: إطلاق رواية زريق و موثقة عمار الحاكمتين بعدم حيضية دم الطلق و المخاض، فإنّه شامل لما إذا كان الدم المذكور جامعا لشرائط الحيضية غير الفصل بأقل الطهر الّذي هو غالب الانفكاك في الدم المذكور فليس الحكم بعدم الحيضية إلّا لذلك.

و أجيب بأنّ عدم الحيضية إنّما هو لعدم جريان قاعدة الإمكان في مثل المقام ممّا يكون في البين سبب آخر مظنة لخروج الدم، فإنّ شدة المخاض مظنّة لفتق بعض العروق في الرحم الّذي هو منشأ لخروج الدم.

و فيه: أنّه صحيح فيما أريد الحكم بحيضيته من جهة القاعدة، و أمّا ما أريد الحكم بحيضيته من جهة مصادفة العادة فلا كما هو واضح.

الرابع: التعليل الواقع في صحيحة ابن المغيرة في امرأة نفست فتركت الصلاة ثلاثين يوما ثمّ طهرت ثمّ رأت الدم بعد ذلك؟ قال- عليه السّلام-: «تدع الصلاة لأنّ أيّامها أيّام الطهر قد جازت مع أيّام النفاس» فإنّ مفاده أنّه بعد الحكم بنفاسية ثمانية عشر من أيّام المرأة المفروضة و استحاضية عشرة أخرى بعد تلك الثمانية عشر لا مانع من الحكم بالحيضية في الدم الذي تراه بعد ذلك، و التعبير و إن وقع بلفظ الجواز و المضي، و لكن المفهوم منه عرفا اعتبار مطلق الفصل بأقلّ الطهر بين النفاس و الحيض سواء كان بنحو المضي أو بنحو الاستقبال.

و أجيب: بعدم ثبوت القول بعدم الفصل بين الحيض المتأخّر عن النفاس و المتقدّم.

ص: 316

و فيه: أنّه غير وارد على التقريب الّذي ذكرنا.

و مستند القول بعدم الاشتراط هو الأخذ بقاعدة الإمكان في مورد عدم مصادفة العادة و بأمارية العادة في مورد مصادفتها مع الخدشة في الأدلّة السابقة بما عرفت جوابها.

و مستند التفصيل المذكور: قولهم- عليهم السلام-: «النفاس حيض محتبس» بدعوى أنّ المستفاد منه أمران: أحدهما اعتبار عدم مجاوزة النفاس عن العشرة فإنّه من أحكام الحيض أيضا، و الثاني ملاحظة الشارع هذين الدمين شيئا واحدا فلا بد من اعتبار عدم المجاوزة المذكورة في مجموعهما.

و أجيب بمنع استفادة اعتبار عدم المجاوزة لإمكان احتياج خروج الدم المحبوس إلى زمان أزيد من الدم الغير المحبوس لغزارة مادّة الأوّل دون الثاني.

و فيه أنّه مجرّد استحسان و استبعاد لا يصلح رفع اليد بسببه عن إطلاق الكلام.

و الحق أن يجاب بمنع استفادة ملاحظة الشارع الحيض المحتبس و الغير المحتبس شيئا واحدا كيف و هما متغايران لمغايرة بعض أحكامهما كعدم اعتبار تخلل الطهر بين النفاسين و كون أقل النفاس لحظة، و إن أبيت فلا أقلّ من إطلاق الروايتين المتقدمتين فالأولى الحكم باعتبار تخلّل أقل الطهر بين النفاس و الحيض المتقدّم و لو في مثل الفرض الّذي فرضه المفصّل.

مسألة: اختلفت الأقوال في تحديد أكثر النفاس

فقيل: بأنّه عشرة أيّام مطلقا كأكثر الحيض و هو مذهب المشهور.

ص: 317

و قيل: بأنّه ثمانية عشر يوما مطلقا و هو مذهب المفيد و المرتضى و بعض آخر و إن عدل الأوّلان عنه.

و قيل: بالتفصيل بين ذات العادة في الحيض و غيرها باختيار القول الأوّل في الأولى و الثاني في الثانية، و اختاره العلّامة في المختلف و الفاضل المقداد في التنقيح، و قوّاه شيخنا المرتضى في طهارته و إن أفتى في رسالته العملية على طبق المشهور، و منشأ اختلاف الأقوال اختلاف الأخبار و اختلاف الأنظار في فهمها فإنّها بين طوائف:

الأولى: ما دلّت على إرجاع ذات العادة في الحيض إلى عادتها أو على أنّ أكثر النفاس أكثر الحيض بدون الاشتمال على الردع عن التمسك بقصّة أسماء. مثل موثقة يونس عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن امرأة ولدت فرأت الدم أكثر ممّا كانت ترى؟ قال- عليه السّلام-: «فلتقعد أيّام قرئها التي كانت تجلس ثمّ تستظهر بعشرة أيّام فإن رأت دما صبيبا فلتغتسل عند وقت كل صلاة، و إن رأت صفرة فلتتوضأ ثمّ لتصل» (1) و بمضمونها أخبار مستفيضة أمّا بدون ذكر الاستظهار أو مع ذكره بيوم كما في بعضها أو بيومين كما في آخر، و بمثل ثلثي أيامها كما في ثالث. و مثل مرسلة (2) المفيد: لا يكون دم نفاس لزمان أكثر من زمان حيض.

الثانية: ما اشتملت على الردع المذكور إمّا مع الإرجاع إلى العادة أو بدونه كموثقة الجوهري عن حمران بن أعين قال: قالت امرأة محمد بن مسلم و كانت ولودا: اقرأ أبا جعفر السلام و قال له: إنّي كنت أقعد في نفاسي أربعين يوما و انّ


1- الوسائل: باب 3، من أبواب النفاس، ح 3.
2- المصدر نفسه: ح 10.

ص: 318

أصحابنا ضيّقوا عليّ فجعلوها ثمانية عشر يوما؟ فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: «من أفتاها بثمانية عشر يوما؟» قال: قلت: الرواية الّتي رووها في أسماء بنت عميس أنّها نفست بمحمد بن أبي بكر بذي الحليفة [- ذي الحليفة: موضع لستة أميال من المدينة فيها مسجد الشجرة و هو ميقات أهل المدينة-] فقالت: يا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم كيف أصنع؟ فقال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم لها: «اغتسلي [- المراد غسل الإحرام فإنّه مشروع في حالتي الحيض و النفاس كما تقدم التنبيه عليه فيما تقدّم-] و احتشي و أهلّي بالحج [ «- المراد أنّ عمرة التمتّع تتبدل في هذه الحالة إلى حج الإفراد فلا بدّ من عدول النية إليه-] فاغتسلت و احتشت و دخلت مكّة و لم تطف و لم تسع حتى تقضي الحج [- المراد مناسك عرفات و المشعر و منى و الرجوع إلى مكّة لأداء الطوافين و السعي-] فرجعت إلى مكّة فأتت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فقالت: يا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أحرمت و لم أطف و لم أسع؟ فقال لها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «و كم لك اليوم»؟ فقالت: ثمانية عشر يوما، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «أمّا الآن فاخرجي فاغتسلي و احتشي و طوفي واسعي». فاغتسلت و طافت وسعت و أحلّت. فقال أبو جعفر- عليه السّلام- «إنّها لو سألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم قبل ذلك و أخبرته لأمرها بما أمرها به». قلت: فما حدّ النفساء؟ قال- عليه السّلام-: «تقعد أيّامها الّتي كانت تطمث فيهنّ أيّام قرئها فإن هي طهرت و إلّا استظهرت بيومين أو ثلاثة أيّام ثمّ اغتسلت و احتشت، فإن كان انقطع الدم فقد طهرت و إن لم ينقطع الدم فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل لكل صلاتين و تصلي» (1). و بمضمونها مرفوعة (2) علي بن إبراهيم بدون ذكر التفصيل و الإرجاع إلى العادة.

الثالثة: ما دلّت على التحديد بثمانية عشر مع الاشتمال على التمسك


1- الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب النّفاس، ص 614، ح 11 و 7.
2- الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب النّفاس، ص 614، ح 11 و 7.

ص: 319

بالقصّة المذكورة كصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن النفساء كم تقعد؟ فقال- عليه السّلام-: «إنّ أسماء بنت عميس أمرها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أن تغتسل لثمانية عشر و لا بأس أن تستظهر بيوم أو يومين». (1)

و صحيحة زرارة عن الباقر- عليه السّلام-: «إنّ أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن أبي بكر فأمرها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم حين أرادت الإحرام بذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف و الخرق و تهل بالحج، فلما قدموا مكّة و قد نسكوا المناسك و قد أتى بها ثمانية عشرة يوما فأمرها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أن تطوف بالبيت و تصلّي و لم ينقطع عنها الدم ففعلت ذلك» (2) و بمضمون الأخيرة رواية أخرى.

الرابعة: ما دلّت على التحديد المذكور بدون الاشتمال المذكور و هي خبران:

الأوّل: ما رواه في العلل عن حنان بن سدير قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: لأيّ علّة أعطيت النفساء ثمانية عشر يوما و لم تعط الأقل و لا أكثر؟ قال:

«لأنّ الحيض أقلّه ثلاثة أيّام و أوسطه خمسة و أكثره عشرة، فأعطيت أقلّه و أوسطه و أكثره». (3)

و الثاني: ما عن العيون في ما كتبه مولانا الرضا- صلوات اللّٰه عليه- للمأمون قال: «و النفساء لا تقعد عن الصلاة أكثر من ثمانية عشر يوما فإن طهرت قبل ذلك صلّت و إن لم تطهر حتى تجاوز ثمانية عشر يوما اغتسلت و صلّت و عملت بما تعمل المستحاضة». (4)


1- الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب النّفاس، ص 615، ح 15.
2- المصدر نفسه: ص 612، ح 6.
3- المصدر نفسه: ص 617، ح 23.
4- المصدر نفسه: ص 617، ح 24.

ص: 320

إذا عرفت ذلك فهل الجمع العرفي بين هذه الطوائف الأربع موجود أم لا؟

و على الأوّل فالجمع المذكور ما ذا؟ ربما يقال بالأوّل. إمّا بدعوى أنّها من قبيل النص و الظاهر فإنّ الطائفة الثانية شارحة للمراد من الثالثة و أنّه إثبات العشرة. و نفي ما يقوله العامة من الأربعين و الخمسين و الستين بواسطة أمر النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم لأسماء عند مضي ثمانية عشر يوما.

هذا بالنسبة إلى الطائفة الثالثة: و أمّا بالنسبة إلى الرابعة فالطائفة الثانية بواسطة اشتمال سؤالها على وجود المفتين بثمانية عشر في ذلك الزمان قرينة على حمل الطائفة الرابعة على التقية من هؤلاء المفتين.

و فيه: أنّ ما ذكره بالنسبة إلى الطائفة الثانية و إن كان صحيحا في الخبر الأخير منها، و لكنّه غير صحيح في الخبر الأوّل و كيف يصح إرجاع الاستظهار إلى ما لا يزيد عن العشرة مع عدم ذكر العشرة في الكلام، و أمّا ما ذكره بالنسبة إلى الطائفة الرابعة فخلط بين الجمع العرفي و علاج المتعارضين بالمرجح الخارجي، و ما ذكره من قبيل الثاني كما هو واضح.

و إمّا بدعوى أنّ الطائفة الأولى مخصوصة بذات العادة إمّا لكونها موردا لها كما في الأخبار الدالة على الإرجاع إلى العادة حيث لا دلالة لها بالنسبة إلى غير ذات العادة أصلا، و ليس في البين إلّا استبعاد الفرق بين ذات العادة و غيرها بكون أكثر النفاس في الأولى عشرة، و في الثانية ثمانية عشر، و لكنّه غير بالغ حد دلالة اللفظ.

و إمّا للحمل عليها بحكم الغلبة كما في مرسلة الصدوق [المفيد]، و على هذا فتكون الطائفتان الأخيرتان محمولتين على غير ذات العادة.

فإن قلت: يلزم حمل إطلاقهما على الفرد النادر و أيضا إن كانت أسماء معتادة

ص: 321

فكيف يصح الاستشهاد في الطائفة الثالثة بقصّتها لغير المعتادة و إن كانت غير معتادة لم يصح الردع عن التمسك بها في الطائفة الثانية؟

قلت: ليس لهما إطلاق حتى يلزم ذلك فإنّ قوله- عليه السّلام-: «أكثر النفاس ثمانية عشر» ليس إلّا كقولنا: أكثر الحيض عشرة، يكفي في صحته وجود فرد ما و لا يلزمه استيعاب الأفراد كما أنّه الحال في قوله- عليه السّلام- «لا تقعد النفساء أكثر من ثمانية عشر يوما».

و أمّا الإشكال على التمسك بقصة أسماء فجوابه: أنّا نختار كونها معتادة و التمسك بقصتها لغير المعتادة إنّما هو لتخيّل الناس و زعمهم إطلاق حكمها حتى للمعتادة و الإمام- عليه السّلام-، لما أراد وقع هذا الحكم في غير المعتادة في أذهان الناس تمسك له بشي ء كان مسلّما عندهم و إن كان فاسدا لديه- عليه السّلام.

و فيه: أنّ روايتي العلل و العيون مخدوشتان بضعف السند مع عدم الانجبار لعدم معلومية الاستناد و عدم كفاية مجرد مطابقة الفتوى في الانجبار كما هو واضح.

و أمّا سائر الروايات المشتملة على قصة أسماء فقد عرفت التنافي بين أنفسها بواسطة الاستشهاد بها في بعضها و الردع عنه في آخر.

و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- في رفع التنافي، فالإنصاف أنّه ليس بجمع عرفي و غير موجب لخروج الكلامين في نظر العرف عن حدّ التكاذب و التعارض، و من المعلوم أنّ المرجح مع ما دلّ على الردع لمخالفته مع العامة و موافقته مع عمومات الكتاب و السنة المثبتة للعبادات، و غاية الأمر خرج منها المرأة حال خروج دم النفاس للعشرة فما دون و بقي الباقي.

ص: 322

و من هنا يعلم أنّ مقتضى القاعدة أيضا هو التحديد بالعشرة.

فإن قلت: بل مقتضى القاعدة استصحاب موضوع النفاس بعد العشرة و أحكامها التي منها بقاء الحدث المسبب منه، مضافا إلى أنّه لو فرض الخدشة في الاستصحاب، فالمرجع عموم ما دلّ على ترك العبادات مرتبا له على دم النفاس أو المرأة النفساء لصدق العنوانين بعد العشرة لغة و عدم ثبوت حقيقة لهما شرعا.

قلت: أمّا ما دلّ على ترك العبادات مرتبا له على العنوانين فلا عموم له و لا إطلاق لكونه واردا مورد حكم آخر مثل إثبات النفاسية لما رأته عند خروج رأس الصبي في قبال نفيها عمّا رأته قبل ذلك، فراجع.

و أمّا استصحاب موضوع النفاس بعد العشرة و قبل الثمانية عشر فيرد عليه ما استشكله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في صلاته على استصحاب عدم الغروب بعد استتار القرص قبل ذهاب الحمرة كما هو المقرر في محله، و أمّا استصحاب الأحكام فمحكوم للعمومات المثبتة للعبادات.

و يرد على ما ذكره- قدّس سرّه- من عدم دلالة ما دلّ على الإرجاع إلى العادة على حكم غير ذات العادة، بل المتحقّق مجرد استبعاد عدم الفرق أنّ الظاهر عند العرف من وحدة السياق و كمال المشابهة بين أخبار بابي النفاس و الحيض هو عدم الفرق كما يقال نظيره في أخبار لا تنقض.

مسألة [يجب على النفساء الاستظهار] كما يجب على الحائض

عند تجاوز الدم عادتها مع عدم مضي العشرة الاستظهار بيوم أو يومين أو ثلاثة أو إلى العشرة، كذلك يجب ذلك على النفساء. و الدليل عليه: ما تقدّم في الحيض حرفا بحرف لمشابهة أخبار البابين.

ثمّ إن انقطع الدم على العشرة فما دون فالكل نفاس سواء في المعتادة أم

ص: 323

غيرها من المبتدئة و المضطربة، لقاعدة الإمكان المجمع عليها هنا كما في الحيض.

و إن تجاوز عن العشرة فالمعتادة ترجع إلى عادتها للأخبار المستفيضة المتقدّم إليها الإشارة في المسألة المتقدمة، و غيرها تجعل العشرة نفاسا و لا ترجع إلى التميز، و لا إلى الروايات و لا إلى عادة الأهل. و إن كانت في الحيض ترجع إلى أحد هذه و الفرق أنّ قاعدة الإمكان كانت هناك معارضة بالمثل، و المفروض عدم العادة فلا جرم كان مرجعها أحد الأمور الثلاثة التي هي المرجع عند عدم الأمارة على الخلاف، فإنّ الروايات حكمها حكم الأصل كما يظهر من دليلها و عادة الأهل لا إطلاق لدليلها بالنسبة إلى صورة وجود قاعدة الإمكان، و صفات الاستحاضة كالرقة و الصفرة إنّما يحكم بالاستحاضة عندها من باب عدم الغلظة و الحمرة لا من باب أمارية أنفسها و هذا بخلاف الحال في المقام، فإنّ قاعدة الإمكان سليمة عن المعارضة، فلا سبيل إلى شي ء من الأمور الثلاثة، و لعلّه منشأ ذهاب الكل إلّا من شذّ إلى ذلك.

مسألة [في نفاس المرأة الحامل بتوأمين]

المرأة الحاملة بتوأمين إذا تأخرت ولادة أحدهما عن الآخر فلا إشكال في أنّ لها بحسب كل من الولادتين نفاسا، فإن رأت بعد الولادة الأولى عشرة أيّام دما من دون تخلل نقاء بين تلك العشرة و بين الولادة الثانية أصلا، أو معه و لكن لم يكن النقاء أقل من عشرة، فلا كلام.

و إن تخلل و كان أقلّ فحينئذ يقع التعارض بين عمومات ثلاثة:

أحدها: عموم ما دلّ على أنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة.

و الثاني: عموم ما دلّ على أنّ كل دم ولادة نفاس.

ص: 324

و الثالث: ما دلّ على أنّ دم النفاس الواحد لا يزيد على عشرة.

و مقتضى القاعدة و إن كان تساقط الجميع و الرجوع إلى قاعدة العلم الإجمالي دون الاستصحاب لعدم جريانه في مثل المقام لكون الشبهة مفهومية كما تقدمت الإشارة إليه و لكن قام الإجماع على ورود التخصيص هنا على العموم الأوّل، و حينئذ فيحكم على النقاء المذكور الواقع بين النفاسين بكونه طهرا و إن كان أقل من عشرة بواسطة الإجماع المذكور، هذا كلّه إذا رأت الدم بعد الولادة الأولى عشرة أيّام.

و لو رأت أقل من عشرة و اتّصل بالولادة الثانية، فلا كلام، و أمّا لو لم يتصل بأن تخلل بينه و بين الولادة الثانية نقاء كما لو ولدت الثاني في الخامس من ولادة الأوّل و رأت الدم بعد الولادة الأولى ثلاثة أيّام و لم تر في اليومين بعدها، فهل النقاء المذكور محكوم بكونه طهرا كما في الفرض الأوّل أو بكونه نفاسا؟ وجهان مبنيان على أنّ الخمسة الأيّام المتأخّرة عن الولادة الثانية هل هي محسوبة لكل من الولادتين أو من الولادة الثانية خاصة؟

فعلى الثاني يحكم بكونه طهرا لأنّه نقاء بين نفاسين فيدخل تحت الإجماع المتقدم.

و على الأوّل يحكم بكونه نفاسا لأنّه نقاء متخلّل بين أجزاء نفاس واحد و هو نفاس كما يأتي إن شاء اللّٰه، و لا يبعد ترجيح الثاني الحكم العرف بعد انقطاع الدم قبل الولادة الثانية و خروجه حينها بكونه مسببا عنها خاصة و مضافا إليها فقط. فحكمهم بكون الدم مضافا إلى السبب الأوّل معلّق في صورة الانقطاع على

ص: 325

عدم وجود سبب آخر في البين.

و هل الولد الواحد المنقطع أجزاؤه بحكم التوأمين، فيحكم على النقاء المتخلل بكونه طهرا و إن كان أقلّ من عشرة و على الدم المتخلل بين الجزءين إذا كان أزيد من العشرة، بكون زيادته استحاضة، أو أنّه بحكم الولد الواحد المتصل المستطيل الولادة، فيحكم على النقاء الأقل بكونه نفاسا و على الدماء المتخللة و إن كانت أزيد من عشرة بالنفاسية، الظاهر الثاني لحكم العرف بكونها ولادة واحدة.

مسألة [في مبدأ العشرة التي هي أكثر النفاس]

اعلم أنّ في مبدأ العشرة التي هي أكثر النفاس مطلبين مسلّمين:

الأوّل كونه من حين الفراغ من الولادة لا من حين ظهور أوّل جزء من الولد و إن كان النفاس من هذا الحين كما هو المنصوص، فلو فرض الفصل بين ظهور أوّل جزء و بين تمام الولادة بأيّام لم تحسب تلك الأيّام من العشرة، و الدليل عليه الإجماع، و الثاني أنّه من حين الفراغ و لو لم تر الدم لا من حين الرؤية و لو تأخر بأيّام ما دام الصدق العرفي باقيا، و الظاهر أنّه أيضا إجماعي و إن أفتى بخلافه المرحوم الحاج ميرزا حسين الخليلي الطهراني- قدّس سرّه- في حاشية نجاة العباد، و لكنّه مضافا إلى مخالفته للإجماع مخالف لظاهر قول النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم في قصّة أسماء حين سألته عن غسلها منذ كم ولدت، و قوله- عليه السّلام- في رواية مالك بن أعين منذ يوم وضعت إلخ فإن جعل الولادة و الوضع معرّفين لرؤية الدم بملاحظة الملازمة الغالبية خلاف الظاهر من كونهما مأخوذين على وجه الموضوعية.

مسألة: لو لم تر بعد الولادة إلّا اليوم العاشر فلا إشكال في نفاسيته مع الانقطاع

أو كونها غير ذات عادة أو ذات عادة عشرة، لأنّه مقتضى قاعدة

ص: 326

الإمكان، و أمّا مع التجاوز و كونها ذات عادة أقلّ من عشرة ففي كونه نفاسا كما هو مقتضى إطلاق العبائر أو عدم النفاس لها رأسا كما أفتى به في نجاة العباد و العروة الوثقى، وجهان مبنيان على أنّ مبدأ العادة المأمور بالرجوع إليها هل هو من حين الولادة أو من حين رؤية الدم في ضمن العشرة.

وجه الأوّل أنّه لا إشكال في أنّ مبدأ العشرة التي هي أكثر النفاس من حين الولادة كما تقدّم في المسألة السابقة، فإذا أمر بالرجوع إلى العادة مع الاستظهار بعدها إلى العشرة كان ذكر العشرة قرينة على كون مبدإ العادة أيضا من حين الولادة فحينئذ يحكم في مفروض المسألة بعدم النفاس لها رأسا.

و وجه الثاني: انّ الأمر في العشرة و إن كان كذلك، و لكن الأمر بترك الصلاة و القعود و الجلوس بمقدار عادتها لا تتمشى إلّا مع رؤية الدم و لا معنى له بدونها فلا بدّ من جعل مبدإ العادة من حين الرؤية في ضمن العشرة، و حينئذ فإمّا يقال بأنّ الحكم بنفاسية اليوم العاشر في مفروض المسألة مفهوم من الأخبار المذكورة، و إمّا يقال بأنّه خارج عن مدلولها، و لكنّه مقتضى قاعدة الإمكان، و على هذا فمن كانت عادتها خمسة و لم تر الدم إلّا رابع الولادة و استمر إلى العشرة و تجاوز عنها جعلت الرابع نفاسا و أكملته بما بعده و جعلت ما بعد الخمسة استحاضة.

و لو رأت بعد الولادة يوما ثم انقطع و رأت اليوم العاشر، فلا إشكال في نفاسيّة الدمين و ما بينهما مع الانقطاع أو كونها غير ذات عادة أو ذات عادة عشرة.

أمّا الدمان فلقاعدة الإمكان و أمّا ما تخلّل بينهما من النقاء فلئلّا يلزم كون الطهر أقل من عشرة.

ص: 327

و أمّا مع التجاوز و كونها ذات عادة أقل من عشرة فلو حكم بنفاسية الدّمين و ما بينهما يلزم جعل عدد تنفّسها و قعودها أكثر من عدد عادتها و هو خلاف ما يستفاد من الأخبار و إذن فلا محيص عن جعل الدم الأوّل نفاسا و الثاني استحاضة و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

و الحمد للّٰه أوّلا و آخرا و باطنا و ظاهرا.

هذا آخر ما وفّقنا اللّٰه تعالى لتحريره من مسائل الدماء الثلاثة و كان الفراغ من تحريره بيد مؤلفه الآثم الجاني محمد علي بن أحمد الفراهاني- عفى عنهما- في الليلة السابعة و العشرين من ذي القعدة الحرام من سنة 1366

ص: 328

المبحث الرابع: في أحكام الأموات و بعض ما يتعلّق بما قبل الموت «1»

[الأول في أحكام الاحتضار]

اشارة

و فيه مسائل:

مسألة: يجب عند ظهور أمارات الموت أداء ما في الذمة من الحقوق الواجبة

الإلهية أو الخلقيّة، و ردّ الأمانات و الودائع إلى أهلها مع الإمكان، و مع عدمه يجب الوصية بذلك و لا ينافي ذلك مع اشتراط التكليف بالقدرة و لا قدرة بعد الموت، فإنّ القدرة بالواسطة أيضا قدرة على الشي ء، و لو فرض الوثوق بإقدام الورثة أو غيرهم على الأداء و الردّ، بحيث لم تعد ترك الوصية مخالفة للتكليف بهما فلا دليل على وجوب الوصية من حيث نفسها و لا دلالة في قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ .. (1) بعد الإجماع على عدم


1- البقرة/ 180.

ص: 329

وجوب الوصية بشي ء للوالدين و الأقربين، كما لا شهادة في قوله- عليه السّلام-: «الوصية حقّ على كلّ مسلم» (1) بعد شهادة سياقه على الاستحباب مضافا إلى ظهور لفظة «ينبغي» الواقعة في خبر آخر.

مسألة: المشهور كما قيل: إنّه يجب توجيه المحتضر نحو القبلة و قيل: بل المشهور أنّه يستحب.

و استدل للأوّل: بما رواه في الفقيه مرسلا و في العلل مسندا عن أبي عبد اللّٰه، عن أمير المؤمنين- عليهما السلام- قال: «دخل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم على رجل من ولد عبد المطلب و هو في السوق و قد وجّه لغير القبلة، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: وجّهوه إلى القبلة فإنّكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة و أقبل اللّٰه عزّ و جلّ عليه بوجهه، فلم يزل كذلك حتى يقبض» (2).

و بمصححة سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- يقول:

«إذا مات لأحدكم ميّت فسجّوه تجاه القبلة، و كذلك إذا غسّل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة». (3)

و بموثقة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الميّت؟

فقال- عليه السّلام-: استقبل بباطن قدميه القبلة (4) و بالأخبار الواردة في بيان كيفية الاستقبال، لكن الأخبار الأخيرة واردة في مقام بيان الكيفية بعد الفراغ عن حكم أصله، و أمّا إنّه الوجوب أو الاستحباب


1- راجع الوسائل: باب 1 من أبواب الوصايا.
2- الوسائل: ج 2، باب 35 من أبواب الاحتضار، ح 6.
3- المصدر نفسه: ص 661، ح 2.
4- المصدر نفسه: ص 662، ح 4.

ص: 330

فليست بصدده.

و أمّا الرواية الأولى: فقد نوقش فيها بأنّها ظاهرة في الاستحباب بقرينة التعليل، فإنّ تعليل الأمر بمصلحة دنيوية أو أخروية راجعة إلى نفس المكلّف أو إلى غيره يوجب حمل الأمر إمّا على الإرشاد، أو على المولوية و الاستحباب. و من هنا قد يستشكل في استفادة الاستحباب أيضا لو فرض كون المرشد إليه دنيويا محضا كما في: ادخل الحمام غبّا فإنّه يكثر اللحم (1).

و دعوى الفرق بين المصلحة الراجعة إلى المكلف أو إلى غيره و أنّ ظهور الأمر في المولوية في القسم الثاني محفوظ، غاية الأمر تردّده بين الوجوب و الاستحباب لكن حكم العقل في مثله الاشتغال، فإنّ الأمر بعد إحراز مولويته حجّة على الامتثال إلى أن يعلم الترخيص في المخالفة، فعدم العلم بالترخيص كاف في الحجة العقلية و لا حاجة إلى العلم بالعدم، مدفوعة بأنّا لا نرى فرقا بين القسمين المذكورين في كونهما قرينة على الإرشاد أو الاستحباب، اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ.

التعليل بإقبال اللّٰه و إقبال الملائكة في مثل هذه الحال الّتي هي من أشدّ الحالات على المؤمن لكونه- و لو في غاية القوّة من الإيمان- في معرض سرقة الشيطان و الهلاك الدائم لا ينافي إرادة الوجوب، بل يؤكده لأنّه في قوّة التعليل بدفع الهلاك الخالد.

و أمّا الرواية الثانية: فذكر التسجية و هي التغطية، شاهد قوي على إرادة ما بعد الموت لعدم كون التغطية قبل الموت راجحا لو لم يكن مرجوحا.

و أمّا الرواية الثالثة: فالأمر دائر بين التصرف في المادة بحمل الميّت على إرادة


1- راجع الوسائل: باب 2 من أبواب آداب الحمّام.

ص: 331

المشرف بالموت، و بين التصرّف في الهيئة بحملها على الاستحباب مع إبقاء لفظة الميت على معناها الحقيقي، و لو لم يكن الثاني أرجح فلا أقل من المساواة مضافا إلى احتمال رجوع السؤال فيها إلى كيفية الاستقبال لا إلى أصله و معه يسقط عن الاستدلال رأسا كما هو واضح.

و الإنصاف أنّ إثبات دلالة الأخبار على الوجوب لا يخلو عن تعسف، ثمّ على تقدير القول به فالظاهر بمقتضى التعليل الواقع في المرسلة سقوط الوجوب بتحقق الموت فلا يجب إبقاؤه بعد الموت لو كان و لا احداثه لو لم يكن، نعم لا ريب في رجحانه بعده بمقتضى مصححة سليمان بن خالد المتقدمة، فإنّها ظاهرة في ما بعد الموت و محمولة على الاستحباب. أمّا حملها على الاستحباب فللإجماع، و أمّا ظهورها في ما بعد الموت فلوجهين:

الأوّل: ما تقدّم من اشتمالها على ذكر التسجية.

و الثاني: قوله- عليه السّلام-: «إذا مات لأحدكم ميّت» فإنّه لا بدّ من حمل لفظة «الميت» على المشرف بالموت، و لفظة «مات» على الموت الحقيقي، لفساد المعنى على تقدير حمل كليهما على الإشراف أو كليهما على الموت الحقيقي أو بالاختلاف على عكس ما ذكرنا.

ثمّ مقتضى عموم التعليل عدم الفرق بين الذكور و الإناث و هو واضح، و لا بين الصغير و الكبير بناء على أنّ الصغير أيضا له قابلية شمول الرحمة الّذي يكون إقبال اللّٰه و إقبال الملائكة كناية عنه، كما أنّ مقتضاه اختصاص الحكم بمن اعتقد المذهب الحق دون ما خالفه، و مقتضى عمومه عموم الحكم لنفس المحتضر لأولويته من غيره في استيفاء المصلحة المذكورة لنفسه.

ص: 332

مسألة: يستحب التعجيل في تجهيز الموتى

لتظافر الأخبار بذلك، و أنّه لو مات في الليل فلا يؤخّر إلى النهار، و لو مات في النهار فلا يؤخر إلى الليل، بل لو مات في أوّل النهار فلتكن قيلولته في القبر، و لكن هذا مع معلومية الحال و أمّا مع الاشتباه و عدم تحقّق الموت فلا بدّ من الصبر حتى يعلم لدوران الأمر بين فعل المستحب أو ترك الحرام، و من المعلوم تعيّن الثاني. و ما في بعض الأخبار من الصبر ثلاثة أيّام أو حتى يتغير ريحه محمول على كون ذلك سببا عاديا للعلم كانخساف الصدغين و انفصال الكفين و تقلّص الأنثيين، و نحوها ممّا هو معروف لدى الأطباء لا على الأمارية التعبدية، فلو فرض نادرا عدم تحقّق العلم من الأمرين فلا يجوز المبادرة إلى الدفن.

[الثاني في أحكام الغسل]

مسألة: المشهور بل المجمع عليه كما في كلام بعض: وجوب تغسيل الميت و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه وجوبا كفائيا

مع ثبوت حقّ الأولوية لأوليائه، بمعنى عدم جواز التصدي لغيرهم لو أرادوا المبادرة و اشتراط ذلك بإذنهم، خلافا لصاحب الحدائق فإنّه أوجب ذلك على الأولياء تعيينا و بعد امتناعهم أو عدمهم أو قصورهم على العامة كفاية، و لبعض آخر فإنّه جعل الأولياء كغيرهم في الوجوب الكفائي مع إثبات حقّ لهم بنحو الفضل و الاستحباب لا بنحو اللزوم و الإيجاب.

و قبل الخوض في أدلّة المسألة ينبغي تقديم أمرين:

الأوّل: أنّه ذكر بعضهم في عداد الأدلّة على الوجوب الكفائي أنّا نعلم أنّ مقصود الشارع وجود هذه الأفعال في الخارج من دون مدخلية لخصوص بعض المباشرين دون آخر، فاعترض على هذا الاستدلال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-

ص: 333

بإمكان كون المصلحة المقصودة قائمة بالفعل من أيّ مباشر صدر، و مع ذلك اقتضت المصلحة تخصيص الخطاب الإيجابي ببعض و عدمه رأسا في حقّ آخرين، أو ثبوته بنحو الاستحباب كما هو الحال في تغسيل الميت، حيث إنّه لو صدر من الصبي المميّز كان صحيحا و مع ذلك اختص الخطاب بغيره.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث اعترض على كلام شيخنا بما حاصله: أنّه بعد إحراز كون الفائدة مقصودة للشارع على وجه لا يرضى بتركها كيف لا يستكشف كون الفعل فرضا على الكفاية، و هل هو إلّا مثل ما لو نادى المولى أحد عبيده باسمه الخاص به مع إحراز عدم خصوصية له إلّا من باب الموردية مع عدم حضوره و حضور عبد آخر غير مسمى بذلك الاسم، فإنّه لا يشك أحد في أنّه يجب على ذلك الآخر إجابة المولى، هذا ما ذكره- قدّس سرّه- و لكنّه غفل عن أنّه كثيرا ما يكون للإنسان فائدة لازمة الاستيفاء في شي ء من الأشياء، و لكنّه مع ذلك يأبى عن تحميله على الغير المفسدة في نفس التحميل كما هو قضية قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك» و لهذا ذهب غير المشهور من العدلية إلى كون الأحكام تابعة لمصالح في المتعلّقات ما لم يزاحمها المفاسد في نفس الأحكام. و أما ما ذكره من المثال فهو من باب الخلط بين إحراز عمومية الفائدة و عمومية التحميل و المثال من الثاني و مقامنا من الأوّل كما هو واضح.

الأمر الثاني: أنّ ثبوت حقّ الأولوية اللزومية للأولياء غير ملازم مع تخصيص الخطاب بهم ضرورة أنّ امتيازهم من سائر المكلفين إنّما هو في الإرفاق بهم بجعل الولاية و السلطنة لهم، و هو مناف مع جعل الكلفة و المضيقة عليهم، و على هذا فحالهم حال سائر المكلفين في كونهم طرفا للوجوب الكفائي، و إنّما الفرق حصول

ص: 334

المكلّف به منهم بلا شرط و توقف حصوله من غيرهم على إذنهم و رضاهم لو كان عبادة من غير أن يحدث من ناحية هذا تكليف زائد بالنسبة إليهم حتى في إذنهم لمن عداهم، فيجوز لهم الامتناع منه بأن يقول الولي: حالي حال المكلّفين، غاية الأمر إنّه يجب حينئذ على غيره بواسطة الأهميّة الاقدام بغير اذنه كما لو توقّف إنقاذ المؤمن على التصرف في ملك الغير فلا يوجب ذلك تخصيص الخطاب بالمالك و لا إيجاب الإذن عليه.

نعم يجب على غيره الاستئذان منه أوّلا فإن امتنع وجب عليهم الإقدام بدون إذنه، و من هنا يعلم أنّه لا وجه لإجبار الحاكم له على الاذن و لا للاستئذان من الحاكم بعد تعذر الإجبار، إذ هذا فرع وجوب الاذن عليه و قد عرفت عدمه، نعم يأتي هذا على قول صاحب الحدائق.

إذا عرفت هذا فنقول: هنا مطلقا دالّة على وجوب غسل الميّت و أخواته من غير تخصيص بأحد و مقيدات تخصها بالأولياء.

فمن الثانية قول أمير المؤمنين- عليه السّلام- في خبر السكوني: «إذا حضر سلطان من سلطان اللّٰه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها إن قدمه ولي الميت و إلّا فهو غاصب». (1)

و خبر أبي بصير عن المرأة تموت من أحق أن يصلّي عليها؟ قال: «الزوج» قلت: الزوج أحقّ من الأب و الولد؟ قال: «نعم». (2)

و خبر إسحاق بن عمار: «الزوج أحقّ بامرأته حتى يضعها في قبرها». (3)


1- الوسائل: ج 2، باب 23، من أبواب صلاة الجنازة، ص 801، ح 4.
2- المصدر نفسه: باب 24، من أبواب صلاة الجنازة، ص 802، ح 1.
3- المصدر نفسه:، باب 23، من أبواب صلاة الجنازة، ص 801، ح 3.

ص: 335

و موثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي- عليهم السلام- أنّه قال:

«يغسل الميت أولى الناس به». (1)

و مرسلة الفقيه عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه قال: «يغسل الميت أولى الناس به أو من يأمره الولي بذلك». (2) مضافا إلى إمكان التمسك بآية أولى الأرحام لعدم اختصاصها بالإرث لدلالة حذف المتعلق على العموم.

فصاحب الحدائق- قدّس سرّه- جمع بين الطائفتين بحمل المطلقات على المقيدات بالتصرف في مادة المطلقات كما هو الحال في عامة الأبواب، و بعض آخر جمع بينهما بحمل المقيدات على المطلقات بالتصرف في هيئة المقيدات و المشهور قالوا: إنّ هنا قرائن تدل على عدم إرادة الحكم التكليفي من المقيدات حتّى يدور الأمر بين الجمع بأحد النحوين بل المراد صرف إثبات الحق و الحكم الوضعي. و قد عرفت في الأمر الثاني عدم استلزام ذلك لتخصيص الخطاب الكفائي أصلا و لا لإحداث خطاب زائد في حقّ الأولياء، فمن جملة تلك القرائن كلمة «أحق» الواقعة في غير واحد من الأخبار المتقدمة.

و من جملتها: التعبير بالغصب الذي سمعته في الخبر الأوّل.

و منها: التعبير بالأمر في الخبر الأخير فإنّ المناسب على تقدير إرادة التكليف أن يقول: أو من يلتمس منه الولي.

ثمّ إنّه قد يدّعى أنّ المراد من الأولى بالإنسان من هو أشدّ علاقة و ارتباطا به، و إرادة خصوص الوارث منه في باب قضاء الصوم و الصلاة لأجل قرينة هناك


1- الوسائل: ج 2، باب 23، باب 26، من أبواب غسل الميّت، ص 718، ح 1.
2- المصدر نفسه: ح 2.

ص: 336

لا تدل على إرادته هنا مع فقد القرينة.

و فيه: أنّه فرق بين ذكر لفظ مع القرينة و إرادة معنى خاص و ذكره على نحو الإطلاق و إرادة ذلك المعنى و ما ذكره إنّما يصح في القسم الأوّل و ما نحن فيه من الثاني.

و من هنا يتبيّن أنّ المراد بالأولويّة أيضا هي الفرضيّة لا الفضلية، بقرينة إرادة الأولى في باب الإرث.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ هذا الحق قائم بأشخاص الورثة نظير حق الاضطجاع القائم بشخص الزوجة فلا يقبل نيابة الغير، ألا ترى أنّ تجهيز الغير لميّت الإنسان يعد عارا على الإنسان عند العرف و لا ترتفع العاريّة بقيام الحاكم بذلك الأمر، و الظاهر أنّ جعل الشارع الحق المزبور يكون على هذا السبك و النمط، و على هذا فلو كان الوارث الفعلي غائبا أو قاصرا لصغير أو جنون أو رقّية فمقتضى القاعدة انتقال الولاية و الحق المزبور إلى الطبقة المتأخرة لا إلى الحاكم لما ذكر و لا سقوط الولاية رأسا لعموم دليلها.

و هل هذا الحق حق واحد منبسط على جميع الورثة ممن يكون في طبقة واحدة بحيث لا بدّ من اجتماع الجميع على الإذن و الرضا، أو يكون لكل واحد واحد منهم على الاستقلال؟ الظاهر هو الثاني و إن قلنا في حقّ الخيار الموروث بكونه من الأوّل و ذلك لأنّه المفهوم من المناسبة المقامية في المقامين.

نعم يستثنى من هذا الحكم موارد:

الأوّل: المتقرب بالأبوين فإنّه مقدّم على المتقرب بأحدهما في جميع الطبقات، كما أنّ المتقرب بالأب فقط مقدّم على المتقرب بالأم كذلك، و إن خالف

ص: 337

الإرث في المقامين لصحيحة الكناسي.

و الثاني: الأب فإنّه مقدّم على سائر من في طبقته، خلافا للإسكافي حيث قدّم الجدّ عليه و كفى بانحصار المخالف في الإسكافي تأييدا للإجماع.

و الثالث: الذكور من الورثة فإنّهم مقدمون على الإناث ممن في طبقتهم، و الظاهر أنّه أيضا إجماعي مضافا إلى إمكان دعوى الانصراف فيهم و في الأب.

و الرابع: الزوج فإنّه أحقّ بالزوجة من سائر الورثة و إن كان مشاركا معهم في باب الإرث، لموثقة إسحاق بن عمار: الزوج أحقّ بامرأته حتى يضعها في قبرها.

و في خبر أبي بصير: الزوج أحقّ من الأب و الولد مضافا إلى دعوى الاتّفاق المحكي في جملة من العبائر، و لا يعارضهما ما ورد في خبرين آخرين من أحقية الأخ من الزوج لإعراض الأصحاب عنهما، و أمّا الزوجة فحالها حال سائر الورثة من غير تقدّم لها على غيرها. فعموم دليل ولاية مطلق الوارث في موردها سليمة عن المخصص و إن نقل القول بالاختصاص في حقّها أيضا عن بعض، لكنّه ضعيف.

ثمّ لا فرق في ولاية الزوج على الزوجة بين الدائمة و المنقطعة لإطلاق الموثقة.

و في إطلاقها لما إذا كانت أمة أو كان الزوج عبدا إشكال، بل منع لعدم أهلية العبد للوارثية و عدم الولاية على المملوك إلّا لسيده.

و هل الحكم شامل للمطلّقة الرجعية؟ الظاهر ذلك لعدم قصور دليل تنزيلها منزلة الزوجة في شمول المقام كعدم قصوره في إثبات التوارث بينهما و في تحريم الخامسة.

و لو أوصى لأجنبي بتجهيزه فهل الوصية باطلة لكونه جنفا و تضييعا لحق

ص: 338

الورثة أو صحيحة بملاحظة أنّ جعل الولاية للورثة إنّما هو لمراعاة حقّ الميت لا لحقهم فإذا جعل هو ذلك لغيرهم كان أحق؟ وجهان لا يبعد الذهاب إلى الثاني لانصراف دليل الولاية عن صورة الوصية.

مسألة [في موضوع الزوج و الزوجة و تجهيز أحدهما الآخر]

اعلم أنّ في موضوع الزوج و الزوجة مسألتين:

الأولى: ثبوت الولاية لأحدهما في أمور تجهيز الآخر من الغسل و أخواته، و قد عرفت وجود الدليل و دعوى الاتفاق في حقّ الزوج و عدمهما في طرف الزوجة و إن كان فيه قول ضعيف.

و الثانية: جواز تصدّي كل منهما لمباشرة خصوص تغسيل الآخر مع إمكان المماثل و هذه مسألة أخرى لإمكان ثبوت الولاية بالأعم من المباشرة و التسبيب و عدم جواز خصوص المباشرة كما في بنت العم بالنسبة إلى ابن العم و إمكان جواز المباشرة مع عدم الولاية كما في الأجنبي المماثل، و الدليل في هذه المسألة الثانية في طرف الزوجة أظهر منه في طرف الزوج و القول به كذلك أشهر على عكس الحال في المسألة الأولى. و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث إنّه مع تنبّهه بهذا في ما تقدّم في ردّ من خصص الولاية بالمحارم من الورثة مستدلا بأنّ جواز المباشرة و لو في بعض التقادير إنّما يثبت في حقّهم دون غيرهم، فأجاب بما يرجع إلى أنّ المسألتين ليستا من واد واحد غفل عن حقيقة الحال في هذا المقام فاستدلّ على جواز تصدي الزوج لتغسيل الزوجة بدليل ولايته كالموثقة المتقدمة.

و إذا عرفت ذلك فنقول: لا إشكال في جواز تغسيل كل منهما صاحبه في حال الاضطرار و عدم وجود المماثل و القول بعدم الجواز رأسا حتى في الحال المذكور مفقود القائل بين الإمامية- رضوان اللّٰه عليهم-، و أمّا حال الاختيار و وجود المماثل،

ص: 339

ففي الجواز و عدمه قولان: و على القول بالجواز إمّا مطلقا أو في خصوص الاضطرار، فهل يشترط كونه من وراء الثياب في الطرفين أو لا يشترط كذلك أو يشترط في خصوص تغسيل الزوج زوجته دون العكس، أو يشترط في كلّ منهما في خصوص العورة دون غيرها؟ أقوال، منشأها اختلاف الأخبار فإنّها بين طوائف:

الأولى: ما دلّ بظاهره على الجواز في الطرفين حتّى في حال الاختيار مع التجرّد و لو في العورة، مثل: صحيحة ابن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل أ يصلح أن ينظر إلى امرأته حين تموت أو يغسّلها إن لم يكن عندها من يغسّلها، و عن المرأة هل تنظر إلى مثل ذلك من زوجها حين يموت؟ قال- عليه السّلام-:

«لا بأس بذلك إنّما يفعل ذلك أهل المرأة كراهة أن ينظر زوجها إلى شي ء يكرهونه منها» (1).

و صحيحة محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يغسّل امرأته؟ قال- عليه السّلام-: «نعم إنّما يمنعها أهلها تعصّبا» (2).

و الثانية: ما دلّ على الجواز في طرف الزوجة و المنع من طرف الزوج مثل:

صحيحة زرارة عن الصادق- عليه السّلام- في الرجل يموت و ليس معه إلّا النساء؟

قال: «تغسّله امرأته لأنّها منه في عدة و إذا ماتت لم يغسّلها لأنّه ليس منها في عدة» (3).

الثالثة: ما دلّ على تقييد الجواز بحال الاضطرار، مثل رواية أبي حمزة عن


1- الوسائل: ج 2، باب 24، من أبواب غسل الميّت، ص 713، ح 1.
2- المصدر نفسه: ص 714، ح 4.
3- المصدر نفسه: ص 716، ح 13.

ص: 340

الباقر- عليه السّلام- قال: «لا يغسل الرجل المرأة إلّا أن لا توجد امرأة». (1)

و مثل رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: «يغسل الزوج امرأته في السفر و المرأة زوجها في السفر إذا لم يكن معهم رجل». (2)

و الرابعة: ما دلّ على تقييد الجواز في خصوص الزوج دون الزوجة بكونه من وراء الثياب معلّلا بانقضاء عدتها في موتها دون موته، مثل صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سئل عن الرجل يغسّل امرأته؟ قال- عليه السّلام-: «نعم من وراء الثوب لا ينظر إلى شعرها و لا إلى شي ء منها و المرأة تغسل زوجها لأنّه إذا مات كانت في عدة منه و إذا ماتت هي فقد انقضت عدّتها». (3)

و في بعض الروايات تبديل الثوب بالقميص، و في بعضها تبديله بالدرع، و في بعضها تبديل التعليل بانقضاء العدّة بكون المرأة أسوأ منظرا من الرجل حين تموت.

و الخامسة: ما دلّ على التقييد المزبور في كلا الطرفين مثل رواية زيد الشحام قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن امرأة ماتت و هي في موضع ليس معهم امرأة غيرها؟ قال- عليه السّلام-: إن لم يكن فيهم لها زوج و لا ذو رحم دفنوها بثيابها و لا يغسّلونها، و إن كان معهم زوجها أو ذو رحم لها فليغسّلها من غير أن ينظر إلى عورتها قال: و سألته عن رجل مات في السفر مع نساء ليس معهنّ رجل؟ فقال: إن لم يكن له فيهنّ امرأة فليدفن في ثيابه و لا يغسّل، و إن كان له فيهنّ امرأة فليغسل في


1- الوسائل: ج 2، باب 22، من أبواب غسل الميّت، ص 711، ح 7.
2- المصدر نفسه: باب 24، من أبواب غسل الميّت، ص 716، ح 14.
3- المصدر نفسه: ص 716، ح 11.

ص: 341

قميص من غير أن تنظر إلى عورته. (1)

و السادسة: ما دلّ على التقييد المزبور في خصوص العورة مثل صحيحة منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل يخرج في السفر و معه امرأته يغسّلها؟ قال: نعم و أمّه و أخته و نحوهما يلقي على عورتها خرقة. (2)

و ملخص الكلام في جمعها أنّ المستفاد من صحيحة ابن سنان جواز الغسل من الطرفين و حلّية النظر لهما حتّى حال الغسل، و إطلاقها يشمل العورة أيضا و أنّه لا مانع من ذلك من طرف الشرع و أنّ المانع منحصر في أمر عادي هو كراهة أهل المرأة من أن ينظر الزوج إلى شي ء يكرهونه و ممانعتهم عنها تعصبا، ألا ترى أنّه لو قيل لا بدّ أن لا يأكل الشخص الرئيس الزمان في السوق لأنّ الناس يرونه عيبا، يفهم أنّ المنع المذكور ليس إلّا لأمر أخلاقي، و لذا لا يناسب مثله في النهي عن شرب الخمر، فكذا لو قيل لو اجتمع الزوج مع أهل المرأة فإنّما لا يفعل الغسل الزوج، لأنّ أهلها و نساءها يرونه عيبا و يكرهونه غيرة و تعصّبا يفهم منه أنّه ليس في البين منع شرعي.

و على هذا فلا بدّ من تقييد [حمل] صحيحة زرارة الدالة على المنع في طرف الزوج على الكراهة جمعا بينها و بين الصحيحة المزبورة مضافا إلى أنّ ظاهرها المنع التحريمي مطلقا حتى اضطرارا، و هو مخالف للإجماع. و من هنا يظهر الوجه في ما دلّ على التقييد بحال الاضطرار فإنّه أيضا لأجل الفرار عن الكراهة لأظهرية الصحيحة منها.


1- الوسائل: ج 2، باب 20، من أبواب غسل الميّت، ص 707، ح 7.
2- المصدر نفسه: باب 20، من أبواب غسل الميّت، ص 705، ح 1.

ص: 342

و المستفاد من صحيحة الحلبي و إن كان حرمة النظر و انّ الأمر بالتستر مقدّمة له لا ملحوظا على وجه الموضوعية و الشرطية في صحة الغسل تعبّدا كما هو المستفاد من التعليل بانقضاء العدّة، لكن يجب رفع اليد عنه بحمله على الكراهة لصراحة صحيحة ابن سنان في حلّية النظر.

بل يمكن القول بالحليّة و الجواز في العورة أيضا و ذلك لبقاء علقة الزوجية بعد الموت أيضا، و كما كانت قبل الموت مجوزة للنظر إلى العورة فكذلك بعدها. و لهذا لو قيل يحلّ نظر كل منهما إلى صاحبه يتبادر إلى الذهن بقاء الحلّية الّتي كانت قبل الموت.

و لا ينافي ذلك التعليل بانقضاء العدّة في صحيحة الحلبي، إذ ليس المراد به الانقطاع الرأسي قطعا و إلّا لما جاز أصل الغسل، بل المراد ضعف مرتبتها مع بقاء سنخها، فغاية الأمر حدوث الكراهة من جهة الضعف المذكور لا التفكيك بين العورة و غيرها، و بالجملة: دليل الرخصة أظهر في شمول العورة من دليل الأمر بالتستر في الإيجاب.

و ينبغي التنبيه على أمور: الأوّل: على ما اخترناه من القول باستحباب كون الغسل من وراء الثوب يسهل الأمر في اختلاف الأخبار، حيث إنّ في بعضها ذكر الثوب و في آخر القميص و في ثالث الدرع و في رابع الاقتصار على إلقاء خرقة على العورة، فيحمل ذلك على اختلاف مراتب الفضل.

و أمّا على القول بالوجوب فالأمر في غاية الإشكال، فإنّ مقتضى روايات القميص و الدرع و ما ذكر فيه الثوب مطلقا جواز كشف الوجه و الكفين و القدمين لأنّ الثوب محمول على المتعارف و مقتضى ما ذكر فيه الثوب مقيدا بالنهي عن

ص: 343

النظر إلى شعرها و إلى شي ء منها لزوم ستر جميع البدن إلّا أن يحمل الثوب على المتعارف، و يقال بحرمة النظر إلى الأمور الثلاثة من دون وجوب سترها، و يقال أيضا بأغلظيّة الوجوب في العورة بملاحظة ما اقتصر فيه عليها.

الثاني: على كل من القولين المذكورين من الاستحباب أو الوجوب هل يكفي صبّ الماء في طهارة الثوب أو لا بدّ من عصره في خلال الأغسال الثلاثة؟

قد يقال بالأوّل نظرا إلى كونه ممّا لا يقبل العصر ما دام ملاصقا بالبدن.

و فيه: أنّه و إن لم يمكن عصره بأجمعه ما دام الملاصقة و لكن يمكن عصره جزءا فجزءا على التدريج، و قد يقال بالأوّل أيضا أخذا بالإطلاق.

و فيه: أنّه فرع كونه ناظرا إلى هذه الجهة و هو ممنوع، فإذا بيّن في موضع آخر اختلاف ما يقبل العصر و ما لا يقبله في كيفية التطهير فالإطلاق في المقام مبني على الإحالة إلى ذلك الموضع و أيّ فرق بين اعتبار العصر في ما يقبله و بين اعتبار كون الغسل بالماء المطلق دون المضاف، فكما أنّ الإطلاق غير ناظر إلى الجهة الثانية فكذلك الأولى.

نعم لو قلنا بشمول الإطلاق للجهة المذكورة أمكن القول بسقوط العصر، بل بعدم تنجس الثوب بملاقاة الميت رأسا لعدم الترجيح في رفع اليد عن دليل العصر على دليل تنجس الملاقي للنجس.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى لزوم العصر بطلان الأغسال بدونه، و ذلك لاعتبار طهارة بدن الميت من النجاسة العرضية الّتي منها ما حصل بملاقاة الثوب، فما في كلام بعض الأعلام من المفروغية عن صحّة الأغسال و حصول الطهارة للميت بدون العصر ممّا لا يعلم له وجه، و ليعلم أنّ إجراء التبعية هنا كما في الإناء الذي

ص: 344

يغسل فيه الثوب مرتين و لو قلنا بوجوب التثليث فيه في مقام آخر خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلّا بدليل قاطع و إذ ليس فليس.

الثالث: لا فرق في الزوجة بين الدائمة و المنقطعة و هل يشمل الحكم للمعتدّة الرجعية في العدّة؟ وجهان تقدما في مسألة الولاية، فإنّ الكلام هنا هو الكلام هناك حرفا بحرف. و هل يجري الحكم في الزوجة بعد انقضاء عدة الوفاة كما لو اتفق عدم حصول الغسل عصيانا أو لعذر مع عدم تلاشي البدن في طول تلك المدّة فيجوز للزوجة غسله و أشد إشكالا ما إذا صارت مزوجة للغير، قد يقال بعدم الجواز نظرا إلى صيرورتها حينئذ أجنبيّة و انقطاع علقتها.

و فيه: أنّ هذا المعنى كان محقّقا من الأوّل و العدة أمر تعبّدي، و لهذا جاز للزوج في صورة موتها تزويج الخامسة من ابتداء الأمر بلا مهلة، فالذي هو المناط للجواز هو التلبس بالزوجية حين الموت و إن انقضت بسببه، و هذا لا فرق في تحقّقه بين ما قبل العدّة و ما بعدها، و ما قبل المنكوحيّة و ما بعدها، و قد يقال أيضا بالعدم نظرا إلى كون الفرض من الفروض النادرة الّتي ينصرف عنها الإطلاق فلا يعمّه دليل الجواز.

و فيه: أنّه انصراف بدوي يزول بالتأمّل. نعم لو فرض القطع بهذا الانصراف أو الشك فيه كان المرجع حينئذ عموم ما دلّ على اعتبار المماثلة.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث جعل المرجع حينئذ استصحاب حكم الخاص دون عموم العام، بل لو فرض عدم جريان الاستصحاب إمّا للخدشة في أصله أو في موضوعه، لكان المرجع أصالة الإباحة نظرا إلى أنّ المرأة لا تصير باعتبار ما قبل العدّة و ما بعدها فردين للعام المذكور،

ص: 345

فلا يلزم من خروجها في ما بعد العدّة تخصيص زائد.

و أنت خبير بأنّ هذا الكلام على تقدير تماميته و سلامته عن إشكال في أصله مقرر في محلّه إنّما يتم في ما إذا فرض خروج الفرد في الزمان الأوّل باعتبار ذاته من دون وجود عنوان في البين و لو بحسب القدر المتيقن، و إلّا كان من باب التقييد، و يرجع في ما زاد على القدر المتيقن إلى الإطلاق و العموم الأحوالي لا الأفرادي، و ما نحن فيه من هذا القبيل فإنّ الخارج ليست المرأة باعتبار ذاتها، بل إمّا باعتبار كونها معتدة أو الأعم، أعني: زوجيتها الحاصلة حين الموت، فاللازم الرجوع في ما زاد على المتيقن و هو ما بعد العدّة إلى إطلاق دليل اعتبار المماثلة، فالمقام من قبيل ما إذا خرج من عموم أكرم العلماء الفاسق و تردّد أمره بين خصوص مرتكب الكبيرة، أو الأعم منها و من الصغيرة.

مسألة [في اعتبار المماثلة بين الغاسل و الميت و ما يستثنى منه]

يستثنى من اعتبار المماثلة بين الغاسل و الميت تغسيل المولى أمته بشرط عدم كونها مزوّجة و لا معتدة و لا مبعضة و لا مكاتبة، و في بعض الكلمات حكاية عدم الخلاف فيه.

و أمّا تغسيل الأمة مولاها بالشرط المذكور ففيه أقوال ثلاثة: الجواز مطلقا، و المنع كذلك، و التفصيل بين أمّ الولد فالجواز و غيرها فالمنع.

و الحقّ أن يقال: زوال علقة الملكية لخروج أحد الطرفين عن الأهلية بعروض الموت لا يوجب زوال المحرمية من حيث جواز النظر و اللمس، و ذلك لصدق المولى و الأمة بعد الموت كصدقهما قبله بلا فرق كعدم الفرق في صدق الأبوّة و البنوّة بين حالتي حياة الأب و الابن و موتهما، و أمّا جواز تغسيل كل منهما صاحبه، فإن صحّ دعوى انصراف دليل اعتبار المماثلة عنهما فهو، و إلّا أمكن رفع اليد عن

ص: 346

عمومه في تغسيل المولى أمته بواسطة عدم الخلاف و في عكسه في خصوص أمّ الولد لرواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه: أنّ علي بن الحسين- عليهما السلام- أوصى أن تغسّله أم ولد له فغسّلته، و ما عن الفقه الرضوي: و يروى أنّ علي بن الحسين- عليهما السلام- لما مات قال الباقر- عليه السّلام-: لقد كنت أكره أن أنظر إلى عورتك في حياتك، فما أنا بالذي أنظر إليها بعد موتك فأدخل يده و غسّل جسده، ثم دعا أم ولد له فأدخلت يدها فغسّلت عورته، و كذلك فعلت أنا بأبي.

فإنّ هذه الرواية عن مولانا الباقر- عليه السّلام- إمّا من مولانا الرضا- صلوات اللّٰه عليه- و إمّا من واحد من أجلّة الفقهاء و على كل تقدير يفيد المدّعى.

مسألة: مع فقد المماثل المسلم و المحارم يجوز تغسيل المماثل الكتابي

لموثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث قال: قلت: فإن مات رجل مسلم و ليس معه رجل مسلم و لا امرأة مسلمة من ذوي قرابته و معه رجال نصارى و نساء مسلمات ليس بينه و بينهن قرابة؟ قال: يغتسل النصارى ثمّ يغسّلونه فقد اضطر، و عن المرأة المسلمة تموت و ليس معها امرأة مسلمة و رجل مسلم من ذوي قرابتها و معها نصرانية و رجال مسلمون و ليس بينها و بينهم قرابة؟ قال: تغتسل النصرانية ثم تغسلها. (1) و مثلها رواية عمرو بن خالد، و ما عن الفقه الرضوي.

و هل يعتبر كون الغسل بالماء الكثير أو كونه على وجه لا تسري النجاسة إلى الماء و بدن الميت أو لا يعتبر؟ الظاهر الثاني لبعد حمل الرواية على الصورة المذكورة فيقال بالعفو عن النجاسة في هذا المقام أو بعدم انفعال الملاقي كما قيل به في ماء الاستنجاء، و هل يسقط اعتبار نيّة القربة هاهنا لعدم تمشّيها من الكافر


1- الوسائل: ج 2، باب 19، من أبواب غسل الميّت، ص 704، ح 1.

ص: 347

المعتقد بعدم الحقية أو يعتبر تحقّقها من المسلم الآمر للكافر؟ لا يبعد الثاني فإنّه و إن لم يقع في الرواية تصريح بالأمر المذكور، و لكنّه ممّا لا ينفك غالبا عن الموضوع.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث التجأ إلى إنكار اعتبار قصد القربة في غسل الميت رأسا و أنّ المعتبر إنّما هو قصد العنوان، و الظاهر تفرّده بهذا القول و تصحيح أخذ الأجرة على الغسل كما هو المتداول في عصرنا غير متوقف على اختيار هذا القول فإنّ حاله حال سائر العبادات الاستيجارية.

فإن قلت: ما الدليل على اعتبار قصد القربة في هذا المقام فانّ المفروض عدم تمشيه من المباشر بعد اعتقاده بعدم مقربية العمل و القول باعتباره في حقّ السبب ليس إلّا كالقول باعتبار المسح على رأس الغير في ما إذا تعذّر المسح على رأس نفسه في باب الوضوء؟

قلت: الفرق بين المثال و ما نحن فيه أنّ الغير هناك أجنبي عن الخطاب بهذا الوضوء رأسا بخلاف المقام، فإنّ التكليف بالغسل لا محالة متوجّه إلى المسلم، غاية الأمر بآلية الكتابي لوضوح لغوية توجّهه إلى الكافر مع وصف كفره كما هو المفروض، فاعتباره في حقّ السبب نظير اعتبار المسح على المرارة الموضوعة على بشرة الممسوح، حيث قال الإمام- عليه السّلام-: تعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه، فما نحن فيه داخل في أشباهه مضافا إلى كونه مقتضى الاستصحاب، و إلى كون المقام من قبيل الشك في المحصل.

ثمّ إنّه يجب بمقتضى النص اغتسال الكتابي أوّلا بمعنى غسل يديه من النجاسات العرضية لئلّا يتلوث بدن الميت بها لعدم حصول الاضطرار بالنسبة إليها.

ص: 348

كما أنّه يجب الاقتصار في هذا الحكم على الكتابي لعدم قيام الدليل في غيره من الكفّار، فيجب الاقتصار في الحكم المخالف للأصل على موضع اليقين.

و هل يجزي هذا الغسل بعد تحقّقه لو وجد المماثل المسلم أو غير المماثل المحرم بعد ذلك أو لا؟ قولان: ذهب إلى كل منهما قائل و لا يبعد الثاني، نظرا إلى إطلاق مادة الخطاب بالغسل التام، فإنّ مقتضاه بقاء مقدار لازم الاستيفاء من مصلحة المأمور به عند تعذّر الخصوصية المذكورة، غاية الأمر سقوط التكليف باستيفائه ما دام التعذّر، فإذا ارتفع عاد التكليف بالاستيفاء في ضمن الفعل التام و لا ينافي هذا مع كون الغسل الصادر من الكتابي من عين تلك الطبيعة الصادرة من المسلم كما يظهر من بعض الأعاظم- قدّس سرّه-، حيث ذكر أنّ لازم القول بعدم الاجزاء كون ما صدر من الكتابي غسلا صوريا لا حقيقيا و هو خلاف ظاهر الأدلّة.

وجه عدم المنافاة أنّه و إن كان من أفراد تلك الطبيعة و مفيدا لآثارها من سقوط الغسل بالمس بعده و طهارة بدن الميّت بسببه و نحو ذلك، لكن الطبيعة المذكورة من قبيل الطبائع المشككة.

مسألة: تغسيل الرجل محارمه

أي من يحرم عليه نكاحها مؤبّدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة، و كذا تغسيل المرأة محارمها ممّا لا إشكال في جوازه في الجملة، بمعنى عدم السلب الكلي حتى في حال الاضطرار و عدم المماثل بحيث يدفن الميت بلا غسل، بل و لا إشكال أيضا في تقدّمه على تغسيل الكتابي المماثل، كما أنّ عنوان المحرم أعم ممّن يكون محرميته بسبب المصاهرة كما هو واضح. إنّما الإشكال في مقامين

ص: 349

الأوّل: في أنّه هل يجب ستر جميع البدن أو يجوز التجرد في ما عدا العورة؟

و الثاني: هل يختص الجواز بحال الاضطرار و عدم المماثل المسلم أو يعمّ حال الاختيار أيضا؟

مقتضى الاستصحاب في المقام الأوّل جواز التجرد في ما عدا العورة و حرمته فيها، و هو أيضا مقتضى الجمع بين الأخبار، فإنّها بين ما ذكر فيه كون الغسل من وراء الثوب، و ما ذكر فيه كونه من وراء القميص، و ما ذكر فيه كونه من فوق الدرع و ما اقتصر فيه على إلقاء شي ء على العورة، أو جعل مئزر للميت.

و مقتضى الطائفة الأخيرة جواز الاكتفاء بستر العورة و أنّ ذكر الثوب و نحوه في الطائفة الأولى، إنّما هو للمحافظة على حفظها، أو للاستحباب أو لعدم وقوع نظر الأجانب، حيث فرض في بعضها معاونتهم في صبّ الماء، و هكذا الكلام في المس، فانّ مقتضى الاستصحاب جوازه في ما عدا العورة و حرمته فيها و هو أيضا مقتضى الجمع بين المنع منه في بعض الأخبار و التصريح بجوازه في ما عدا العورة في خبر آخر.

و مقتضى القاعدة في المقام الثاني الاقتصار على حال الاضطرار لاختصاص مورد الأخبار كلا بمورد الضرورة.

نعم ما يتوهم فيه الإطلاق خصوص صحيحة منصور قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام-: عن الرجل يخرج في السفر و معه امرأته يغسّلها؟ قال: «نعم و أمّه و أخته و نحوهما يلقي على عورتها خرقة».

و يمكن القول فيها أيضا بعدم الإطلاق بدعوى أنّ الاضطرار غير منحصر

ص: 350

بعدم وجود المماثل، بل أعم منه و من امتناعه و عدم حضوره على الإقدام مع وجوده، و الأوّل و إن كان نادرا، و لكن الثاني ممّا لا ندرة فيه في السفر على ما هو الغالب فيه من عدم المرأة الغسالة و امتناع من سواها من النسوة، و على هذا فيبقى ما دلّ على التقييد مثل قول الباقر- عليه السّلام- في خبر أبي حمزة: «لا يغسل الرجل المرأة إلّا أن لا توجد امرأة» و قول الصادق- عليه السّلام- في خبر عبد اللّٰه بن سنان: «إذا مات الرجل مع النساء غسّلته امرأته، فإن لم تكن امرأته معه غسّلته أولاهنّ به» سليما عن المعارض.

ثمّ إنّ الظاهر عدم الخلاف في إجزاء هذا الغسل و عدم لزوم إعادته لو فرض التمكّن بعده من المماثل الغير الممتنع، و لولاه لكان مقتضى القاعدة عدمه كما مرّ في تغسيل الكتابي، مضافا إلى أنّ تغسيل الكتابي مخالف للقاعدة من جهات كما مرّ و تغسيل المحارم ليس فيه مخالفة قاعدة إلّا فقد خصوصية المماثلة.

مسألة: لا يجوز تغسيل الأجنبي للأجنبيّة و لا الأجنبيّة للأجنبي

و لو مع فقد المماثل مسلما أو كتابيا و فقد المحارم، بل يدفن الرجل كما هو في ثيابه، و المرأة كما هي بثيابها، و عن المعتبر و التذكرة دعوى الإجماع عليه، و عن الجواهر أنّه المشهور شهرة كادت تكون إجماعا.

و تدل عليه صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه سأله عن المرأة تموت في السفر و ليس معها ذو محرم و لا نساء؟ قال- عليه السّلام-: «تدفن كما هي بثيابها» و عن الرجل يموت و ليس معه إلّا النساء ليس معهنّ رجال؟ قال- عليه السّلام-: «يدفن كما هو بثيابه» و بمضمونها عدّة روايات أخر. (1)


1- الوسائل: ج 2، باب 21، من أبواب غسل الميّت، ص 708، ح 1.

ص: 351

خلافا للشيخين و الحلبي و ابن زهرة و المحدّث الكاشاني في المفاتيح فأوجبوا تغسيل الأجنبي و الأجنبيّة في الصورة المذكورة من وراء الثياب استنادا إلى أخبار بعضها ممّا لا إطلاق له كقوله- عليه السّلام- في رواية أبي حمزة: «لا يغسل الرجل المرأة إلّا أن لا توجد امرأة»، فإنّه ليس في مقام إثبات الحكم المنفي في المستثنى منه في جانب المستثنى إلّا بنحو الإهمال و الموجبة الجزئية كما في نظائره من قوله- عليه السّلام-:

«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و «لا صلاة إلّا بطهور» و نحوهما.

و بعضها مطلقات قابلة للتقييد بصورة المحرمية بقرينة الصحيحة المتقدمة.

و بعضها و إن كان نصّا في الجواز مع فرض فقد المماثل و المحارم و لكنّه بواسطة إعراض المشهور إلّا من شذّ- مع وضوح الجمع العرفي بينه و بين أخبار المنع بحمله على استحباب الفعل و حمل المنع لكونه في مقام توهّم الوجوب على الرخصة في الترك- غير صالح للاستناد لسقوطه بذلك عن الحجية و لو مع عدم المعارض فإنّ السند كلّما ازداد قوّة ازداد بواسطة الإعراض و هنا فضلا عمّا لم يكن له بحسب الذات أيضا قوّة كما هو الحال في الأخبار المذكورة فراجع، و اذن فالأقوى ما عليه المشهور.

مسألة [في مستثنيات تغسيل الأجنبي للأجنبية و بالعكس]

يستثنى من عموم المنع في تغسيل الأجنبي للأجنبية و بالعكس تغسيل المرأة لابن ثلاث سنين فما دون و لو مع التجرّد حتى في العورة و مع إمكان المماثل، و تغسيل الرجل لبنت ثلاث سنين فما دون كذلك، و عن النهاية و التذكرة دعوى الإجماع على الحكمين.

و يدلّ على أصل الحكم في جانب الابن موثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه سئل عن الصبي تغسّله امرأة؟ فقال: إنّما يغسل الصبيان النساء، و عن

ص: 352

الصبية تموت فلا تصاب امرأة تغسّلها؟ قال- عليه السّلام- و يغسلها رجل أولى الناس بها. (1)

و على تحديده بالثلاث رواية أبي النمير مولى الحارث بن المغيرة التي ضعفها مجبور بالعمل، قال قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: حدّثني عن الصبي إلى كم تغسّله النساء؟ فقال- عليه السّلام-: إلى ثلاث سنين (2)، و إطلاق الرواية الأولى شامل لحالتي الاختيار و التجرّد و لو في العورة مضافا إلى عدم الدليل على حرمة النظر إلى العورة مع عدم التميّز كما هو الغالب في الأطفال في هذا السن.

و أمّا في جانب البنت فيكفينا في إثبات أصل الحكم العمومات مع عدم اندراج البنت في أدلّة المنع عن تغسيل غير المماثل لاختصاصه بالمرأة مع وضوح عدم صدقها على البنت، و بضميمة عدم الدليل على حرمة النظر إلى العورة في هذا السن، و وجود النص الصحيح على جواز النظر إلى البنت ما لم تبلغ يتم المدعى.

و قد يتوهّم الدلالة على المنع في جانب البنت من موثقة عمّار المتقدمة بدعوى أنّ المراد بالأولى هو المحرم و إلّا فلا وجه لإرادة الولي بالمعنى الأعم لعدم القائل بالاختصاص به بذاك المعنى.

و فيه: أنّه من الممكن أنّ الوجه في تغيير الأسلوب استنكار هذا المعنى في البنت و عدمه في الابن كما هو المشاهد عند العرف، و هو الوجه أيضا في التقييد في السؤال بقوله: فلا تصاب امرأة.


1- الوسائل: ج 2، باب 23، من أبواب غسل الميّت، ص 712، ح 2.
2- المصدر نفسه: ح 1.

ص: 353

و أمّا التحديد بالثلاث فلا مستند له في البنت إلّا دعوى أنّه إذا كان الحدّ في الابن مع عدم الاستنكار هو الثلاث فلا بدّ أن يكون هو الحدّ في البنت التي عرفت الاستنكار فيها و إلّا يلزم كون الابن أسوأ حالا منها و لعلّه بضميمة الشهرة المحقّقة و الإجماعات المنقولة كاف في المطلوب.

نعم ورد رواية بالتحديد بالخمس و لكنّها بواسطة إعراض الأصحاب إلّا من شذّ غير قابل للاعتماد.

ثمّ المراد بالثلاث ما كان مبدؤه حين الولادة و منتهاه حين الموت، لا حين الغسل كما هو واضح، و إن صدر خلافه عن جامع المقاصد.

مسألة: الخنثى المشكل لو كان له ثلاث سنين فأقل جاز لكل من الطائفتين غسله

بلا إشكال، كما أنّه لو كان له أمّة و قلنا بجواز غسل الأمة مولاها اختيارا، غسّلته أمته و لا إشكال.

إنّما الكلام في ما إذا لم يكن له أمة و كان له أكثر من ثلاث سنين فإن كان له محرم فقد يقال بجواز تغسيل المحرم إياه، نظرا إلى أنّ هذا من مواقع الضرورة المبيحة لغسل المحرم لعدم الفرق في تحقّقها بين عدم وجود المماثل و بين عدم إمكان الوقوف عليه مع وجوده. و فيه نظر واضح لإمكان تحصيل القيد بتكرار الغسل.

و حينئذ فقد يقال في هذه الصورة كما في صورة عدم المحرم بارتفاع التكليف ظاهرا نظرا إلى أنّ كلا من الطائفتين شاك في حصول الشرط في حقّ نفسه، و الشك في الشرط شك في المشروط، فالمقام من قبيل واجدي المني في الثوب المشترك.

و فيه: أنّ القيد المذكور ليس شرطا للوجوب بل إنّما هو شرط للوجود،

ص: 354

و الواجب تحصيل المقيد أعني غسل المماثل بالأعم من المباشرة و التسبيب، و على هذا فيجب الاحتياط بإيجاد الغسل من كل من الطائفتين تحصيلا للفراغ القطعي عن الشغل اليقيني بالواجب الكفائي.

نعم لو استلزم الاحتياط وقوع المكلّف في النظر و اللمس المحرّمين كما لو لم يمكن الغسل إلّا مع التجرد و مع عدم تغميض العينين، كان المقام حينئذ من قبيل واجدي المني فإنّ التسبيب إلى غسل كل منهما مستلزم للمحذور و إلى غسل أحدهما مشكوك الشرط، و على هذا فيجب مع عدم الاستلزام المذكور كما هو الغالب الاحتياط بتحصيل التكرار مع كونه من وراء الثياب فرارا عن الوقوع في المحذور المذكور.

و قد يقال في صورة عدم الاستلزام بعدم وجوب الاحتياط و سقوط التكليف بغسل إحدى الطائفتين بدعوى أنّ قيد المماثلة أو المحرمية ليس مأخوذا في ماهية الغسل كإطلاق الماء و طهارته، بل هو كإباحة الماء منتزع من تكليف خارجي و هو التكليف بترك النظر و اللمس بالنسبة إلى الأجنبي الغير المماثل، فالغسل الصادر عن الأجنبي الغير المماثل تام الانطباق على الطبيعة المأمور بها كالصلاة في الدار المغصوبة، و لكن إيجادها مع الحرام أو استلزامها له مانع عن حصول القرب ما دام النهي منجّزا، فإذا سقط عن التنجّز بواسطة الجهل لا مانع من حصول القرب أيضا، فإنّ الأمر و إن لم يتعلّق بالفعل لمكان مناقضته مع النهي الموجود واقعا في حال الجهل أيضا، لكن لو أتى به بداعي المصلحة و الحسن الذاتي أو بداعي الأمر التخيّلي كفى في العباديّة لوفاء الفعل بتمام مصلحة المأمور به مع عدم تأثير النهي الواقعي في بعد الفاعل و قبحه.

ص: 355

و فيه: أنّ ظواهر الأدلّة كون القيد المذكور معتبرا في حصول الماهية كسائر القيود المعتبرة فيها، و مجرد كون الحكمة في الاعتبار ملاحظة الشارع عدم وقوع المكلّف في النظر و اللمس المحرّمين على فرض التسليم لا يصير قرينة صارفة عن الظهور المذكور، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

مسألة: يجب تغسيل كل مظهر للشهادتين

عدا المحكومين بالكفر منهم كالغلاة و النواصب و منكر الضروري فلا يشرع غسلهم بل غسل مطلق الكفّار، و يدلّ على الثاني- مضافا إلى ظهور الإجماع و إلى أصالة عدم المشروعية لكون الغسل عبادة محتاجة إلى التوظيف، و بدونه يكون إتيانه لا بعنوان الرجاء و الاحتياط تشريعا محرّما بعد ظهور أدلّة الغسل في غير الكافر خصوصا مع التعليل في بعضها بكونه لأجل التنظيف من الخبث و ارتفاع حدث الجنابة الحادثة بالموت، و صيرورته أقرب إلى رحمة اللّٰه و أليق بشفاعة الملائكة- قول الصادق- عليه السّلام- في خبر عمّار:

النصراني يموت مع المسلمين لا تغسّله و لا كرامة و لا تدفنه و لا تقم على قبره و إن كان أبا (1).

و حينئذ فلا إشكال في الحرمة التشريعية في الكافر بجميع أقسامه كما لا إشكال في الوجوب في المؤمن القائل بإمامة الأئمّة الاثني عشر- صلوات اللّٰه عليهم.

إنّما الكلام في الوجوب في ما عداه من سائر فوق المسلمين و أقصى ما يستدل به على الوجوب عموم قوله- عليه السّلام-: «اغسل كل الموتى الغريق و أكيل السبع و كل شي ء إلّا ما قتل بين الصفين»، الحديث (2).


1- الوسائل: باب 18 من أبواب غسل الميت، ح 1.
2- المصدر نفسه: باب 14 من أبواب غسل الميت، ح 3.

ص: 356

و إطلاق قوله- عليه السّلام-: غسل الميت واجب. (1)

و ما دلّ على وجوب الصلاة على كل مسلم كقوله- عليه السّلام-: «صلّ على كلّ من مات من أهل القبلة و حسابه على اللّٰه» (2) بضميمة القول بعدم الفصل بين الصلاة و الغسل و اشتراط الصلاة بتقدّم الغسل.

و ما دلّ على الأمر بمعاشرتهم و مواصلتهم و مداراتهم مع معلومية كون المعاملة مع موتاهم معاملة الكلاب مخالفا لذلك.

و فيه: أنّ عموم الأوّل إنّما هو بالنسبة إلى أسباب الموت لا أحوال الشخص.

و الثاني: لا إطلاق له لكونه قضية مهملة واردة في مقام تشريع أصل الوجوب.

و الثالث: أمر وارد في مقام توهم الحظر خصوصا مع قوله- عليه السّلام-:

«و حسابه» فلا يستفاد منه أزيد من الجواز، فلا يدل على الوجوب الذي هو المدّعى.

و الرابع: لا دلالة له في غير مورد المعاشرة كما لو وجد ميّت منهم في مفازة لا يطّلع عليه أحد إلّا اللّٰه و لا يترتب على ترك تغسيله محذور ترك المداراة أصلا هذا، و لكن الظاهر أطباق كلمتهم على الوجوب فالعمدة في المسألة هو الإجماع.

و عليه فهل يجب تغسيله غسل أهل الخلاف أو غسل أهل الحقّ الّذي ربما ينسب إلى ظاهر الأصحاب هو الأوّل و الذي قوّاه في الجواهر و أفتى به في العروة و قرّره المحشّون لها هو الثاني و هو الأقوى لعدم تعقل أمر الشارع بالغسل الفاسد


1- الوسائل: ج 2، باب 1 من أبواب غسل الميت، ح 1.
2- المصدر نفسه: باب 37 من أبواب صلاة الجنازة، ح 2.

ص: 357

إلّا في مقام التقيّة و معه يغسل أموات الشيعة أيضا غسل أهل الخلاف فضلا عن موتاهم و يترتب عليه أثر الغسل الصحيح كسائر مواضع التقيّة، و ربما يتوهّم دلالة قوله- عليه السّلام- ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم على الأوّل.

و فيه: أنّ الخطاب بالغسل إنّما هو متوجه إلى المغسّل دون الميّت و لا مساس للكلام المذكور بالمقام.

ثمّ إنّه يستثنى من الكلية المذكورة موردان:

الأوّل: الشهيد فإنّه بعد الصلاة عليه يدفن مرمّلا بثيابه و دمائه من دون غسل و لا كفن، و يدل عليه حسنة أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- يقول: الذي يقتل في سبيل اللّٰه يدفن في ثيابه و لا يغسّل إلّا أن يدركه المسلمون و به رمق ثمّ يموت بعد فإنّه يغسّل و يكفن و يحنّط. إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم كفّن حمزة في ثيابه و لم يغسّله و لكنّه صلّى عليه. (1)

و مضمر أبي خالد قال: اغسل كل الموتى الغريق و أكيل السبع و كل شي ء إلّا ما قتل بين الصفّين فإن كان به رمق غسل و إلّا فلا. (2)

و رواية أبي مريم عن الصادق- عليه السّلام-: أنّه قال: الشهيد إذا كان به رمق غسّل و كفّن و حنّط و صلّي عليه، و إن لم يكن به رمق كفّن في أثوابه (3) إلى غير ذلك.

و الظاهر اختصاص الحكم بالمقتول في معركة القتال فلا يعم كل من قتل على وجه المعصية و لو لم يكن في البين انعقاد معركة و اصطفاف صف و تجنيد جند، و يدل


1- الوسائل: ج 2، باب 14، من أبواب غسل الميّت، ص 700، ح 9.
2- المصدر نفسه: ص 698، ح 3.
3- المصدر نفسه: ص 698، ح 1.

ص: 358

عليه مضافا إلى ظهور و الأدلّة المذكورة في الاختصاص رواية العلاء بن سيابة: سئل أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام- و أنا حاضر عن رجل قتل و قطع رأسه في معصية اللّٰه أ يغسّل أم يفعل به ما يفعل بالشهيد؟ فقال: إذا قتل في معصية اللّٰه يغسل أوّلا منه الدم ثمّ يصب عليه الماء صبا (1) الحديث.

نعم الظاهر عدم الاختصاص بما إذا كان القتال بإذن النبيّ أو الإمام أو نائبهما الخاص، بل يعم ما يجب منه في زمان الغيبة كما لو دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الإسلام كما أنّ الظاهر تقييده بما إذا اتفق الموت في المعركة ما دام الحرب قائمة، فلو مات بعد انقضاء الحرب أو قبله و بعد نقله إلى خارج المعركة فلا يعمّه الحكم و لا فرق بعد اتفاق الموت في المعركة بين إدراك المسلمين إيّاه و به رمق و عدمه، و لا ينافيه قوله- عليه السّلام-: إلّا أن يدركه المسلمون و به رمق فانّ المراد بإدراك المسلمين له نقلهم إيّاه إلى معسكرهم أو بعد تقضّي الحرب لا مجرد حضورهم لديه في المعركة و موته بمحضرهم هناك.

و لا فرق في الحكم المذكور بين الصغير و الكبير و الرجل و المرأة و لو كان قتال الشخص لمجرّد إظهار الشجاعة أو تحصيل الغنيمة و نحو ذلك لا لنصرة الإسلام و المسلمين فالظاهر عدم شمول الحكم له و إن جزم بعض الأعاظم بالشمول و ذلك لإمكان دعوى انصراف عنوان من قتل بين الصفين فضلا عن الشهيد و المقتول في سبيل اللّٰه عن مثله، و لا ينافي ذلك شمول الحكم للصغير و المجنون لجريان التبعية فيهما دون المقام.

و لو وجد في المعركة ميّت من المسلمين و لم يعلم أنّه مات بالقتل أو بسبب


1- الوسائل: ج 2، باب 15، من أبواب غسل الميّت، ص 701، ح 1.

ص: 359

آخر فإن كان فيه أثر القتل فلا إشكال في إجراء حكم الشهيد عملا بالأمارة المفيدة للاطمئنان و ان لم يكن فيه الأثر المذكور فهل يجري عليه حكم الشهيد نظرا إلى أصالة البراءة بعد كون المقام شبهة مصداقية للعمومات أو لا نظرا إلى أصالة عدم الشهادة، الظاهر الثاني و إن جزم بعض الأعاظم بالأوّل و لا يرد على الأصل المذكور عدم الحالة السابقة لتردد الأمر من ابتداء زهوق الروح بين كونه على وجه الشهادة أو غيرها و ذلك لأنّ المستفاد من الأدلة كون الشهادة موضوعا على نحو مفاد كان التامة فما أشبه الأصل المذكور بأصالة عدم التذكية في الحيوان المردّد بين كونه مذكّى أو ميتة.

و الثاني: من يقتل في حدّ الرجم أو القصاص فإنّه يغتسل أوّلا غسل الميت ثمّ يتحنّط و يلبس الكفن ثمّ يقتل فيصلّى عليه من دون إعادة الغسل.

و يدل عليه ما رواه الكليني عن مسمع كردين عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: المرجوم و المرجومة يغسلان و يحنّطان و يلبسان قبل ذلك ثمّ يرجمان و يصلّى عليهما، و المقتصّ منه بمنزلة ذلك يغسل و يحنط و يلبس الكفن ثمّ يقاد و يصلّى عليه. و الظاهر اختصاص الحكم بالرجم و القصاص اقتصارا فيما يخالف العمومات على مورد النص و الظاهر بقرينة التعقب بالتحنيط و لبس الكفن كون هذا الغسل غسل الميت فيعتبر فيه التثليث و الخلط بالسدر و الكافور في الأوّلين منه و العجب من بعض الأعاظم حيث احتمل أوّلا: كونه غسلا آخر، و ثانيا: كونه غسل الميت و لكنّه استظهر على هذا التقدير وحدته و كونه بالماء القراح، و قد وقع- قدّس سرّه- في جانب التفريط، كما وقع صاحب الجواهر- قدّس سرّه- في جانب الإفراط، حيث جعله غسل الميت و جعل المخاطب به سائر الناس، غاية

ص: 360

الأمر أنّه لما علم عدم إرادة المباشرة تعيّن إرادة التسبيب بالبعث و الأمر، فيعتبر تولّي النّية من الآمر لا المغتسل بل احتمل كون صدور الأمر من الغير بمنزلة تغسيله، فيعتبر فيه كونه بإذن الولي و صادرا من المماثل أو المحرم، و إن قوّى بعد إبداء هذا الاحتمال خلافه.

و أنت خبير بأنّ ما ذكره كل من هذين العلمين- قدّس سرّهما- خارج عن مفاد النص، فإنّ مفاده كون الغسل المذكور غسل الميّت بما له من الخصوصيات التي منها التثليث و الخلط المذكوران، و توجه الخطاب إلى الغير مع رعاية إذن الأولياء، و اعتبار المماثلة أو المحرمية في المغسّل- بالكسر- إنّما هو في ما إذا كان المغسّل- بالفتح- ميّتا، إذ حينئذ يكون المخاطب بالتغسيل هو الاحياء، فلا مساس له بالمقام.

و لو أحدث بالأكبر كالجنابة و نحوها، و قلنا: بعدم الاجتزاء بغسل الميّت عن سائر الأغسال، فهل يجب اعادة الغسل على الأحياء، الظاهر العدم، لعدم الدليل على لزوم رفع سائر الأحداث عن الميّت.

و يجري نظير هذا في الشهيد أيضا، و لو تخلّل الحدث المذكور بين الغسل و القتل، فهل ينتقض الغسل فيجب إعادته أو لا؟ لا يبعد القول بالانتقاض، و إن أفتى في العروة بعدمه.

و هل يعتبر في صحّة هذا الغسل صدور الأمر من الإمام، أو نائبه، أو مطلقا، أو لا يعتبر أصلا؟ الظاهر الأخير لعدم الإشارة إليه في النص المتقدّم، و قد عرفت كلام الجواهر مع ما فيه.

نعم لو قلنا: بكون التقديم على وجه العزيمة و الوجوب، يجب أمر الجاهل

ص: 361

من باب الإرشاد، و العالم من باب الأمر بالمعروف، و لكنّه غير شرطيته في الصحّة.

و هل يكون التقديم من باب العزيمة و الوجوب أو على نحو الرخصة و الجواز؟ ظاهر النص هو الأوّل و لكن مع ذلك تأمّل فيه بعض الأعاظم- قدّس سرّه- و لعلّه من جهة ورود الأمر مورد توهّم الحظر بل مع سبق نفسه.

و لو مات حتف أنفه بعد الغسل و قبل القتل، فلا إشكال في لزوم تغسيل الأحياء إيّاه و عدم اجتزائهم بغسله المقدّم، و لو قتل بسبب آخر غير ما اغتسل له، سواء اختلف معه نوعا كما لو اغتسل لأجل الرجم فقتل للقصاص، أو بالعكس أم اتحد، كما لو اغتسل لقصاص شخص فعفى عنه وليّه، و قتل لقصاص شخص آخر، فالظاهر الاجتزاء في كلتا الصورتين.

مسألة [في حكم أجزاء بدن الميت]

كما يجب تغسيل الميّت إذا وجد بدنه بتمامه و لو مسامحة كما لو نقص منه إصبع أو نحوه، و كذا سائر تجهيزاته من الحنوط، و الكفن، و الصلاة، و الدفن، كذلك يجب جميع ذلك، في ما إذا وجد بعض معيّن من قطعات بدنه.

و لا إشكال في ذلك. إنّما الإشكال في تعيين ذلك البعض، فذهب المشهور إلى أنّه الصدر معينا و لو لم يكن معه غيره من القلب و غيره.

و صاحب الجواهر إلى أنّه الصدر، و لو لم يكن معه القلب، أو ما فيه القلب و لو لم يصدق معه الصدر، و أفتى على طبقه في العروة.

و شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إلى أنّه الصدر مع اضافة القلب، و اليدين أو البدن الناقص الأطراف أو معظم عظام تمام البدن.

و بعض الأعاظم- قدّس سرّه- إلى أنّه عبارة عمّا دون الترقوة إلى ما فوق

ص: 362

الرجلين، و لا يضر نقص جزء يسير من هذا المحدود أيضا، و منشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار فإنّها بين طوائف:

الأولى: ما ذكر فيه الصدر، و هو خبر الفضل بن عثمان الأعور، عن الصادق- عليه السّلام-، عن أبيه- عليه السّلام- «في الرجل يقتل، فيوجد رأسه في قبيلة، و وسطه، و صدره، و يداه في قبيلة و الباقي منه في قبيلة؟ قال- عليه السّلام- ديته على من وجد في قبيلته صدره و يداه و الصلاة عليه». (1)

و الثانية: ما ذكر فيه عنوان ما فيه القلب، و هو مرفوعة البزنطي المروية في المعتبر، قال: «المقطوع إذا قطع بعض أعضائه يصلّى على العضو الّذي فيه القلب» (2) و مثله مرسلة الصدوق.

و الثالثة: ما ذكر فيه البدن الناقص الأطراف، و هو رواية طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه قال: لا يصلّى على عضو رجل من رجل أو يد أو رأس منفردا فإذا كان البدن فصلّ عليه، و إن كان ناقصا من الرأس و اليد و الرجل. (3)

و الرابعة: ما ذكر فيه معظم العظام، و هو صحيحة علي بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر- عليهما السّلام-: «عن الرجل يأكله السبع أو الطير فتبقى عظامه بغير لحم كيف يصنع به؟ قال: يغسل و يكفّن و يصلّى عليه و يدفن». (4) و مثله رواية القلانسي.


1- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب صلاة الجنازة، ص 815، ح 4.
2- المصدر نفسه: ص 817، ح 12.
3- المصدر نفسه: ص 816، ح 7.
4- المصدر نفسه: ص 815، ح 1.

ص: 363

و الخامسة: ما ذكر فيه العضو التام، و هو صحيحة أحمد بن محمّد بن خالد عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «إذا وجد الرجل قتيلا فإن وجد له عضو تام صلّى عليه و دفن، و إن لم يوجد له عضو تام لم يصل عليه، و دفن». (1) و نحوها روايتان أخريان.

إذا عرفت ذلك فنقول: بعد حمل الخبر الأخير بقرينة الخبر الثالث على الاستحباب، يدور الأمر بين حمل الأخبار الأربعة الأخر على تعدّد المناط، إمّا بوجه التثنية كما اختاره في الجواهر، أو بنحو التثليث كما اختاره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-، و بين حملها على وحدة المناط، إمّا بإرجاع ما عدا البدن الناقص الأطراف إليه كما اختاره بعض الأعاظم- قدّس سرّه-، و إمّا بإرجاع ما عدا الصدر إليه كما اختاره المشهور، و الظاهر تعيّن الأخير، و ذلك لظهور الأخبار في كون المناط أمرا واحدا، و انّ الاختلاف إنّما وقع في مجرّد التعبير و ذلك الأمر الواحد هو الصدر، و إضافة اليدين إليه في الخبر الأوّل إنّما هو لمطابقة الجواب مع السؤال بقرينة الخبر الثالث، كما أنّ ترتّب الحكم على البدن الناقص في الخبر الثالث، إنّما هو لاشتماله على الصدر بقرينة الخبر الأوّل، و عنوان ما فيه القلب المذكور في الخبر الثاني، و إن كان ظاهرا في اعتبار فعلية وجود القلب، و لكنّه محمول على إرادة ما هو مركز القلب و لو مع فقده، فيتحد مع الصدر بقرينة خبر العظام، فإنّ المفروض فيه تجرّد العظام عن مطلق اللحم الذي منه القلب، كما أنّ ترتّب الحكم على معظم العظام في ذلك الخبر إنّما هو لاشتمالها على عظام الصدر، بقرينة الإجماع ظاهرا على عدم ترتّب الحكم على عظام ما عدا الصدر فقط.


1- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب صلاة الجنازة، ص 816، ح 9.

ص: 364

فيكون المتحصّل من المجموع كون مناط الحكم عظام الصدر فقط، و هو عين ما ذكره المشهور، و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث أصر على تطبيق مدعاه المتقدّم على الأخبار و على كلمات الأصحاب.

و أنت خبير بأنّ حمل الصدر على ما ذكره من المعنى في غاية البعد. و ما ذكرناه في مقام الجمع أولى منه بمراتب. و أبعد منه تحصيل الإجماع من كلمات الأصحاب، إذ من المحتمل كون اختيار كل طائفة، منهم مبنيّا على ما ذكر في كلامه من المناط و عدم اتّفاقهم على قدر جامع، و معه كيف يمكن تحصيل الإجماع.

ثمّ إنّه و إن لم يصرّح في ما عدا الخبر الرابع بأزيد من الصلاة، و لكن يكفي وجوبها في وجوب الغسل و سائر التجهيزات حتى التحنيط، مع فرض بقاء المحمل له و حتى المئزر من القطعات الثلاث للكفن مع فرض بقاء المحل له، و ذلك للملازمة الشرعية بين الأمرين، و القطع الحاصل من مذاق الشرع بعدم الانفكاك، مضافا إلى اشتراط صحّة الصلاة بتقدّم الغسل.

مسألة [في حكم القطعة ذات العظم من الميت]

قد عرفت الحال في القطعة المشتملة على الصدر، أو الصدر وحده، و أمّا غيرها فاعلم أنّ المشهور حكموا بوجوب الغسل، دون الصلاة في القطعة المشتملة على العظم و لو لم يكن عضوا تامّا كعقد من إصبع، بل عن المنتهى عدم الخلاف، و عن بعض دعوى الإجماع، و عن جامع المقاصد نسبته إلى الأصحاب، و في الجواهر لم أعثر فيه على مخالف، و مع ذلك تأمّل في هذا الحكم جمع من متأخّري المتأخّرين، نظرا إلى عدم قيام دليل صالح عليه، عدا أمور كلّها قابلة للخدشة.

منها: الإجماع المنقول و قد قرّر في الأصول عدم حجيّته.

ص: 365

و منها: الاستصحاب و قاعدة الميسور بتقريب: أنّ الجزء المذكور كان حين اتصاله بالكل واجب الغسل بتبعية الكل و في ضمنه، و الآن سقط وجوب غسلة بذلك الوصف، و لكن يحتمل بقاؤه بوصف الأصالة و الاستقلال، فمقتضى الاستصحاب و القاعدة بقاؤه.

و فيه: أنّه إن أريد استصحاب شخص الوجوب فالموضوع غير محرز عرفا، و كيف يعد عقد الإصبع مثلا مع تمام البدن شيئا واحدا عرفا أو ميسورا له كذلك، و إن أريد استصحاب سنخه فهو من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي، و صحته محل كلام بين الأعلام.

و منها: ما روي أنّ طائرا ألقت بمكّة أو يمامة يدا فعرفت بالخاتم، و كانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسد فغسّلها أهل مكّة.

و فيه: عدم الحجية لعمل أهل مكّة، مضافا إلى عدم معلومية كونه بوجه الوجوب، فلعلّه كان على وجه الاستحباب.

و منها: فحوى ما دلّ على وجوب الصلاة على القطعة المشتملة على الصدر أو الصدر وحده.

و فيه: أنّ وجوب الصلاة إنّما يدلّ بالفحوى على وجوب الغسل و سائر أخواته، في ذلك الموضوع الذي حكم فيه بوجوب الصلاة لا في غيره كما هو محل الكلام.

و منها: مرسلة أيّوب بن نوح في الصحيح عن بعض أصحابنا عن الصادق- عليه السّلام- قال- عليه السّلام-: «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسّه إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجوب على من يمسّه الغسل، فإن لم يكن فيه عظم

ص: 366

فلا غسل عليه. (1)

إمّا بتقريب أنّ تنزيل القطعة المبانة منزلة ميتة الإنسان دون الحيوان، كما يدل عليه تفريع غسل المس، يدل على ترتّب جميع أحكام الميت، خرج منها وجوب الصلاة لقيام الإجماع و بقي الباقي.

و إمّا بتقريب أنّه متى ثبت وجوب الغسل بالمس، ثبت وجوب غسل الممسوس للملازمة الشرعية بين الأمرين.

و فيه: أنّ التنزيل منزلة ميّت الإنسان مسلم، و لكن كونه بلحاظ جميع الآثار لا دليل عليه، كما أنّه لا دليل على الملازمة المذكورة، بل الدليل قائم على خلافها.

ألا ترى أنّ مس ميّت الكافر موجب للغسل قطعا، مع أنّ غسل الممسوس غير واجب كذلك، و بعض الأعاظم- قدّس سرّه- جعل مادة النّقض صورة اتصال الجزء الممسوس بسائر الأجزاء، مع فقد الماء إلّا بمقدار الجزء الممسوس، و كذا صورة انفصاله مع وجود بقية الأجزاء و فقد الماء إلّا بمقدار الممسوس، على إشكال في هذه الصورة، و لعل منشأه احتمال أن يقول القائل بوجوب الغسل في هذه الصورة، و لكن لا يحتمل ذلك في الصورة الأولى.

و أنت خبير بأنّ ما ذكرناه في مقام النقض أولى، فإنّ القائل بالملازمة إنّما يقول بها بالنسبة إلى الأعم من الغسل و بدله الذي هو التيمّم، و من المعلوم أنّه لا نقض بالنسبة إلى هذا المعنى في المثالين.

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال للمشهور بأنّه قد يجعل الموضوع للطهارة الحدثية


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب غسل المسّ، ص 931، ح 1.

ص: 367

و الخبيثة بدن الميّت من حيث المجموع، كما هو الموضوع له للفظة البدن، و على هذا لا يبقى مجال للاستصحاب و قاعدة الميسور لما أشرنا سابقا من كمال المغايرة، بين هذا المعنى و بين عقد الإصبع مثلا، و قد يجعل كل بعض من أبعاض البدن مستقلا، و لكن يشترط في حصول طهارة كل بعض طهارة سائر الأبعاض، و على هذا فلا مانع من جريان الاستصحاب و القاعدة كما هو واضح، و لا يبعد ترجيح الثاني نظرا إلى أنّ ملاحظة الارتباط بين الأبعاض في جانب الحكم أولى من ملاحظته في جانب الموضوع، فإنّ الأوّل مضافا إلى ألصقيته بمناسبة الحكم و الموضوع و بالحكمة المذكورة في بعض الأخبار لغسل الميّت، من دفع الأذى و الآفة الحاصلين في حال المرض، حيث إنّ موضوعهما كل بعض مستقلا لا يزيد عن سائر الشروط التعبدية، كاعتبار نيّة القربة و إطلاق الماء و نحو ذلك، و إن أبيت عن قرينيّة ما ذكر فلا أقل من كشف إجماعاتهم المنقولة، و الشهرة المحقّقة مع تمسّكهم بالقاعدة عن وجود قرينة على ملاحظة الارتباط المذكور بالنحو الأوّل.

و هل يلحق بالقطعة المبانة من الميّت، المبانة من الحيّ أو لا؟ الظاهر الثاني، لعدم جريان الدليل المذكور فيه، و هو معنى ما استدلّ به المحقّق و غيره من قولهم:

لأنّها من جملة لم يتعلّق الأمر بغسل مجموعها انتهى. و إن استشكل فيه بعض بما يرجع إلى عدم تحصيل المراد.

و أمّا مرسلة أيّوب المتقدّمة فقد عرفت عدم صلاحيتها للاستدلال لضعفها سندا و دلالة.

ثمّ إنّ مقتضى القاعدة وجوب ملاحظة الترتيب عند تعدّد القطعات، لو كانت مرتبة حال الاتصال، كما أنّه لا بدّ من مماثلة الغاسل أو محرميته مع معلومية

ص: 368

الحال من حيث الذكورة، و الأنوثة، و مع الاشتباه يجري فيه ما تقدّم في الخنثى المشكل.

ثمّ إنّ العظم المجرّد، و إن لم يمكن الاستدلال على وجوب غسله بخبر العظام، لغلبة عدم انفكاك العظام الباقية من أكيل السبع و الطير عن وجود مقدار من اللحم و لو يسيرا، و لكن بعد ما وجب غسل العظم المشتمل على مقدار يسير من اللحم بذلك الخبر، يجب في العظم المجرّد بمقتضى قاعدة الميسور بالتقريب المتقدّم.

ثمّ إنّ اجراء قاعدة الميسور و الاستصحاب في القطعة ذات العظم، و في العظم المجرد بالنسبة إلى التكفين و الدفن أولى منه بالنسبة إلى التغسيل، و ذلك لاشتراطه ببعض الشروط التعبّدية دونهما.

نعم يعتبر في وجوب القطعات الثلاث من الكفن بقاء موضوعها، كما لو وجد شق متّصل من تمام البدن، و إلّا فاسراء الحكم إلى غير موضوعه كشد المئزر على الرأس أو العمامة على الرجل، خارج عن مقتضى القاعدة و الاستصحاب، و من هنا يعلم حكم ما لو رضّ البدن بحيث اختلط جميع أجزائه، فإنّ الواجب ليس إلّا مطلق اللف.

ثمّ إنّه يلحق بالقطعة ذات العظم في وجوب الغسل و التحنيط و الكفن و الدفن السقط، إذا تمّ له أربعة أشهر.

و يدل عليه رواية زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «السقط إذا تمّ له أربعة أشهر غسل». (1)


1- الوسائل: ج 2، ب 12، من أبواب غسل الميّت، ص 696، ح 4.

ص: 369

و مرفوعة أحمد بن محمّد قال: «إذا تمّ السقط أربعة أشهر غسل، و قال: إذا تمّ له ستّة أشهر فهو تام، و ذلك انّ الحسين بن علي- عليهما السلام- ولد و هو ابن ستّة أشهر». (1)

و موثقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل و اللحد و الكفن؟ قال: نعم، كل ذلك يجب عليه إذا استوى» (2).

و الظاهر أنّ المراد باستواء خلقته تمامية صورتها و تشكيلها الملازمة غالبا لنفخ الروح، و وجه اعتباره أنّه بدونه لا يتحقّق عنوان الموت، فلا تترتّب الأحكام المترتّبة على هذا العنوان، و جعل الشارع لهذا المعنى، أعنى: تحقّق الموت حدّا و هو بلوغ أربعة أشهر، فيرتفع التنافي بين الشرطيتين، و ليس المقام من قبيل إذا خفي الأذان فقصّر، و إذا خفي الجدران فقصّر.

و بعض الأعاظم- قدّس سرّه- أجاب عن إشكال التنافي بأنّ إحدى الشرطيتين مذكورة في كلام السائل، و ليس لها حينئذ ظهور في التحديد و إرادة المفهوم، ففرق بين قول المولى ابتداء: أكرم زيدا إن جاءك، و بين قوله: نعم بعد قول السائل، هل يجب إكرام زيد إن جاءني، مضافا إلى كون الشرطية المذكورة مسوقة لتحقّق الموضوع، حيث لا يتحقّق بدون الاستواء موضوع الغسل المعهود المركّب من الغسلات الثلاثة، أعني: غسل الرأس و الرقبة و غسل الشقّين الأيمن و الأيسر فالحد الحقيقي هو البلوغ إلى أربعة أشهر، غاية الأمر توقّف الغسل المعهود على


1- الوسائل: ج 2، ب 12، من أبواب غسل الميّت، ص 695، ح 2.
2- المصدر نفسه: ص 695، ح 1.

ص: 370

استواء الخلقة.

و فيه: انّا لا نرى فرقا في ظهور الشرطية في التحديد بين وقوعها في السؤال و غيره، و ذكر الاستواء إنّما هو لأجل عدم تحقّق الموت غالبا بدونه و هو المعيار الحقيقي، و الحكم يدور مداره نفيا و إثباتا، و العجب أنّه- قدّس سرّه- تفطّن لهذا في آخر كلامه، و مع ذلك جمع بين الروايات بما عرفت.

مسألة [في حكم اللحم المجرد من الميت]

قد عرفت حكم القطعة ذات العظم، و العظم المجرّد، و بقي حكم اللحم المجرّد، و الظاهر تحقّق الإجماع على عدم وجوب غسله و وجوب لفّه في خرقة و دفنه، و هو الفارق بينه و بين العظم المجرّد، و إلّا فليس مشمولية الثاني لقاعدة الميسور و الاستصحاب، بالتقريب المتقدّم أوضح من مشمولية الأوّل لو لم يكن الأمر بالعكس، و لكن القاعدة لما كان العمل بظاهرها مستلزما لفقه جديد احتاج إلى مجبوريتها بالعمل، إذ به يستكشف كون المورد مصداقا للقرينة التي كانت متّصلة بالكلام و غابت عنّا و بدونه يشك في مصداقيته لها و على هذا. فنقول في اللحم المجرّد بعدم التغسيل و وجوب اللف في خرقة و الدفن للفارق المذكور، و يلحق به في ذلك، السقط إذا كان لدون أربعة أشهر.

أمّا عدم وجوب غسله فللروايات المتقدّمة الدالّة على تحديده بأربعة أشهر مضافا إلى موافقته للأصل.

و أمّا وجوب دفنه فلرواية محمّد بن فضيل قال: «كتبت إلى أبي جعفر- عليه السّلام- أسأله عن السقط كيف يصنع به؟ فكتب إليّ: السقط يدفن بدمه في موضعه». (1)


1- الوسائل: ج 2، باب 12، من أبواب غسل الميّت، ص 696، ح 5.

ص: 371

و أمّا وجوب اللف فلم نعثر على رواية دالّة عليه و لكن يظهر من بعضهم دعوى الإجماع على ثبوته أيضا.

مسألة: يجب مقدّمة للغسل تنظيف بدن الميّت من النجاسات العرضية

مع رعاية الشرائط المعتبرة في تطهير المتنجسات، و يدل عليه جملة من الأخبار.

منها: مرسلة يونس و فيها «ثمّ اغسل يديه ثلاث مرّات كما يغسل الإنسان من الجنابة إلى نصف الذراع، ثمّ اغسل فرجه و نقّه، ثمّ اغسل رأسه بالرغوة» إلى أن قال في كيفية غسله بماء الكافور، «و افعل به كما فعلت في المرأة الأولى، ابدأ بيديه، ثمّ بفرجه و امسح بطنه مسحا رفيقا، فإن خرج منه شي ء فأنقه، ثمّ اغسل رأسه». (1)

الحديث.

و خبر الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سألته عن (غسل) الميّت فقال: «أقعده و اغمز بطنه غمزا رفيقا، ثمّ طهّره من غمز البطن ثمّ تضجعه ثمّ تغسّله» (2) الحديث.

و خبر معاوية بن عمار قال: أمرني أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام- أن أعصر بطنه، ثمّ أوضّيه بالأشنان، ثمّ أغسل رأسه بالسدر». (3) الحديث.

و في خبر علاء بن سيابة الوارد في من قتل في معصية اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه قال: «إذا قتل في معصية اللّٰه يغسل أوّلا منه الدم. ثمّ يصب عليه الماء صبا». (4) الحديث.


1- الوسائل: ج 2، باب 2، من أبواب غسل الميّت، ص 680، ح 3.
2- المصدر نفسه: ص 683، ح 9.
3- المصدر نفسه: ص 683، ح 8.
4- المصدر نفسه: ب 15، من أبواب غسل الميّت، ص 701، ح 1.

ص: 372

و الكلام هنا في جهات:

الأولى: هل يكفي وقوع هذا التنظيف مع الغسل في زمان واحد و بغسلة واحدة، و لا يضر ذلك بشرطيته لوقوع نظيره في العقليات كحركتي اليد و المفتاح، و الشرعيات كبيع ذي الخيار لما انتقل عنه، غاية الأمر وجود الشرط متقدّما على المشروط، رتبة، و هذه الشبهة يمكن رفعها بالأخبار المتقدمة، فإنّ ظهورها في اعتبار التقدّم الزماني ممّا لا ينكر.

و قد يستدل عليه في خصوص ما إذا وقع الغسل بالماء القليل بقاعدة لزوم طهارة الماء المستعمل في التطهير سواء كان مطهّرا للخبث أم للحدث، و لا يحصل ذلك إلّا بالتقديم، و إلّا يتنجّس ماء الغسل بملاقاة النجاسة العرضية.

و أجيب بأنّ المعتبر إنّما هو طهارة الماء من غير ناحية هذا الاستعمال، و أمّا من ناحيته فلا، كما هو المشاهد في تنظيف الجسم من الأوساخ الظاهرية، حيث إنّ الماء يصير متوسّخا بنفسه و مذهبا للأوساخ عن المحل المغسول، مضافا إلى عدم إمكان حفظ طهارة الماء في مقامنا، إذ لا أقلّ من ملاقاته لبدن الميّت.

و فيه: أن اتّصاف الماء المستعمل في رفع الحدث بالخبث، و لو في ضمن هذا الاستعمال غير مربوط باستعماله في رفع الحدث، فحاله حال النجاسة الخارجية الواصلة إليه حال الاستعمال، و لا يقاس ذلك ببدن الميّت الذي علم العفو و الاغتفار فيه ضرورة، و إلّا كان اللازم التغسيل في الماء العاصم و هو بديهي البطلان.

و قد يستدل أيضا بأصالة عدم التداخل في الأسباب بتقريب: أنّ المستفاد من الأخبار المتقدّمة أنّ الموت سبب لإيجاب أمرين: أحدهما: رفع الحدث الحاصل

ص: 373

بالغسل- بالضم-، و الآخر: رفع الخبث الحاصل بالغسل- بالفتح- و مقتضى الأصل المذكور عدم الاكتفاء بوجود واحد، و لزوم الإتيان بهما في ضمن وجودين.

و حيث إنّ الغسل- بالفتح- أمر توصّلي قهري الحصول بالغسلة الأولى، فلا بدّ من غسلة أخرى للغسل- بالضم- قضية للأصل المذكور.

و فيه: أنّه لو فرض عدم قيام الدليل على اشتراط الغسل- بالضم- بتقدّم الغسل- بالفتح-، و قلنا بأنّ المرجع في مثله البراءة، فكما أنّ الغسل- بالفتح- قهري الحصول فكذلك الغسل- بالضم- إذا روعي فيه شرائطه، و لا يقتضي أصالة عدم التداخل تعدّد الوجود بعد تصادق الطبيعتين على وجود واحد كما هو واضح.

الجهة الثانية: بعد اعتبار التقدّم الزماني هل المعتبر تقدّمه على الغسل جملة.

أو يكفي تنظيف كل عضو مقدما على غسل ذلك العضو، و إن كان مؤخّرا عن غسل العضو المتقدّم. و يمكن رفع هذه الشبهة أيضا بالأخبار المتقدّمة، فإنّ ظاهرها الأولى و إن كان اعتبار التقديم بالنحو الأوّل، لكن بواسطة المناسبة المقامية، و بعد مدخليّة تنظيف العضو المتأخّر في صحة غسل العضو المتقدّم، يفهم أنّ المراد هو التقدّم بالنحو الثاني، مضافا إلى الأخبار الدالّة على اتحاد غسل الميّت مع غسل الجنابة، بضميمة ما ورد في غسل الجنابة ممّا يكون ظاهرا في اعتبار التقديم بالوجه الثاني.

الجهة الثالثة: هل يعتبر في هذا التنظيف، الشرائط المعتبرة في تطهير المتنجّسات من كونه بالماء المطلق و غيره ممّا يعتبر في التطهير بالماء القليل، أو يكفي مطلق الإزالة و لو كان بغير الماء فضلا عن فقد سائر الشرائط، ظاهر كلمات

ص: 374

المشهور هو الأوّل، و الذي قوّاه كاشف اللثام و اختاره بعض الأعاظم- قدّس سرّه- هو الثاني، نظرا إلى أنّ تطهير النجس الذاتي عن النجاسة العرضية غير معهود شرعا، فلو ورد في الشرع ما يدلّ بظاهره على ذلك لا بدّ من صرفه إلى إرادة مطلق الإزالة، و يشهد لذلك التعبير في بعض الأخبار المتقدمة بالإنقاء، و إن وقع في بعض آخر بالغسل، و في ثالث بالتطهير لكن يعلم بواسطة عدم المعهودية المذكورة أنّ المراد بالثانيين أيضا هو الأوّل.

و فيه: منع عدم المعهودية، ألا ترى أنّ بدن الكافر لو لاقى شيئا مع رطوبة البول يجب غسل ذلك الشي ء مرّتين، و لو غسل بدن الكافر من رطوبة البول أوّلا مرّتين مع ملاحظة شرائط التطهير، ثمّ لاقى ذلك الشي ء لا يجب غسل ذلك الشي ء إلّا مرّة واحدة. و على هذا فلا داعي لصرف الأدلّة عن ظواهرها، و أمّا التعبير بالإنقاء فإنّما وقع في خصوص تطهير موضع النجو، و السرّ فيه كفاية الأحجار فيه عن الماء لعدم الفرق في كفايتها بين الحياة و الموت.

مسألة: هل يعتبر في هذا الغسل [قصد القربة] مضافا إلى قصد العنوان

أي: عنوان كونه غسل الميّت، ليمتاز عن مطلق الغسل- بالفتح- و عن سائر أنواع الغسل- بالضم- قصد القربة و يكون من العبادات كما هو ظاهر كلمات المشهور بل صريحها، أو لا يعتبر شي ء من الأمرين كما هو ظاهر كلام السيّد في المصريات، و العلّامة في المنتهى، و بعض متأخّري المتأخّرين، و أو يعتبر الأوّل، دون الثاني، كما اختاره بعض الأعاظم- قدّس سرّه-، الأقوى الأوّل.

و يدل عليه أنّ الظاهر من قولهم- عليهم السلام-: «غسل الميت غسل الجنابة»، أنّه يعتبر فيه جميع ما يعتبر في غسل الجنابة حتى قصد القربة، غاية الأمر إنّ المتولي

ص: 375

للقصد هناك هو المغتسل، و هنا هو المغسّل، فكما أنّ الظاهر من قولهم: صلّ عن الميّت صلاته، و صم عنه صيامه، أنّه لا بد من نيّة القربة مضافا إلى قصد عنواني الصلاة و الصوم، و لا يكفي الثاني فقط، فكذلك الحال في المقام بلا فرق، و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث إنّه مع تفطّنه بهذا المعنى اختار أوّلا أنّ المعتبر في الطهارات قصد العنوان فقط، و ثانيا سلّمنا أنّ المعتبر قصد القربة لكن القربة المعتبرة في المقام إنّما هو قرب الميّت لا قرب الغاسل، فلا ينافيه قصد الأجرة و سائر الأمور الدنيوية المباحة.

و فيه: أنّه بعد تسليم اعتبار القربة و الإخلاص، فلا فرق في منافاة قصد الأجرة مع الإخلاص المعتبر في القربة، بين كون المنوي قرب الفاعل أو غيره، فإن رفعنا المنافاة بطولية أحد الداعيين للآخر جاء في كلا المقامين، و إن قلنا كما هو الحق بعدم الفائدة في ذلك في رفع المنافاة، حيث إنّ الداعي الأوّلي الذي هو الأجرة بالفرض، لا يخلو لا محالة عن المدخلية في حصول ذات العمل، فيتحقق في ذات العمل الشركة بين الداعيين، و يرتفع الإخلاص من البين جاء هذا المعنى أيضا في كلا المقامين، فلم يعلم لما ذكره من الفرق وجه محصّل.

ثمّ الظاهر أنّ كلا من الأغسال الثلاثة غسل حقيقي مستقلا، لا أنّ الأوّلين مقدمة و الأخير غسل حقيقي، أو أنّ المجموع غسل واحد حقيقي، و لذا لو تعذّر البعض و أمكن الباقي وجب الإتيان بالممكن، و على هذا فيجب مصاحبة كل منها مع النيّة.

و لو اتّحد الصاب و المقلّب فلا كلام، و لو تعددا فإن كان أحدهما آلة و الآخر مستقلا اعتبر النيّة من الثاني، لأنّه الذي يستند إليه الفعل، كما أنّه لو كان كلّ

ص: 376

منهما مستقلا يكفي نيّة أحدهما، و لو اشتركا اعتبر نيتهما معا، و لو كان أحدهما صبيّا فإن قلنا بشرعية عباداته كان بحكم الكبير و إلّا فلا.

مسألة [في وجوب الغسل بماء السدر و الكافور و القراح على التوالي]

يجب نصّا و فتوى البدأة أوّلا بالغسل بماء السدر، أي الماء الممتزج بشي ء من السدر على وجه لا يوجب السدر اضافة الماء، و لا الماء استهلاك السدر.

ثمّ ثانيا الغسل بماء الكافور بالوصف المذكور. ثمّ ثالثا الغسل بماء القراح مبتدئا في كل منها بالرأس و الرقبة أوّلا، ثمّ بالشق الأيمن، ثمّ بالشق الأيسر.

و يدلّ على هذا التفصيل مرسلة إبراهيم بن هاشم عن رجاله عن يونس عنهم- عليهم السلام- قال: «إذا أردت غسل الميّت فضعه على المغتسل مستقبل القبلة، فإن كان عليه قميص فأخرج يده من القميص، و اجمع قميصه على عورته، و ارفعه عن رجليه إلى فوق الركبة، و إن لم يكن عليه قميص فألق على عورته خرقة، و اعمد إلى السدر فصيّره في طشت و صب عليه الماء، و اضربه بيدك حتى ترتفع رغوته، و اعزل الرغوة في شي ء، و صب الآخر في الإجابة الّتي فيها الماء.

ثمّ اغسل يديه ثلاث مرّات كما يغسل الإنسان من الجنابة إلى نصف الذراع، ثمّ اغسل فرجه و نقّه، ثمّ اغسل رأسه بالرغوة و بالغ في ذلك، و اجتهد أن لا يدخل الماء منخريه و مسامعه، ثمّ أضجعه على جانبه الأيسر و صب الماء من نصف رأسه إلى قدميه ثلاث مرات، و ادلك بدنه دلكا رفيقا، و كذلك ظهره و بطنه، ثمّ أضجعه على جانبه الأيمن و افعل به مثل ذلك، ثمّ صب ذلك الماء من الإجانة و اغسل الإجانة بماء قراح، و اغسل يديك إلى المرفقين، ثمّ صب الماء في الآنية و ألق فيه حبّات كافور، و افعل به كما فعلت في المرّة الأولى.

ابدأ بيديه، ثمّ بفرجه و امسح بطنه مسحا رفيقا، فإن خرج منه شي ء فأنقه،

ص: 377

ثمّ اغسل رأسه، ثمّ أضجعه على جنبه الأيسر، و اغسل جنبه الأيمن و ظهره و بطنه، ثمّ أضجعه على جنبه الأيمن و اغسل جنبه الأيسر كما فعلت أوّل مرّة، ثمّ اغسل يديك إلى المرفقين، و الآنية، و صب فيه ماء القراح، و اغسله بماء القراح كما غسلت في المرّتين الأوليين.

ثمّ نشّفه بثوب طاهر، و اعمد إلى قطن فذر عليه شيئا من حنوط و ضعه على فرجه قبله و دبره، و احش القطن في دبره لئلا يخرج منه شي ء، و خذ خرقة طويلة عرضها شبر فشدّ بها من حقويه، و ضمّ فخذيه ضمّا شديدا و لفّها في فخذيه، ثمّ اخرج رأسها من تحت رجليه إلى الجانب الأيمن و أغرزها في الموضع الذي لففت فيه الخرقة، و تكون الخرقة طويلة تلف فخذيه من حقويه إلى ركبتيه لفّا شديدا». (1)

و قد اختلفت الأنظار في المراد من قوله- عليه السّلام-: «ثمّ اغسل رأسه بالرغوة»، فحمله المشهور على غسل الرأس بالرغوة الخالصة من باب المقدمة المستحبة، و الواجب إنّما هو ما يتعقبه من الغسل بماء السدر الّذي في الإجانة، كما يشهد به قوله- عليه السّلام-: و اجتهد أن لا يدخل الماء منخريه و مسامعه، و أمّا إدخال نصف الرأس في الشق الأيمن و نصفه في الأيسر فهو من باب المقدمة العلمية، و المراد نصفه عرضا و هو الرقبة، و إنّما أطلق الرأس على الرقبة تغليبا، و أنكر عليهم صاحب الحدائق بأنّ المراد صورة مزج الرغوة بالماء ثمّ استعماله في الغسل الواجب، فيبقى ما ذكروه من المقدمة المستحبّة بلا دليل، و احتمل بعض الأعاظم- قدّس سرّه- كون المراد تنصيف الرأس طولا و إدخال كل نصف في أحد الشقين، فيكون الغسل مركّبا من جزءين لا ثلاثة، و يكون غسل الرأس بالرغوة على هذا من


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب غسل الميّت، ص 680، ح 3.

ص: 378

باب الاستحباب.

و أنت خبير بأنّ هذا الاحتمال و إن كان موافقا لظهور الأمر بتنصيف الرأس في الأصلية، دون التبعية و المقدمية، لكنّه بعد توافق النص و الفتوى على خلافه ممّا لا يعتنى به، فيدور الأمر بين ما ذكره المشهور و صاحب الحدائق، و لا يبعد ترجيح ما ذكره المشهور بقرينة تفريق الرغوة و ماء السدر في ظرفين، فإنّ الظاهر أنّ الحكمة فيه استعمال الرغوة أوّلا ثمّ تعقيبه بالماء فيكون محمولا على الاستحباب بشهادة خلوّ سائر الأخبار.

و يمكن الاستدلال على استحباب تقديم غسل الرأس بالسدر بصحيحة يعقوب بن يقطين قال: سألت العبد الصالح- عليه السّلام- عن غسل الميّت أ فيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال- عليه السّلام-: «غسل الميّت تبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض، ثمّ يغسل وجهه و رأسه بالسدر، ثمّ يفاض عليه الماء ثلاث مرّات، و لا يغسل إلّا في قميص يدخل رجل يده و يصب عليه من فوقه، و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من الكافور» (1) الحديث.

بتقريب أنّ المراد بقوله: «ثم يغسل وجهه و رأسه بالسدر» هو هذا الأمر المستحب لا الواجب المعدود من أجزاء الغسل، بقرينة أنّه- عليه السّلام- ليس في مقام بيان الأغسال الثلاثة، إلّا بطريق الإجمال الذي أراده في قوله- عليه السّلام-: «ثمّ يفاض عليه الماء ثلاث مرّات»، و البيان التفصيلي ممحض في نفي وجوب الوضوء الذي توهمه السائل، و إثبات استحباب غسل المرافق بالحرض و الرأس بالسدر مكانه.

ثمّ إنّ استفادة وجوب الأغسال الثلاثة من أخبار المقام، و وجوب الترتيب


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب غسل الميّت، ص 683، ح 7.

ص: 379

بينها بأن يكون الغسل بالسدر أوّلا، و بالكافور ثانيا، و بالقراح ثالثا، و وجوب الخليطين على وجه لا يكونان في القلّة بحدّ يوجب استهلاكهما، و لا في الكثرة بحدّ يوجب سلب وصف الإطلاق عن الماء ممّا لا اشكال فيه، مضافا إلى تطابق الفتاوى عليه.

و القول بعدم وجوب الثلاثة، و كفاية الغسل الواحد، أو عدم وجوب الترتيب بينها، و كفاية وقوعها كيف ما اتفق، أو عدم وجوب الخليطين، ضعيف لا يعبأ به لشذوذه و عدم مساعدة دليل عليه، بل قيام الدليل على خلافه.

إنّما الإشكال في استفادة استحباب ما عدا ذلك ممّا اختلف الأخبار فيه، من حيث التعرّض، و العدم، مثل غسل اليدين، و الفرج، و تثليث الغسلات و نحوها.

فهل يمكن إثبات استحباب هذه الأمور بنفس الاختلاف المذكور، مع قطع النظر عن تسلّمه بين الفقهاء كما ادّعاه بعض الأعاظم- قدّس سرّه- أو لا يمكن؟ الظاهر الثاني فإنّ مقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد هو القول بالوجوب لو لا التسلّم المذكور، كما هو الشأن في نظائر المقام، فما ادّعاه- قدّس سرّه- لا يعلم له وجه.

كما أنّ تحديد أقل السدر بكونه بمقدار سبع ورقات كما عن بعض، أو بكونه بمقدار رطل كما عن آخر، أو بمقدار رطل و نصف كما عن ثالث، أو أقل الكافور بكونه بمقدار نصف مثقال كما عن رابع، أو اعتبار كونه من الجلال أي خاما غير مطبوخ كما عن خامس، لا وجه له أيضا و لا دليل عليه، بل مقتضى القاعدة كفاية أقل ما يتحقّق به المسمّى، أي ما يصدق به أنّ هذا ماء و سدر، أو ماء و كافور بالشرط المتقدم.

ص: 380

نعم يعتبر كونهما مطحونين ممروسين أي مدلوكين في الماء ليتحلل أجزاؤهما، لتوقّف صدق الخلط و الامتزاج و الخروج عن القراحية على ذلك كما هو واضح، كما أنّ المعتبر في القراح بقرينة المقابلة إنّما هو خلوصه عن خصوص الخليطين لا عن جميع الأشياء حتى الطين و نحوه، فما عن بعض من اعتبار الخلوص المطلق، و فرّع عليه عدم جواز التغسيل بماء السيل ممّا لا وجه له، و الظاهر أنّ اعتبار الخلوص من الخليطين في القراح يكون من باب العزيمة لا الرخصة، كما يكون اعتبارهما في مائي السدر و الكافور كذلك.

ثمّ إنّ مقتضى قاعدة إطلاق المادة كون الترتيب في نفس الأغسال الثلاثة، و في أجزاء كل منها شرطا واقعيّا لا ذكريّا، فمع الإخلال به سهوا أو نسيانا يجب الإعادة على ما يحصل به التدارك.

و هل الارتماس مجز عن الترتيب هنا أو لا؟ ذهب شيخنا المرتضى- رحمه اللّٰه- إلى الأوّل، و بعض الأعاظم- قدّس سرّه- إلى الثاني، و مستند الأوّل قولهم- عليهم السلام:- «الميّت جنب يغسل غسل الجنابة» بضميمة ما ورد في غسل الجنابة من أجزاء الارتماس عن الترتيب، فيحمل الأمر الوارد بالترتيب على الأفضلية.

و مستند الثاني انّا لا نعلم عمومية الحكم المذكور حتى بالنسبة إلى هذا الفرد من الجنب، كما لا نقطع بإلغاء الخصوصية، فلعلّ للمقام اختصاصا بشرطية الترتيب لأجل منافاة الارتماس لاحترام الميّت.

و فيه: أنّا لا ندّعي عمومية قولهم- عليهم السلام-: «الارتماس مجز عن الترتيب» حتى يرد عليه ما ذكره- قدّس سرّه- من المنع، بل نقول: إنّ قولهم- عليهم السلام-:

«الميت جنب يغسل غسل الجنابة» حاكم على الدليل المذكور و معمّم له، ثمّ

ص: 381

بضميمة الحاكم و المحكوم جميعا يحمل الأوامر الواردة بالترتيب على الأفضلية، و لا منافاة فيه مع الاحترام بعد كونه لأجل مصلحته، كيف و ليس هو بأسوأ حالا من حشو فرجه بالقطن الذي ورد التنصيص عليه في الأخبار.

و هل يوضّأ الميّت قبل الغسل وضوء الصلاة وجوبا، كما عن بعض، أو استحبابا كما عن مشهور المتأخّرين، الظاهر الثاني، لأنّه مقتضى الجمع بين الأمر الوارد به في جملة من الأخبار، و التنصيص على جواز الترك المستفاد من صحيحة يعقوب ابن يقطين، قال: سألت العبد الصالح- عليه السّلام- عن غسل الميّت أ فيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال- عليه السّلام-: «غسل الميّت تبدأ بمرافقه، فتغسل بالحرض، ثمّ يغسل وجهه و رأسه بالسدر، ثمّ يفاض عليه الماء ثلاث مرّات، و لا يغسل إلّا في قميص يدخل رجل يده و يصب عليه من فوقه، و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من الكافور».

فإنّ عدم التعرّض في الجواب عن الوضوء، و التعرّض لغيره مع وقوع السؤال عنه، صريح في عدم وجوبه، و انّ المتحتّم بالرعاية هو ذلك الأمر المذكور في الجواب، نظير ما لو سأل السائل عن جنس المال الذي ينفق في الخيرات، فأجيب بقولك: إذا أردت الإنفاق فعليك بحسن النيّة و خلوصها، و من هذا القبيل، قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلْ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ. (1) و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ (2). فإنّ سؤالهم كان عن سبب زيادتها و نقصانها، فعدل في الجواب عن ذكر السبب إلى بيان الحكمة.


1- البقرة/ 189.
2- البقرة/ 215.

ص: 382

مسألة: لو لم يجد الماء إلّا بمقدار غسل واحد، فمقتضى قاعدة الميسور و الاستصحاب وجوب الإتيان بالممكن

و توهّم أنّ الأغسال الثلاثة بمجموعها فعل واحد و كل منها بمنزلة غسلة واحدة من غسلات الغسل الواحد مدفوع بمنافاته مع التعبير عن كل منها بالغسل، كما وقع ذلك في الأخبار و في كلمات الأصحاب، كما أنّ المستصحب هو الوجوب الثابت في ضمن الكل و إن تبدل وصف ضمنيّته بالاستقلال، لكنّه غير معدد للموضوع بنظر العرف.

و هل يتعيّن صرفه في الغسل الأوّل، أعني: الغسل بماء السدر، أو يتخيّر في صرفه في أيّها شاء؟ وجهان، من أنّ العجز لا يتحقّق في حقّه إلّا بعد صرفه في الغسل الأوّل فلا عذر له في ترك الأوّل، و من أنّ الحق كونه من أوّل الأمر عاجزا بالنسبة إلى أحد الأغسال على البدل، و قادرا بالنسبة إلى أحدهما كذلك، و لا مرجح في البين.

فإن قلت: بعد اشتراط سبق الغسلين الأخيرين بالأوّل و عدم اشتراط الأوّل بلحوقهما يدور الأمر بين إدراك غسل تام أو إدراك غسل ناقص فاقد الشرط، فالمتعيّن هو الأوّل.

قلت: بعد استواء صدق القدرة و العجز بين الغسل الأوّل و كل واحد من الأخيرين، فعموم دليل البدليّة شامل لكل منها في عرض واحد و جاعل له بمنزلة الفعل التام، إلّا أن يعلم من الخارج أهميّة أحدها أو تكون القدرة في ظرف أحد الأخيرين شرطا شرعيّا، بحيث جاز للمكلّف تفويته اختيارا، فإنّ المتعيّن اختيار الأهم في الأوّل، و اختيار الأوّل في الثاني كما هو واضح.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ العموم المذكور إنّما يفيد تنزيل فقدان الشرط في

ص: 383

الفعل المتأخّر منزلة وجدانه إذا تعلّق العجز بخصوص الفعل المتقدم، و أمّا إذا تعلّق بالقدر الجامع بينه و بين المتأخّر فلا يستفاد منه التنزيل المذكور، و قد يقال بتعيّن الصرف في الغسل الأخير نظرا إلى أقوائيّته في تأثير التطهير من الأوّلين لعدم اشتماله على الخليط دونهما.

و فيه: أنّ المعتبر في الخليط كما مرّ كونه بحيث لا يوجب سلب وصف الإطلاق عن الماء، فالقوّه المذكورة في محل المنع، فالأقوى هو اختيار الأوّل مضافا إلى كونه أحوط، و منه يظهر الكلام فيما لو لم يجد الماء إلّا بمقدار الغسلين حيث إنّ الأقوى فيه الصرف في الأوّلين.

و مقتضى القاعدة الإتيان بالتيمّم مكان الغسلين في الفرض الأوّل و مكان الغسل الواحد في الفرض الثاني، و هل يكتفى في الفرض الأوّل بتيمّم واحد أو يأتي بتيمّمين؟ الكلام فيه هو الكلام فيما إذا لم يجد الماء بمقدار شي ء من الأغسال رأسا، و يأتي تفصيل الحال فيه فيما بعد إن شاء اللّٰه.

مسألة: لو وجد الماء و لم يجد الخليطين فمقتضى قاعدة الميسور و الاستصحاب وجوب ثلاثة أغسال بالقراح

و قد يقال بكفاية غسل واحد نظرا إلى أنّ المتأصّل بالمطلوبية في الغسلين الأوّلين إنّما هو استعمال السدر و الكافور، و استعمال الماء إنّما هو لمحض المقدمية و التوصل إلى ذلك، فمع تعذرهما يكون استعمال القراح أجنبيا عمّا هو المطلوب لا ميسورا له.

و فيه: أنّ اللازم من ذلك أنّه لو لم يجد من الماء إلّا مقدارا يسيرا يكفي لجعل السدر و الكافور عجينا بخلطه كان ذلك واجبا و لا يلتزمون به.

و قد يقال بابتناء المسألة على كون المدرك في إيجاب الغسل بالسدر و الكافور،

ص: 384

قولهم- عليهم السلام-: «اغسله بماء و سدر» أو «اغسله بماء و كافور». الظاهر في كونهما تكليفين مستقلّين، كما في قولك: أكرم زيدا و عمرا، أو كون المدرك قولهم- عليهم السلام-: «اغسله بماء السدر أو اغسله بماء الكافور» فعلى الأوّل لا بد من ثلاثة أغسال لأنّ تعذّر أحد التكليفين، أعني: الغسل بالسدر أو الكافور لا يوجب سقوط التكليف الآخر أعني الغسل بالماء، و على الثاني لا يجب إلّا غسل واحد، لأنّ الغسل بالقراح لا يعدّ ميسورا لمائي السدر و الكافور، كما لا يعد الإتيان به ميسورا لإتيان ماء الرمان.

و فيه: أنّ العطف في هذا المقام غير موجب لتعدّد الفعل كما يوجب في قولك: أكرم زيدا و عمرا، و إنّما يوجب تعدّد متعلّقه مع وحدة نفسه، كما أنّ له أمثلة كثيرة في العرف، فلا فرق بين العبارتين بحسب المؤدّى، و أمّا قياس المقام بماء الرمان فقد عرفت ضعفه.

و يمكن الاستدلال لوجوب التثليث بما ورد في المحرم من أنّه كالمحل في الغسل و غيره إلّا أنّه لا يقربه الكافور، فإنّ الظاهر أنّ الوجه فيه إنّما هو تعذر استعمال الكافور من دون خصوصية للمورد، و لازمة عدم الفرق بين التعذّر العقلي و الشرعي.

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر دليل البدلية الجاعل للبدل بمنزلة المبدل و قائما مقامه، ترتّب جميع آثار المبدل على البدل، فيحكم بارتفاع نجاسة البدن و بعدم إيجاب المس بعده للغسل.

و كذا مقتضاه الاجتزاء بالبدل و عدم وجوب الإتيان بالمبدل بعد ارتفاع العذر، سواء كان قبل الدفن أم بعده، و إن كان الأحوط الإتيان به قبل الدفن، بل

ص: 385

بعده أيضا بناء على عدم الدليل على حرمة النبش في مثل المقام.

مسألة: لو لم يوجد الماء رأسا، أو خيف من استعماله و لو على وجه الصب من غير ذلك تناثر جلده لكونه محترقا أو مجدورا، وجب التيمّم

و يدل عليه مضافا إلى ظهور عدم الخلاف، و دعوى الإجماع عن غير واحد، رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي- عليهم السلام- قال: «إنّ قوما أتوا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فقالوا: يا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم مات صاحب لنا و هو مجدور فإن غسلناه انسلخ، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: يمّموه.» (1) المنجبر ضعفها بظهور استناد المشهور إليها من جهة تعبيرهم بمتنها.

و لا تعارضها رواية عبد الرحمن بن أبي نجران عن أبي الحسن- عليه السّلام- في الجنب و المحدث و الميّت إذا حضرت الصلاة و لم يكن معهم من الماء إلّا بقدر ما يكفي أحدهم قال- عليه السّلام-: «يغتسل الجنب، و يدفن الميّت، و يتيمّم الّذي هو على غير وضوء، لأنّ غسل الجنابة فريضة، و غسل الميّت سنّة، و التيمّم الآخر جائز.» (2) بعد ظهور وقوع السقط فيها فإنّها برواية التهذيب كما نقلناه مع ضعف السند، و برواية الفقيه مع زيادة كلمة بتيمّم بعد قوله و يدفن الميّت مع صحّة السند، فهي من الشواهد على المدّعى لا على الخلاف.

و يدلّ عليه أيضا عموم بدلية التراب و كونه أحد الطهورين، فإنّه بعد بيان الشارع كون الموت سببا للجنابة و غسل الميت طهورا لها يكون التراب بمقتضى العموم المذكور بدلا عن هذا الطهور أيضا.


1- الوسائل: ج 2، ب 16، من أبواب غسل الميّت، ص 702، ح 3.
2- المصدر نفسه: ب 18، من أبواب التيمّم، ص 987، ح 1.

ص: 386

و هل يكفي تيمّم واحد، أو لا بد من ثلاث تيمّمات بدل ثلاثة أغسال؟

الظاهر الثاني و إن قوّى بعض الأعاظم تبعا لشيخنا المرتضى- قدّس سرّه- الأوّل، فإنّ الظاهر كون كل من الأغسال طهورا مستقلا و مفيدا لمرتبة من الطهارة، و إن كانت الطهارة المطلقة للميّت حاصلة من المجموع كما يؤيّد ذلك التشبيه بغسل الجنابة فكأنّه قيل غسل الميّت مثل غسل الجنابة إلّا أنّه يكرّر ثلاث مرّات، و يمزج في المرة الأولى السدر، و في الثانية الكافور، و لا ينافي ذلك تشريك غير الماء معه بعد معلومية عدم مدخلية الغير في قوام ماهية الغسل و كون قوامها بالماء فقط، و إنّما اعتبر الغير لأجل غرض خارجي أمّا رفع أوساخ الجسد كما في السدر، و إمّا دفع هوام الأرض عنه بسبب رائحته كما في الكافور.

ثمّ الظاهر انتقاض هذا التيمّم و وجوب الإتيان بمبدله بعد ارتفاع الضرورة و العذر المسوغ، كسائر مواضع مشروعيته، لكن هذا إذا لم يستلزم محذورا بأن كان ارتفاع العذر قبل الدفن أو بعده، و لكن كان بروز الجسد على سبيل الاتفاق، و أمّا إذا كان بعد الدفن و استلزم النّبش ففيه اشكال، و هل يكون التيمّم بيدي الميّت مع الإمكان أم بيدي الحيّ مقتضى القاعدة هو الأوّل لكن المنسوب إلى المعروف هو الثاني.

الثالث: من الواجبات المتعلّقة بتجهيز الميّت تكفينه، و هو كتغسيله و غيره واجب كفاية على عامة المكلّفين، من غير فرق بين الأولياء و غيرهم، و خلاف صاحب الحدائق الذي تقدّم في التغسيل جار هنا مع جوابه فراجع، لكن الواجب إنّما هو سترة بالكفن لا بذله، فلو كان للميّت مال يفي بالكفن أو كان هناك باذل وجب ستره، و إلّا لم يجب على أحد بذله، كما يشهد بذلك قوله- عليه السّلام-: من كفّن

ص: 387

مؤمنا كان كمن ضمن كسوته إلى يوم القيامة، فإنّ اللسان لسان الاستحباب مضافا إلى أنّه الموافق للأصل بعد عدم الإطلاق في سائر الأدلّة.

و لعلّ من جملة الأغراض المقصودة من التكفين رفع العار عن أهل الميّت، حيث إنّ دفنه بلا كفن و عاريا عار على أهله، مضافا إلى ما دلّ عليه بعض الأخبار من أنّ المقصود منه مواراة الجسد، فتوهم كونه تعبديّا محتاجا إلى قصد القربة، بملاحظة عدم معلومية ترتّب الغرض المقصود منه على مجرد الوجود الخارجي، و ما هذا شأنه تعبّدي ضعيف مضافا إلى أنّ قضية الأصل عند الشك هو التوصلية، كما قرّر في الأصول، و ما أبعد ما بينه و بين من قال بحصول الثواب و لو مع عدم القصد، بل و لو مع قصد الخلاف، أو كونه مرائيا، و لعل المراد أنّ من الآثار الوضعية المترتبة قهرا على ذات العمل حصول صفة كمالية نفسانية للفاعل، و بسبب ذلك الكمال المسبب يمتاز الفاعل عن التارك، و إن كانا مساويين بملاحظة نفس الفعل الذي هو السبب، هذا بحسب مقام التصوير، و أمّا بحسب الإثبات فيحتاج إلى دليل و لم نعثر عليه.

ثمّ الواجب في الكفن ثلاث قطعات لا أقل خلافا لسلار فاكتفى بقطعة واحدة ساترة لجميع البدن، لنا أخبار كثيرة منها رواية عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «الميّت يكفّن في ثلاثة أثواب سوى العمامة و الخرقة يشد بها وركيه لكي لا يبدو منه شي ء، و العمامة و الخرقة لا بدّ منهما و ليستا من الكفن» (1) و بمضمونها أخبار أخر.

و احتجّ سلار بصحيحة زرارة قال: «قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: العمامة


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التكفين، ص 728، ح 12.

ص: 388

للميّت من الكفن هي؟ قال: لا، إنّما الكفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تام لا أقل منه يواري فيه جسده كلّه، فما زاد فهو سنّة إلى أن يبلغ خمسة، فما زاد فمبتدع و العمامة سنّة». الحديث. (1)

و فيه: أنّا و إن تصوّرنا التخيير بين الأقل و الأكثر التدريجيين بأن قلنا بكونه من باب تبديل الامتثال بالفرد الغير الأفضل و هو الأقل، بالامتثال بالفرد الأفضل و هو الأكثر، و لكنّ نسخة الرواية مضطربة ففي بعضها «و ثوب تام» بحذف الهمزة، و في آخر «ثوب تام» بدون حرف العطف، و في ثالث «تام» بدون كلمة ثوب و حرف العطف، و مع هذا كيف يمكن الاعتماد عليها.

ثمّ إنّ الإقطاع الثلاث للكفن على ما عليه جلّ الأصحاب لو لا كلّهم عدا صاحب المدارك و من تبعه:

أحدها: المئزر و حدّة أن يستر ما بين السرّة إلى ما دون الركبة، و الظاهر عدم الصدق بأقل من ذلك بحيث كانت الركبة بارزة.

و ثانيها: القميص و حدّه أن يصل طرفه من جانبي القدّام و الخلف إلى الفخذين، و لا عبرة تعارف في بعض الأمكنة من الاكتفاء بجانب القدّام و إسقاط الخلف، و إن أطلق عليه القميص مع الإضافة في بعض الأحيان لكنّه من قبيل إطلاق الماء المضاف كماء الرمان و نحوه.

و ثالثها: الإزار و هو اللفافة الشاملة لجميع البدن، و الظاهر جواز زيادته طولا بحيث أمكن عقد طرفيه، و عرضا بحيث أمكن تطبيق أحد الجانبين على


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التكفين، ص 726، ح 1.

ص: 389

الآخر، فإنّه المفهوم من ستر تمام البدن بعد كراهة الخياطة شرعا و عدم تعارف الوصل بنحو آخر.

ثمّ إنّ إطلاق الإزار على هذا المعنى هو الشائع في كلمات الفقهاء، و أمّا في الأخبار فالشائع إنّما هو استعماله في معنى المئزر كما وقع في أبواب الإحرام، و الحمام، و الحائض حيث ورد جواز الاستمتاع بها من فوق الإزار، خلافا لصاحب المدارك و تلميذه الأمين الأسترآبادي- قدّس سرّهما- حيث توهّما استعماله في أخبار الباب في معنى اللفافة كما في كلمات الفقهاء، و من أجل ذلك ذهبا إلى أنّ المعتبر في الكفن إمّا ثلاث لفافات و إمّا لفّافتان و قميص مخيّرا بين الأمرين، و نظرهما في جواز ثلاث لفافات إلى التعبير في بعض الأخبار بثلاثة أثواب حيث توهّما أنّ المتبادر من الثوب كونه ساترا لجميع البدن.

و فيه: مضافا إلى منع التبادر المذكور في لفظة الثوب، و لهذا يصدق على القميص و المئزر مع عدم شمولهما، أنّ حمل الإزار في أخبار الباب على إرادة اللفافة استنادا إلى إطلاق الفقهاء، و نقل بعض أهل اللغة محل منع.

أمّا أوّلا فلأنّ كون لفظ الإزار حقيقة في معنى المئزر مسلّم، و كونه حقيقة في اللفافة لم يثبت، و مجرّد الاستعمال أعمّ من الحقيقة و لا حجيّة في نقل اللغوي لعدم كونه خبرة لتشخيص الحقائق عن المجازات، و إن كان كذلك لتشخيص موارد الاستعمال.

و أمّا ثانيا سلّمنا كونه مشتركا بين المعنيين لكن القرائن على إرادة المئزر منه في هذه الأخبار، مضافا إلى شيوع استعماله فيه في الأبواب المتقدّم إليها الإشارة موجودة في نفس الأخبار.

ص: 390

منها: صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: كيف أصنع بالكفن؟ قال: «تؤخذ خرقة فيشدّ بها على مقعدته و رجليه» قلت:

فالإزار؟ قال: «لا، إنّها لا تعد شيئا إنّما تصنع لتضمّ ما هناك لئلّا يخرج منه شي ء، و ما يصنع من القطن أفضل منها» الحديث. (1) حيث إنّ الإمام لمّا حكم بشد الخرقة عن الرجلين، توهّم السائل أنّها إمّا عين الإزار، أو مغنية عنه، و قوله: «فالإزار» إمّا بمعنى أنّ الإزار هذه الخرقة أو بمعنى أنّ الإزار لغو لا فائدة فيه مع وجود هذه الخرقة، فأجابه الإمام- عليه السّلام- بأنّها غير معدودة من أجزاء الكفن و غير مغنية عن الإزار، و لا يخفى أنّ هذه قرينة على أنّ الإزار المعهود المعدود من أجزاء الكفن عبارة عن المئزر، لا اللفافة، و إلّا لم يصح التوهّم المذكور كما هو واضح.

و منها: رواية معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «يكفّن الميّت في خمسة أثواب، قميص لا يزرّ عليه، و إزار و خرقة يعصب بها وسطه، و برد يلفّ فيه، و عمامة يعتمّ بها و يلقى فضلها على صدره» (2) و في نسخة على ما عن الوسائل على وجهه، فإنّ جعل الإزار قسيما لبرد يلف فيه يدلّ على عدم كون الإزار شاملا للبدن و ممّا يلف فيه الميّت.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: «يكفّن الرجل في ثلاثة أثواب، و المرأة إذا كانت عظيمة في خمسة: درع و منطق و خمار و لفافتين» (3) فإنّ المراد بالمنطق على ما في مجمع البحرين ثوب يختص بالمرأة و أشبه شي ء بالمئزر، فإنّه قال في عداد معاني هذه اللفظة: و المنطق أيضا شقة تلبسها المرأة


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التكفين، ص 727، ح 8.
2- المصدر نفسه: ص 728، 13.
3- المصدر نفسه: ص 728، ح 9.

ص: 391

و تشدّ وسطها ثمّ ترسل أعلاها إلى الركبة و الأسفل إلى الأرض، ثمّ قال: و منه الحديث يكفّن المرأة في درع و منطق، انتهى.

و منها: رواية يونس عنهم- عليهم السلام- في تحنيط الميّت و تكفينه قال: «ابسط الحبرة بسطا، ثمّ ابسط عليه الإزار، ثمّ ابسط القميص عليه» (1) الحديث. فإنّ الإتيان بكلمة ثمّ في ما بين الحبرة و الإزار يدلّ على عدم كون الإزار كالحبرة شاملا لجميع البدن، و إلّا لقال: ابسطهما ثمّ ابسط القميص عليهما.

و منها: رواية عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه سئل عن الميّت فذكر حديثا يقول فيه: ثمّ تكفّنه- إلى أن قال:- «ثمّ تبدأ فتبسط اللفافة طولا، ثمّ تذرّ عليها من الذريرة، ثمّ الإزار طولا حتى يغطّى الصدر و الرجلين، الحديث» (2) فإنّها صريحة في اختصاص مقدار تغطية الإزار بالصدر و الرجلين و عدم كونه شاملا لجميع البدن.

و منها: رواية يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأوّل- عليه السّلام- قال: «سمعته يقول: إنّي كفّنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما، و في قميص من قمصه، و في عمامة كانت لعلي بن الحسين- عليه السّلام.» (3) الحديث.

و صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «كان ثوبا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم اللذان أحرم فيهما يمانيين عبريّ و أظفار، و فيهما كفّن.» (4) فإنّهما بعد معلومية كون الإزار الذي هو أحد ثوبي الإحرام بمعنى المئزر شاهدان على ارادة هذا المعنى


1- الوسائل: ج 2، ب 14، من أبواب التكفين، ص 744، ح 3.
2- المصدر نفسه: ص 745، ح 4.
3- المصدر نفسه: ب 2، من أبواب التكفين، ص 739، ح 15.
4- المصدر نفسه: ب 5، من أبواب التكفين، ص 733، ح 1.

ص: 392

منه في أخبار المقام، و إن كان يمكن استعماله في الكفن لكونه كبيرا بكيفية اللفافة لا بكيفية المئزر، لكن الأخبار المتقدّمة كافية لإثبات كونه بكيفية المئزر.

و بالجملة فملاحظة هذه الأخبار و فهم الأصحاب جلا بل كلا عدا من عرفت، و استمرار سيرة المتشرّعة خلفا عن سلف، تورث الاطمئنان التام بإرادة معنى المئزر من الإزار في هذا الباب، مضافا إلى أنّ مقتضى الأصل أيضا عدم وجوب ستر أزيد ممّا يستره المئزر بساتر الإزار، و إن كان لا يمكن إثبات خصوصية المئزر بهذا الأصل بحيث لا يكتفى بالثوب الشامل لتمام البدن مكانه.

و أمّا ما استند أو يصح أن يستند إليه صاحب المدارك فأمور:

منها: كلمة «ثلاثة أثواب» الواقعة في الأخبار بدعوى ظهورها في شمول كل واحد من الأثواب، غاية الأمر خرجنا عن هذا الظاهر في مورد القميص للأخبار الخاصة، و قلنا لأجلها بالتخيير، و بقي الظهور المذكور في مورد الإزار بحاله.

و فيه: منع الظهور المذكور أشد المنع كما تقدّم.

و منها: قوله في حسنة الحلبي: «و ليس تعد العمامة من الكفن إنّما يعد ما يلف به الجسد»، بدعوى ظهوره في انحصار أجزاء الكفن في ما يتّصف بصفة لف الجسد و هو أيضا ظاهر في الشمول.

و فيه: انّا و إن سلّمنا هذا الظهور من جهة مقدّمات الإطلاق عند عدم العهد، كما لو قيل لف جسدك بالثوب الفلاني، لكن لا نسلّمه في ما كان في البين عهد خارجي كما في ما نحن فيه، حيث إنّه في مقام نفي جزئية العمامة التي هي ممّا يلف به الرأس، قيل إنّما يعد من الكفن ما يلف به الجسد مشيرا إلى المعهودات الخارجية.

ص: 393

و منها: قوله- عليه السّلام- في صحيحة زرارة بناء على بعض نسخها: «ثلاثة أثواب تام لا أقل منه يوارى فيه جسده كلّه»، حيث إنّه ظاهر في لزوم اتصاف كل منها بصفة التمامية و الشمول.

و فيه: مضافا إلى تشويش النسخة المانع عن الاستدلال و احتمال كون التمامية صفة لمجموع الثلاثة، كون العبارة بحسب هذه النسخة ملحونة لعدم مطابقة الصفة مع الموصوف في التذكير و التأنيث.

و منها: حسنة حمران بن أعين عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «ثمّ يكفّن بقميص و لفافة و برد يجمع فيه الكفن» (1) حيث إنّ الظاهر أنّ المراد باللفافة هو الإزار و ظاهره الشمول.

و فيه: أنّه مبني على الإطلاق و عدم العهد و هو مفقود في المقام.

و منها: رواية محمّد بن سهل عن أبيه قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن الثياب التي يصلّي فيها الرجل و يصوم أ يكفّن فيها؟ قال- عليه السّلام-: «أحب ذلك الكفن يعني قميصا، قلت: يدرج في ثلاثة أثواب، قال: «لا بأس به و القميص أحبّ إليّ» (2) حيث إنّه ظاهر في اتصاف كل من الثلاثة بالظرفيّة لإدراج الميت.

و فيه: أنّه لم يرد من الإدراج هنا ما يرادف الشمول و الاستيعاب، و إنّما أريد به ما يقابل لبس القميص الحقيقي الواجد للكمّ و سائر الخصوصيات، فإنّ الّذي يعد من أجزاء الكفن يصحّ سلب اسم القميص عنه حقيقة، و قد علم من جميع ما ذكرنا، أنّ المئزر و القميص معتبران في الكفن على وجه العزيمة لا الرخصة، للأخبار


1- الوسائل: ج 2، ب 14، من أبواب التكفين، ص 745، ح 5.
2- المصدر نفسه: ب 2، من أبواب التكفين، ص 727، ح 5.

ص: 394

الخاصّة الظاهرة في اعتبارهما من حيث الخصوص، ثمّ إنّ اعتبار الإقطاع الثلاث إنّما هو في حال الاختيار، و أمّا في حال الاضطرار فلا إشكال في أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور و لو كان قطعة واحدة، بل و لو كان بمقدار ستر العورة و مع الدوران يقدم الأشمل فالأشمل فاللفافة مقدّمة على القميص و هو مقدّم على المئزر.

[الثالث في أحكام التكفين]

مسألة: يعتبر في جنس الكفن كونه متوسّطا لائقا بحال الميّت من حيث الشرف و الضعة

فلا يجوز بالأدون الموجب لمهانته و حقارته، كما لا يجوز بالأعلى من زيّه و شأنه مع عدم اجازة الوارث أو صغره.

نعم في المراتب المتوسطة لا يجب الاقتصار على الأقل، بل يجوز للولي اختيار الأعلى و لو مع عدم رضا الوارث أو صغارته، و يعتبر أيضا أن لا يكون حاكيا لما وراءه، لمنافاته مع الحكاية لما هو مقصود الشارع من مواراة الجسد.

نعم لو حصل الستر و المواراة من مجموع الثلاثة لا بكل واحد فالظاهر الكفاية.

و يعتبر أيضا أن لا يكون مغصوبا، و لو دفن بالكفن الغصبي جاز للمالك نبش قبره مقدّمة لانتزاع ماله، فإنّ دليل حرمة النبش ليس له إطلاق يشمل المقام، و ربّما يقال إنّه مع الإطلاق أيضا تقدّم عليه قاعدة السلطنة.

و فيه: أنّه لا حكومة للقاعدة على سائر الأدلّة، بل من المقرّر في محلّه أنّ القاعدة ليست بمشرعة.

و يعتبر أيضا أن لا يكون نجسا و يدلّ عليه مضافا إلى ظهور عدم الخلاف، و دعوى الإجماع عن المعتبر، و الذكرى، فحوى ما دلّ على وجوب إزالة النجاسة

ص: 395

الخارجة منه عن الكفن، و مقتضى إطلاقه وجوب الإزالة حتى لو كان تنجّسه بالدم الأقل من الدرهم.

و يعتبر أيضا أن لا يكون حريرا محضا، و استدل عليه بعد ظهور الإجماع المحكي عن جملة من العبائر، كالمعتبر، و التذكرة، و الذكرى، بمضمرة حسن بن راشد قال: سألته عن ثياب تعمل بالبصرة على عمل الصعب اليماني من قزّ و قطن، هل يصلح أن يكفّن فيها الموتي؟ قال: «إذا كان القطن أكثر من القزّ فلا بأس.» (1) فإنّ الموضوع في كلام السائل و إن كان القزّ المختلط، لكن يستفاد أن المنع في القزّ الخالص كان مفروغا عنه عند السائل، و الإمام- عليه السّلام- قرّره على ذلك، إلّا أن يقال: إنّ البأس المستفاد من المفهوم محمول على الكراهة قطعا، إذا بمجرد عدم أكثرية الخليط لا يصدق على القزّ عنوان المحوضة، بل لا بد أن يكون الخليط في القلّة بحدّ الاستهلاك، و لا يبعد كفاية كونه بمقدار العشر، فمع عدم الاستهلال لا يتحقّق البأس التحريمي، و حينئذ فلا تبقى دلالة على أنّ المنع الذي كان مفروغا عنه عند السائل كان تحريميّا.

و يمكن التمسّك باستصحاب المنع الثابت في حال الحياة في حقّ الرجال، فانّ موضوعه مطلق اللبس لا خصوص التزيّن، و على هذا فمقتضاه القول بالجواز في حقّ النساء، اللّٰهمّ إلّا أن يتشبّث في إثبات المنع في حقهنّ بذيل الكلية التي يستظهر من الشهيدين و المحقّق الثاني كونها من المسلّمات، و من المحقّق الأردبيلي كونها مظنّة الإجماع، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليها صريحا، و هي أنّ كلّ ما لا يجوز فيه صلاة الرجل لا يجوز فيه التكفين و لو في حقّ النساء، و على هذا فلا يجوز


1- الوسائل: ج 2، ب 23، من أبواب التكفين، ص 752، ح 1.

ص: 396

التكفين في أجزاء مالا يؤكل لحمه أيضا، و لا في الذهب و لو للنساء، و لا في الميتة، و لو كانت ظاهرة كميتة ما لا نفس له، بل يزيد المقام على باب الصلاة فيضاف هنا على ما ذكر المنع من التكفين في الجلد، و لو كان ممّا يؤكل، و ذلك لانصراف لفظ الثوب عنه، هذا و لو نوقش في أصل الكلّية المذكورة، كما يلوح من بعضهم حيث اقتصر في باب الكفن الممنوع على ذكر الحرير، أو نوقش في كونها بالكيفية التي ذكرنا، و أنّ المتيقّن، أنّ المناط في جواز التكفين و عدمه بالنسبة إلى كل أحد جواز صلاة نفسه و عدمه، لا أنّ المناط في حقّ كل أحد جواز صلاة خصوص الرجل و عدمه، كان مقتضى القاعدة جواز الحرير و الذهب في حقّ النساء كما هو واضح.

و الّذي تمسّك به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- على إثبات الكلّية المذكورة، رواية محمّد بن مسلم عن الصادق- عليه السّلام- قال: «قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-:

لا تجمّروا الأكفان، و لا تمسحوا موتاكم بالطيب إلّا بالكافور، فإنّ الميت بمنزلة المحرم.» (1) بضميمة ما ورد في باب الإحرام، من أنّ كلّ ما لا يجوز الصلاة فيه لا يجوز الإحرام فيه، بتقريب أنّ ما هو الملحوظ في هذا التنزيل على وجه الركنية إنّما هو ثوب الإحرام، و خصوصياته، من أجزائه، و شرائطه، دون تروك الإحرام و أفعاله، إذ هي ليست متمشّية من الميّت حقيقة، و إن كانت متحقّقة صورة، فكأنّه قيل حيث إنّ الميّت بمنزلة المحرم من جهة الثوب و خصوصياته يكره إمساس الطيب إيّاه، لأنّه كتعرّض نفس الميّت للطيب صورة و إن كان ليس به حقيقة.

و فيه: أنّ هذه الرواية معارضة بصحيحة محمد بن مسلم الواردة في حكم من مات محرما يغطى وجهه و يصنع به ما يصنع بالمحل، غير أنّه لا يقرّبه طيبا، و جعل


1- الوسائل: ج 2، ب 6، من أبواب التكفين، ص 734، ح 5.

ص: 397

التنزيل منزلة المحل في هذه الصحيحة بملاحظة الأفعال و التروك، و التنزيل بمنزلة المحرم في الرواية الأولى بملاحظة الثوب و خصوصياته تحكّم بارد.

فالعمدة في المقام كون المسألة مظنّة الإجماع ثمّ هذا كلّه مع الاختيار، و أمّا مع الاضطرار و الانحصار في الكفن الممنوع، فلا إشكال في عدم التكفين في المغصوب، بل يدفن الميّت عاريا، و أمّا في الممنوعات الأخر غير الجلد فالقدر المتيقّن من دليلها الذي هو الإجماع، إنّما هو حال الاختيار، فيبقى حال الاضطرار باقية تحت الإطلاقات، و أمّا الجلد فلا إشكال أيضا في أنّ المواراة به تعدّ ميسورا للمواراة بالثوب، هذا مع الانحصار في واحد.

و أمّا مع الانحصار في اثنين أو أزيد فلو دار بين النجس و غيره، فالمحكي عن الشهيد- قدّس سرّه- تأخيره عن غيره، معلّلا بأنّ المنع فيه عرضي و في غيره ذاتي، و اعترض عليه بعض بأنّ الترجيح المذكور اعتباري صرف لا يعبأ به، إذ ربّ منع عرضي يرجّح على منع ذاتي، و أمثلته العرفية غير عزيزة، و وجّه شيخنا المرتضى مقالة الشهيد- قدّس سرّهما- بأنّ اعتبار سائر الخصوصيات في رتبة الموضوع بالنسبة إلى اعتبار وصف الطهارة، مثلا لو قيل: جئني بزيد القائم فاعتبار خصوصية الزيدية في رتبة الموضوع بالنسبة إلى اعتبار القيام، فلو دار الأمر بين المجي ء بزيد الجالس أو عمرو القائم، فلا إشكال في أنّ الثاني خارج عن موضوع المطلوبية رأسا، فكذا في مقامنا اعتبار كون الكفن غير حرير و عدم كونه من أجزاء ما لا يؤكل، في رتبة الموضوع بالنسبة إلى اعتبار وصف الطهارة.

و لو دار الأمر بين الجلد و غيره فالكلام فيه ما تقدّم في النجس حرفا بحرف، فإنّ الحرير و ما لا يؤكل داخلان في موضوع الثوب، و الجلد خارج عنه وضعا أو

ص: 398

انصرافا.

و لو دار بين الحرير و ما لا يؤكل، فيحتمل التخيير، و يحتمل تقدّم الحرير لكون المنع فيه وضعيا و تكليفيا، و في ما لا يؤكل وضعيا فقط، و يحتمل تقديم الحرير في حقّ النساء و تقديم ما لا يؤكل في حقّ الرجال.

و العجب ممّا وقع في عبارة العروة الوثقى في هذا المقام، فإنّه بعد ما حكم بتقديم الحرير على ما لا يؤكل، قال: و إن كان لا يخلو عن إشكال في صورة الدوران بين الحرير و جلد غير المأكول، انتهى.

و أنت خبير بأن تأتّي الإشكال في غير الجلد من غير المأكول أولى منه في الجلد منه لكون الجلد واجدا لحيثيتين من المنع، و غيره لحيثية واحدة، و من المحتمل، بل المقطوع أنّ في العبارة تصحيفا من النسّاخ أو سهوا من قلمه الشريف.

مسألة: يجب [تحنيط الميّت بعد تغسيله]

على المعروف من مذهب الأصحاب، كما عن المدارك، بل إجماعا، كما عن الخلاف، و الغنية، و المنتهى، و التذكرة، و الروض تحنيط الميّت بعد تغسيله.

و هل يجب أن يكون قبل التكفين، أو بعد التأزير، أو بعده و بعد التقميص، أو بعد التكفين، أو هو مخير؟ ظاهر قوله- عليه السّلام-: «إذا جفّفت الميّت عمدت إلى كافور مسحوق، فمسحت به آثار السجود» هو الأوّل، لظهوره في البعديّة المتصلة بالنسبة إلى التغسيل المستلزمة للقبلية بالنسبة إلى التكفين.

و هل يجب أن يكون بطريق المسح كما عبّر به في بعض الأخبار، أم يكفي

ص: 399

كونه على وجه الوضع و الجعل، كما عبّر به في آخر؟ الظاهر الأوّل، لتقييد البعض الثاني من الأخبار بالبعض الأوّل.

بل يجب أن يكون المسح على وجه يؤثّر في المحل الممسوح أثر الكافور، لأنّه المتبادر من المسح على الموضع بالكافور.

و من هنا يجب أن يكون الكافور مسحوقا لعدم التأثير في غير المسحوق منه.

و يجب أن يكون المسح المذكور على المساجد السبعة من البدن: الجبهة، و باطن الكفّين، و الركبتين، و إبهامي الرجلين.

و أمّا الأنف، فالظاهر عدم القول فيه بالوجوب، بناء على ما هو الحقّ من عدم وجوب إرغامه في السجود، و أمّا سائر المواضع المذكورة في الأخبار، فهي بين ثلاثة أقسام:

أحدها: ما ورد فيه النهي فقط و هو البصر و المنخران.

و الثاني: ما ورد فيه الأمر كذلك و هو الفم و المفاصل كلّها من القرن إلى القدم، و الرأس، و اللحية، و الصدر، و الفرج، و ظهر الكفّين، و اللبّة، و باطن القدمين، و موضع الشراك من القدمين، و العنق، و المنكبان، و المرافق.

و الثالث: ما ورد فيه الأمر و النهي معا و هو المسامع، أما ما ورد فيه النهي فظاهر النهي هو التحريم، إلّا أن يوهن الظهور بوقوعه في رديف المستحبّات، و أمّا ما ورد فيه الأمر فقط، فالأمر المذكور لكونه خاصّا ببعض الأخبار و خلو البعض الآخر عنه، مع كونه في مقام البيان و التعداد محمول على الاستحباب، و ليس هنا محل حمل المطلق على المقيّد، لأنّ ما لم يشتمل على الأمر المذكور مع كونه بصدد

ص: 400

التعداد، ظهوره في عدم الوجوب أزيد من ظهور الإطلاق المسبب عن المقدمات، و من هنا لا وجه للتأمّل في الوجوب بالنسبة إلى ما اتّفق على الأمر به جميع أخبار الباب، و هو المساجد السبعة، و إن صدر عن المحقّق الأردبيلي- قدّس سرّه- بل حكي عن بعض الجزم بالاستحباب، لكن فيه أنّه رفع اليد عن ظهور الأمر بلا وجه ملزم، و مجرّد اختلاف الأخبار لا يصير قرينة على الاستحباب بالنسبة إلى القدر المشترك بينها.

فإن قلت: فلم لا تقول بمثله في منزوحات البئر، و هل القرينة على الاستحباب هناك إلّا اختلاف الأخبار.

قلت: العمدة في تلك المسألة صحيحة إسماعيل بن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء لأنّ له مادة» ثمّ تجعل اختلاف أخبار النزح في التحديد مؤيّدا لذلك، و هذا بخلاف المقام، حيث لم يرد فيه خبر دال على عدم الوجوب بالنسبة إلى القدر المشترك أصلا.

و أمّا ما ورد فيه الأمر و النهي، فالتخيير الواقعي بين الفعل و الترك لا معنى له، و الظاهري فرع المكافئة و عدم الجمع الدلالي، و يمكن حمل الأمر على مورد الابتلاء بالتقية من المخالفين، و النهي على المرجوحية الذاتية، فيحكم في غير المورد المذكور بالمرجوحية.

و أمّا الحرمة فمحل اشكال بعد وقوع النهي المذكور في تلو المستحبّات، ثمّ إنّ الظاهر كفاية مسمّى الكافور في الحنوط، و عدم التقدير له شرعا، فإنّه مضافا إلى أصالة البراءة عن الزائد يكون مقتضى الإطلاقات أيضا، مثل قوله: «إذا جففت الميّت عمدت إلى الكافور فمسحت به آثار السجود».

و قوله في رواية الحلبي: «إذا أردت أن تحنّط الميّت فاعمد إلى الكافور،

ص: 401

فامسح به آثار السجود» و أظهر منهما موثقة سماعة «و يجعل شيئا من الحنوط على مسامعه و مساجده و شيئا على ظهر الكفّين».

و العجب من شيخنا المرتضى- رحمه اللّٰه-، حيث ذهب إلى أنّه لا إطلاق لأدلّة المقام لكون ما عدا الرواية الأخيرة واردا في مقام بيان موضع الحنوط بعد الفراغ عن سائر خصوصياته، و أمّا الرواية الأخيرة ففي مقام بيان عدم وجوب التعديل و التسوية بين المواضع، و كفاية الزيادة و النقيصة بينها فلا ينافي كون الكافور المصروف في مجموع المواضع مقدّرا بمقدار خاص.

و أنت خبير بما فيه، و لا سيما ما ذكره في الرواية الأخيرة فإنّه مجرّد إبداء احتمال عقلي في مقابل الظهور العرفي، بل يمكن أن يقال في الموثقة سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الحنوط للميّت؟ فقال: «اجعله في مساجده»: إنّ مقصود السائل هو السؤال عن الحنوط بجميع خصوصياته، فاقتصار الإمام- عليه السّلام- على ذكر المواضع يدلّ على أنّ المهتم به إنّما هو ذلك، و أمّا المقدار فيكفيه المسمّى، نظير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلْ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوٰالِدَيْنِ الآية (1) حيث إنّ العدول في الجواب عن ذكر الجنس مع كون السؤال عنه إلى بيان المصرف، يدل على أنّ المهم إنّما هو أمر المصرف، و أمّا الجنس فيكفيه أي شي ء أردتم.

و أمّا مرسلة ابن أبي نجران: «أقل ما يجزي من الكافور للميّت مثقال» (2).

و في رواية أخرى (3): مثقال و نصف، و لعلّهما رواية سقط النصف عن نقل الراوي


1- البقرة/ 215.
2- الوسائل: ج 2، ب 3، من أبواب التكفين، ح 2.
3- الوسائل: ج 2، ب 3، من أبواب التكفين، ح 5.

ص: 402

في الأولى، كما يشهد باتحادهما وحدة الراوي و المروي عنه، ففيها مضافا إلى ضعف السند قصور الدلالة، إذ لا دلالة فيها على أنّ هذا المقدار لأجل الحنوط فقط، فلعلّ المراد أنّه لمجموع الحنوط و الغسل، و لا يخفى انطباقه حينئذ على المسمّى بعد ملاحظة أنّه لا بدّ في كافور الغسل أن لا يكون في القلّة بحدّ يصير مستهلكا في الماء.

ثمّ إنّه يستثنى من هذا الحكم، أعني: وجوب تحنيط الميّت، ما إذا كان الميّت محرما فإنّه يسقط عنه التحنيط، و لا يستعمل الكافور في غسله.

و يدلّ عليه مضافا إلى ظهور عدم الخلاف، و إجماع الخلاف، و الغنية صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام-: سألته عن المحرم إذا مات كيف يصنع به؟ قال: «يغطى وجهه و يصنع به كما يصنع بالمحل، غير أنّه لا يقرّبه طيبا».

و في الموثق سألته عن المحرم يموت؟ فقال: «يغسّل و يكفّن بالثياب كلّها و يغطّى وجهه و يصنع به كما يصنع بالمحل، غير أنّه لا يمس الطيب».

و العجب من بعضهم، حيث توهّم اختصاص الروايتين بباب الحنوط و عدم دلالتهما على عدم استعمال الكافور في غسله، بدعوى انصراف تقريب الطيب و مسّه إلى صورة كونهما على وجه المباشرة، دون ما لو كانا بتوسّط الماء، و فيه ما لا يخفى.

ثمّ إنّك عرفت عدم التقدير الشرعي للمقدار الواجب من كافور الحنوط، لكن ذكر غير واحد من الفقهاء- قدّس سرّهم- مراتب للمقدار المستحب منه أدناها مقدار الدرهم الذي هو نصف مثقال صيرفي و ربع عشر، و لم يعلم له

ص: 403

مستند، و أوسطها مقدار أربعة دراهم و مستنده منحصر في الرضوي، و أعلاها مقدار ثلاثة عشر درهما و ثلث درهم و مستنده عدّة أخبار:

منها: مرفوعة الكافي قال: السنّة في الحنوط ثلاثة عشر درهما و ثلث أكثره، و قال: «إنّ جبرئيل نزل على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بحنوط و كان وزنه أربعين درهما، فقسّمها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم ثلاثة أجزاء: جزءا له صلى اللّٰه عليه و آله و سلم، و جزءا لعلي- عليه السّلام-، و جزءا لفاطمة- عليها السّلام-» (1) و بمضمونها عدّة أخبار أخر و في الفقه الرضوي: «فإذا فرغت من كفنه حنّطه بوزن ثلاثة عشر درهما و ثلث من الكافور»، و ربّما يخدش في دلالة ما عدا الرضوي باستبعاد كون ما نزل به جبرئيل مقصورا على كافور حنوطهم- عليهم السلام-، و كان كافور غسلهم- عليهم السلام- من غيره، لكن الخدشة المذكورة ضعيفة بعد ملاحظة الرضوي و فهم العلماء من الروايات ذلك.

ثمّ إنّه يكره بل قيل يحرم تطييب الميّت بغير الكافور من سائر أنواع الطيب، سواء كان بإلقائه في ماء غسله، أو بمزجه في كافور حنوطه على وجه لا يخرجه عن اسم الكافور، أو كان بإلقائه على البدن مستقلا، أو على الكفن، و يستثنى من ذلك الذريرة فإنّ التطييب به غير مكروه بل مستحب.

و يدل على الحكم الأوّل خبر محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال:

«قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: لا تجمّروا الأكفان و لا تمسحوا موتاكم الطيب إلّا بالكافور، فانّ الميّت بمنزلة المحرم».

و القرينة على كون النهي للكراهة، مرسلة الصدوق «سئل أبو الحسن الثالث- عليه السّلام-: هل يقرب إلى الميّت المسك أو البخور؟ قال: نعم.» مضافا إلى شهادة


1- الوسائل: ج 2، ب 3، من أبواب التكفين، ص 730، ح 1، 6، 8، 9.

ص: 404

التعليل في الرواية الأولى فإنّ كون الميّت بمنزلة المحرم ليس على سبيل اللزوم، بل على وجه الاستحباب، بقرينة ما ورد في خصوص من مات في حال الإحرام من كونه بمنزلة المحل و يصنع به ما يصنع بالمحل، غير أنّه لا يقربه الطيب حتى الكافور.

نعم يعارض الرواية المذكورة رواية مغيرة عن الصادق- عليه السّلام- «غسّل علي ابن أبي طالب- عليه السّلام- رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بدء بالسدر، و بالثانية بثلاثة مثاقيل من كافور، و مثقال من مسك».

و مرسلة الصدوق- بعد ذكر حديث تكفين النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم روي أنّه «حنّطه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بمثقال من مسك»، و حمل هاتين الروايتين على الإخبار عن خلاف الواقع تقيّة، بعيد، كالحمل على كون ذلك من خصائص النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أو عروض الجهة المقبّحة بعد اتّخاذ العامة ذلك شعارا لهم، فالمتعيّن طرح الروايتين لعدم تكافئهما للرواية الأولى المعتضدة بعدّة روايات أخر، و منه يظهر ضعف ما حكي عن ظاهر الصدوق من الالتزام بالاستحباب استنادا إلى الروايتين.

و أمّا الحكم الثاني فيكفي فيه الأمر الوارد به في موثقتي عمار و سماعة، ففي الأولى: «يجعل على مقعدته شيئا من القطن و ذريرة- إلى أن قال:- يذر عليها (أي على اللفافة) من الذريرة- إلى أن قال:- و ألق على وجهه ذريرة- إلى أن قال:- و يطرح على كفيه ذريرة.» و في الثانية: إذا كفّنت الميت فذر على كل ثوب شيئا من ذريرة و كافور.

و أمّا الذريرة فالظاهر أنّه نوع خاص من الطيب، و هو على ما ذكره بعضهم فتاة قصب الطيب يجاء به من الهند، و على ما نقله في مجمع البحرين عن بعضهم

ص: 405

يجاء به من بعض نواحي نهاوند، و ذكر له شرحا غريبا من أراد فليراجع، و كيف كان فالظاهر أنّه ليس عبارة عن مطلق الطيب المسحوق، و ما يوجد في بعض العبارات محمول على التفسير بالأعم، من قبيل: سعدانة نبت.

مسألة [في استحباب إضافة الحبرة على الإقطاع الثلاث للكفن]

المشهور بين الأصحاب- قدّس سرّهم- بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا، و عن جامع المقاصد نسبته إلى جميع علمائنا، و عن الخلاف، و الغنية، و ظاهر البيان أو صريحه الإجماع عليه، انّه يستحب أن يزاد على الإقطاع الثلاث للكفن الحبرة- بكسر الحاء و فتح الباء الموحدة- و هو برد يمنيّة خلافا لصاحب المدارك و من تبعه فنفوا استحبابه، و جعلوا المستحب وصف كون اللفافة الواجبة حبرة.

و مستند المشهور أمور:

أحدها: رواية يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأوّل- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: «إنّي كفّنت أبي في ثوبين شطويين، كان يحرم فيهما، و في قميص من قمصه، و عمامة كانت لعلي بن الحسين- عليهما السلام- في برد اشتريته بأربعين دينارا، لو كان اليوم لساوى أربعمائة دينار.» (1) فانّ المراد من تكفينه- عليه السّلام- بثوبي الإحرام، كما في أخبار تكفين النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بثوبي إحرامه، جعل أحدهما مئزرا، و الآخر لفافة، و القميص مذكور في الرواية صريحا، فيبقى البرد المذكور زائدا على الإقطاع الثلاث.

ثانيها: صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «البرد لا يلف به و لكن يطرح عليه طرحا فإذا أدخل القبر وضع تحت خده و تحت جنبيه» (2) إذ لا يخفى أنّ الكيفية المذكورة،


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التكفين، ح 15.
2- المصدر نفسه: ب 14، ح 6.

ص: 406

أعني: طرح البرد على الميت ما لم يدفن، و وضع مقدار من أحد طرفيه عرضا مفروشا تحت جنبيه، و مقدار منه مجموعا تحت خده، و إلقاء الجانب الآخر فوقه منافية مع وضع اللفافة من عقد طرفيه طولا، و إلقاء أحد طرفيه عرضا على الآخر، و قرينة واضحة على أنّ البرد المذكور من تشريفات الميت و تجليلاته.

و ثالثها: صحيحة زرارة قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: «العمامة للميت من الكفن هي؟ قال- عليه السّلام-: لا إنّما الكفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تام لا أقل منه يوارى فيه جسده كلّه، فما زاد فهو سنة إلى أن يبلغ خمسة، فما زاد فمبتدع، و العمامة سنة» (1). فانّ القرينة في نفس الرواية قائمة على خروج العمامة من الخمسة، كما أنّ الإقطاع الثلاث داخلة قطعا، فإنّ قلنا بخروج الخرقة عنها، كما تشهد به رواية ابن سنان النافية كونها من الكفن، و أنّها إنّما تصنع لتضم ما هناك، لئلّا يخرج شي ء كانت الصحيحة دليلا على استحباب زيادة لفافتين أخريين على الإقطاع الثلاث، كما نسب ذلك أيضا إلى المشهور، و إن قلنا بدخول الخرقة فيها كانت دليلا على استحباب زيادة اللفافة الواحدة.

و مستند صاحب المدارك أيضا أمور: منها: هذه الصحيحة الأخيرة بدعوى دخول العمامة و الخرقة في الخمسة، فتبقى الحبرة خارجة عن الخمسة، و قد حكمت الصحيحة بأنّ الخارج عن الخمسة مبتدع، و الدليل على دخول العمامة و الخرقة، صحيحة معاوية بن وهب «يكفن الميت في خمسة أثواب، قميص لا يزرّ عليه، و إزار، و خرقة يعصب بها وسطه، و برد يلف فيه، و عمامة يعتم بها» (2).


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التكفين، ح 1.
2- المصدر نفسه: ح 13.

ص: 407

و فيه: انّا لا ننكر صحّة إطلاق الخمسة على ما يشمل العمامة و الخرقة، و لكنّا ندّعي قيام القرينة في نفس الصحيحة المتقدمة، و غيرها على خروجهما أو خروج العمامة من إطلاق اللّفظ المذكور في تلك الصحيحة.

و منها: الأخبار المستفيضة الحاكية لاقتصار أمير المؤمنين- عليه السّلام- في تكفين النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم على الإقطاع الثلاث، و لو كانت الحبرة الزائدة مستحبة، لما كان لهذا الاقتصار وجه، خصوصا في تكفين النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم.

و فيه: أنّ الفعل لا يزاحم ظهور القول، فلعلّه كان بملاحظة شدة استيلاء الفقر في ذلك الزمان على المؤمنين، فروعي في هذا الاقتصار ترميم قلوبهم و تسلية خاطرهم.

و منها: حسنة الحلبي عن الصادق- عليه السّلام- قال: «كتب أبي في وصيته أن أكفّنه في ثلاثة أثواب، أحدها رداء له حبرة كان يصلّي فيه يوم الجمعة، و ثوب آخر، و قميص، فقلت لأبي لم تكتب هذا؟ فقال: أخاف أن يغلبك الناس فإن قالوا كفّنه في أربعة أثواب أو خمسة، فلا تفعل قال: و عمّمته بعمامة و ليس تعدّ العمامة من الكفن إنّما يعد ما خلف به الجسد» (1) بناء على أنّ المراد من الناس هم المخالفون، فتدلّ الرواية على أنّ استحباب الزيادة كان من بدعهم، و لهذا احتيج إلى هذه المبالغة و الإصرار.

و فيه: أنّه لو كان من البدع لكان الصادق- عليه السّلام- بنفسه محترزا عنه، من غير احتياج إلى الوصية فضلا عن التأكيد بالكتابة، فهذا أقوى شاهد على أنّ المراد بالناس عوام الشيعة الغير المراعين لحكمة التقية، و أنّ الاستحباب كان القول به


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التكفين، ح 10.

ص: 408

من مختصات الشيعة و مخالفا لما عليه عامّة العامة، فأراد الإمام- عليه السّلام- إخفاء هذا المعنى لئلّا يصير ذلك شعارا تعرف به الشيعة عند الأعداء، و يكفي شاهدا على ذلك نقل المحقّق، و العلّامة- قدّس سرّهما- على ما حكي اتّفاق العامة على القول بعدم الاستحباب.

و بالجملة فالإنصاف أنّ استفادة الاستحباب من مجموع أخبار الباب صافية عن شوب الارتياب، و اللّٰه تعالى هو العالم بالصواب.

مسألة: لو تنجّس البدن أو الكفن بنجاسة خارجة، أو بالخروج من الميت، وجب الإزالة عن كل منهما

و لو كان بعد الوضع في القبر، ما لم يكن مشقة أو هتك، و لم يجب إعادة الغسل و لو كان الخارج بولا أو منيا، و كان الخروج في أثنائه أو بعده.

أمّا عدم وجوب إعادة الغسل حتى في الصورة المذكورة فللإطلاقات، و لا يزاحمها ما دل على أنّ غسل الميت مثل غسل الجنابة للشك في اندراج ذلك تحت عموم التمثيل، و قوّة احتمال كونه من جهة الكيفية.

و أمّا وجوب الإزالة عن البدن و لو بعد الوضع في القبر، فيدل عليه موثقة روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «إن بدا من الميت شي ء بعد غسله، فاغسل الّذي بدا منه، و لا تعد الغسل» (1) و بهذا المضمون خبران آخران.

و أمّا وجوب الإزالة عن الكفن حتى بعد الوضع، فيدل عليه مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق- عليه السّلام- قال: «إذا خرج من الميّت شي ء بعد ما يكفن فأصاب


1- الوسائل: ج 2، ب 32، من أبواب غسل الميت، ح 1.

ص: 409

الكفن قرض من الكفن» (1) و نحوها رواية الكاهلي (2) عنه- عليه السّلام.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث ذهب إلى المعارضة بين هذه الرواية مع الرواية الأولى، من جهة ظهورها من حيث عدم التعرض للبدن في اغتفار هذه النجاسة بالنسبة إليه، حتى قبل الوضع في القبر، فيخصص بها إطلاق الرواية الأولى و يحكم باختصاصها بما قبل التكفين.

و فيه مضافا إلى مخالفته ظاهرا للإجماع أنّ النظر في الرواية الثانية ممحض في إثبات الإزالة من الكفن، مع السكوت من جهة البدن نفيا و إثباتا، و لا أقل من كون ذلك مقتضى الجمع بين الروايتين هذا، و لعل تعيين القرض محمول على صورة عدم تيسّر الغسل، أو كونه مستلزما للهتك، و حينئذ يكون عدم الإزالة عن البدن على طبق القاعدة.

هذا و لو استلزم القرض فساد الكفن أمكن أن يقال بوجوب التبديل على الولي، لأنّ الواجب إخراج الكفن الطاهر من التركة، فإذا عرض في الأثناء انتفاء القيد وجب تحصيله ثانيا.

مسألة: كفن المرأة على زوجها

اشارة

و يدل عليه بعد ظهور عدم الخلاف فيه في الجملة و دعوى الإجماع عن غير واحد، رواية السكوني قال: «على الزوج كفن امرأته إذا ماتت» (3). و في مرسلة الفقيه: «كفن المرأة على زوجها إذا ماتت» (4).

و الظاهر جبر ضعفهما بالاستناد، و قد يستدل باستصحاب بقاء حكم الكسوة الثابت في حال الحياة لبقاء الموضوع عرفا، و إن اختلفت هيئة الكسوة في حال


1- الوسائل: ج 2، من أبواب غسل الميت، ح 3.
2- الوسائل: ج 2، من أبواب غسل الميت، ح 4.
3- المصدر نفسه: ب 32، من أبواب التكفين، ص 759، ح 2.
4- المصدر نفسه: ب 32، من أبواب التكفين، ص 759، ح 1.

ص: 410

الحياة معها في حال الموت.

و يتفرّع على كون مدرك المسألة الاستصحاب، أو الروايتين أمور:

الأوّل: أنّه على الاستصحاب يجي ء الحكم في من عدا الزوجة من سائر واجبي النفقة في صورة إعساره، إلّا أن ينعقد إجماع على خلافه كما يظهر من بعض.

و الثاني: أنّه على الاستصحاب لا يجي ء الحكم في المتمتّع بها، و النّاشزة كما هو واضح بخلاف الحال على الروايتين لاندراجهما تحت الإطلاق.

و الثالث: أنّه على الاستصحاب يعم الحكم الموسر و المعسر الذي لا يملك ما زاد عن مستثنيات الدين، فيجب على المعسر أيضا بذل الكفن، إلّا أن يزاحمه ما هو الأهم من ضروريات المعاش، بخلاف الحال بناء على الروايتين، فإنّ الواجب عليهما أيضا و إن كان هو الإمتاع دون التمليك، بحيث ينتفي بفوات الموضوع، فلو دفنت عارية لا يجب بذل الثمن إلى الورثة، و لكنّه أيضا حق مالي فيجي ء فيه ما في سائر الديون المالية من تأخّره عن مستثنيات الدين.

و منه يظهر ضعف ما عن المدارك: من شمول الحكم بناء على الأخذ بالروايتين للمعسر أيضا، و أضعف منه ما احتمله صاحب الجواهر لو لا عدم معروفية الخلاف من دفنها عارية و لو كانت موسرة، ضرورة عدم الوجه في تخصيص الأدلّة القاضية بأنّ كفن الميت من صلب ماله بالنسبة إلى الزوجة، في صورة عدم بذل الزوج سواء قلنا بانّ مفاد قولهم- عليهم السلام- «كفن الزوجة على زوجها» ثبوت حق فعلي، و لازمة الاختصاص بالموسر و عدم إثباته في حقّ المعسر شيئا، أم قلنا بأنّ مفاده إثبات حقّ شأني في حقّ المعسر مزاحم بالحق الأقوى.

ص: 411

و ذكر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- انّ لازم تعليل الحكم المزبور بالاستصحاب، استقرار ثمن الكفن في ذمة الزوج لورثة الزوجة لو ترك تكفين زوجته و لو لأجل الإعسار، و يظهر منه- قدّس سرّه- عدم الفرق بين دفنها عارية، أو تكفينها من مالها أو مال الغير، و حيث إنّ الظاهر عدم التزامهم بهذا اللازم يكشف عن أنّ تعويلهم في هذا الباب ليس على الاستصحاب رأسا، بل تمام التعويل على ما عداه، و على هذا فيحكم بتأخّره من المستثنيات، و لو كان من باب النفقة لكان الأمر بالعكس و وجب بيع الدار و العقار لأجل الكفن.

و اعترض عليه بعض الأعاظم- قدّس سرّه- بالفرق بين صورة دفنها عارية، فأنكر استحقاق الورثة ثمن الكفن على الزوج، و بين تكفينها من مالها أو من ما لهم لا بقصد التبرّع، فالتزم حينئذ بجواز رجوعهم على الزوج بالثمن.

و فيه أنّ النفقة على ما ذكره الفقهاء في بابها، إمّا أن يكون من باب التكليف الصرف، أو الحق المتعلّق بالمواساة و سد الخلّة كما في نفقة الأقارب، و هذا القسم لا يقضى بعد فوات وقته، و إمّا أن يكون من باب الملك، سواء كان متعلّقه الإمتاع كما في كسوة الزوجة و سكناها، أو التمليك، كما في نفقة أكلها و شربها، و هذا القسم بكلا قسميه يقضى بعد فوات وقته و يستقرّ في الذمة، و على كل تقدير لا يبقى وجه للفرق بين الصورتين المذكورتين في كلامه- قدّس سرّه.

و كيف كان فالظاهر انّ الكفن ليس من باب النفقة، كما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- لعدم التزامهم بلوازمه، و على هذا فيحكم بتأخّره عن المستثنيات.

ص: 412

و هاهنا فروع:
الأوّل: لو لم يملك الزوج سوى المستثنيات و ماتت الزوجة و لم تخلف إلّا كفنا واحدا، حكم في الظاهر بانتقاله إلى الزوج

و يحصل له اليسار بذلك فيكفن به زوجته، فإن استمرّ حياته إلى ما بعد دفنها فلا كلام، و إن مات هو بعد موتها قبل دفنها و لو بعد تكفينها، فقد يتوهّم أنّه بناء على كون الكفن من باب الإمتاع، كما هو مقتضى أصالة بقاء ملك الزوج، و عدم اقتضاء الدليل أزيد من حقّ الإمتاع، أنّه ينزع الكفن من الزوجة و يجعل كفنا للزوج، و لكنّه مدفوع بأنّ موته حينئذ يكشف عن عدم إرثه من أوّل الأمر، و عدم انتقال الكفن من الزوجة إليه، لأنّ الإرث متأخّر عن الكفن، فحكمنا بالانتقال من الابتداء حكم ظاهري انكشف خلافه.

الثاني: لو ماتت الزوجة و خلّفت كفنين

و لم يملك الزوج سوى المستثنيات أو لم يملك شيئا، و لكن مات هو بعد زوجته ففي الصورتين ينتقل إليه الكفنان و يجب عليه تكفين زوجته بأحدهما.

أمّا في الصورة الأولى فلأنّ الميزان إنّما هو اليسار حال التكفين لا حال الموت و قد حصل.

و أمّا في الثانية: فلأنّ الموت قائم مقام اليسار فلا يلاحظ معه ملك الزائد عن المستثنيات كما قرر في بابه.

الثالث: لو ماتت الزوجة و مات الزوج بعدها و لم يكن في البين إلّا كفن واحد من ماله اختص به

لأنّ الكفن مقدّم على سائر الحقوق التي منها كفن الزوجة.

ص: 413

الرابع [حكم ما لو تقارن موت السيد و العبد]

لو تقارن موتهما فالظاهر انصراف النص عن هذه الصورة.

الخامس: كفن المملوك على سيّده

إلّا إذا كانت أمة مزوّجة، فإنّ كفنها على زوجها بمقتضى إطلاق النص المتقدّم، و أمّا ما عداها فيدل على ثبوت كفنه على السيد مضافا إلى ظهور الإجماع حكم العقل القطعي، بأنّ من تملك جميع منافع المملوك كان عليه نفقته حيّا و ميّتا، و لهذا يحكم بثبوت سائر مؤن التجهيز غير الكفن، كثمن السدر و الكافور.

و هل سائر مؤن الزوجة أيضا على الزوج أو لا؟ لا يبعد أن يقال: إنّ المنساق من قولهم- عليهم السلام: «كفن المرأة على» أنّ ذكر الكفن من باب المثال، كما في قولك: على فلان طعام العرس، حيث يستفاد منه أنّ ذكر الطعام من باب [المثال]، و المقصود إثباته مع الإدام، هذا مضافا إلى ظهور عدم الخلاف بينهم في المسألة.

مسألة: لا إشكال في إخراج الكفن من أصل التركة مقدّما على الديون و الوصايا، و الميراث

و يدل عليه مضافا إلى الإجماع صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «ثمن الكفن من جميع المال» (1) و رواية السكوني «أوّل شي ء يبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدين، ثمّ الوصية، ثمّ الميراث» (2).

و صحيحة زرارة: «سألته عن رجل مات و عليه دين و خلف قدر ثمن كفنه؟

قال: يجعل ما ترك في ثمن كفنه، إلّا أن يتّجر عليه (3) بعض الناس فيكفّنونه


1- الوسائل: ج 2، ب 31، من أبواب التكفين، ح 1.
2- المصدر نفسه: ب 28، من أبواب الوصايا، ح 1.
3- المراد التجارة الأخروية.

ص: 414

و يقضي ما عليه ممّا ترك» (1)، كما لا إشكال أيضا في تقدّمه على حقي المرتهن و غرماء المفلس، فإنّهما متفرعان على الدين و مجعولان بتبعه، فإذا فرض تقدّم الكفن على الأصل كان متقدّما على الفرع بالأولوية القطعيّة.

و إنّما الإشكال في تقدّمه على حقّ المجنيّ عليه في الجناية العمدية أو الخطائية، إذ ليس هو من باب الدين، و لا متفرعا عليه، و مجرد السبق الزماني لا يوجب الترجيح، و لا يبعد أن يقال: إنّ المستفاد من قولهم- عليهم السلام-: «أوّل شي ء يبدأ به من المال الكفن ثمّ الدين» أنّ ذكر الدين من باب المثال، و المقصود تقدّمه على جميع الحقوق المحفوظ معها عنوان المالية للميت، و يشهد به أيضا إطلاق قوله- عليه السّلام-: «ثمن الكفن من جميع المال» بتقريب أنّ المقصود ليس مقصورا على نفي كونه خارجا من الثلث فقط، بل المقصود بقرينة حذف المتعلّق هو مع ملاحظة تقدّمه على سائر الحقوق.

و هل التقدّم المذكور ملحوظ بالنسبة إلى المقدار الواجب من الكفن، فيصرف الزائد في المصارف المتأخّرة أو يعمّه و المقدار المستحب، سواء كان استحبابه بحسب الكمّية كالعمامة و الخرقة و اللفافة الثانية، أم بحسب الكيفية كوصف كون اللفافة الواجبة بردا و جنسا غاليا، لا يبعد أن يقال: إنّ قولهم- عليهم السلام- الكفن مقدّم على غيره محمول على ما بيّنوه في سائر الأخبار، فإذا اشتمل على المقدار الواجب و المستحب بكلا قسميه، فالاقتصار على خصوص القدر الواجب خلاف الإطلاق. نعم الاحتياط حسن على كل حال.


1- الوسائل: ج 2، ب 27 من أبواب الوصايا، ح 2.

ص: 415

مسألة: لا يجب بذل الكفن على أحد من المسلمين لو لم يكن للميت تركة

و يدل عليه بعد ظهور عدم الخلاف، و دعوى الإجماع عن غير واحد، أصالة البراءة بعد عدم الإطلاق في أدلّة الوجوب، فإن أظهرها قوله- عليه السّلام-: «الكفن فريضة للرجال ثلاثة أقطاع» (1) و من المعلوم كونه بصدد بيان وجوب كونه بثلاثة أقطاع، لا بصدد بيانه وجوبه، فضلا عن كونه بنحو الإطلاق أو الاشتراط.

و استدل عليه بعض الأعاظم- قدّس سرّه- على تقدير وجود الإطلاق، بأنّ أدلّة تعيين المأخذ للكفن من التركة، أو مالي الزوج و السيّد مقيّدة لذلك الإطلاق.

و فيه أنّه إنّما يتم لو كان لتلك الأدلّة إطلاق يشمل صورة فقد التركة، و فقد المال للزوج و السيد و هو غير معلوم، فإطلاق أدلّة الوجوب محفوظ بالنسبة إلى هذه الصورة، كما أنّ التمسك بدليل نفي الضرر أيضا في غير المحل، بعد كون هذا الحكم ضرريا إمّا على الزوج و السيد، و إمّا على الوارث، بناء على ما هو التحقيق من انتقال التركة بمجرّد الموت إلى الورثة، غاية الأمر محجوريّتهم عن التصرف و قصور السلطنة لهم، قبل أداء الكفن، و الدين، و الوصية، فالعمدة في المسألة إنّما هو عدم الإطلاق مضافا إلى ما هو ظاهر في الاستحباب.

مثل قوله- عليه السّلام-: «من كفّن مؤمنا ضمن كسوته إلى يوم القيامة» (2).

و مثل رواية [فضل بن] يونس الكاتب، قال: «سألت أبا الحسن موسى- عليه السّلام-، فقلت له: ما ترى في رجل من أصحابنا يموت و لم يترك ما يكفّن به أشتري له كفنه من الزكاة؟ فقال: أعط عياله من الزكاة قدر ما يجهّزونه، فيكونون هم الذين


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التكفين، ح 7، و فيه: «ثلاثة أبواب».
2- المصدر نفسه: ب 26، من أبواب التكفين، ح 1.

ص: 416

يجهّزونه، قلت: فإن لم يكن له ولد و لا أحد يقوم بأمره، فأجهزه أنا من الزكاة؟ قال- عليه السّلام-: كان أبي يقول: إنّ حرمة بدن المؤمن ميّتا كحرمته حيّا، فوار بدنه و عورته، و جهّزه، و كفّنه، و حنّطه، و احتسب بذلك من الزكاة، و شيّع جنازته، قلت: فإن اتجر عليه بعض إخوانه بكفن آخر و كان عليه دين، أ يكفن بواحد و يقضى دينه بالآخر؟ قال: لا ليس هذا ميراثا تركه، إنّما هو شي ء صار إليه بعد وفاته، فليكفّنوه بالذي اتجر عليه، و يكون الآخر لهم يصلحون به شأنهم». (1)

فانّ احتساب بذلك الكفن من باب الزكاة و إن كان لا ينافي وجوبه، كما في احتساب بذل المال الموقوف عليه حفظ النفس المحترمة من باب الزكاة، و لكن مقتضى تشبيهه ببذل الكسوة في حال الحياة، مع معلومية انّه لو كان في البين مصرف آخر للزكاة، لا يجب صرفها في إعطاء الكسوة المذكورة، عدم وجوب الصرف في بذل الكفن أيضا.

ثمّ إنّ الكلام في سائر مؤن التجهيز، من السدر، و الكافور، و ماء الغسل، لو احتاج إلى بذل المال و أجرة المدفن، و أجرة الحمّال، و الغسّال، و الحفّار حتى ما يأخذه الظالم عوضا عن الدفن في الأرض المباحة، هو الكلام في الكفن من حيث الثبوت في التركة لو كانت، و عدم الثبوت على أحد لو لم تكن.

و العجب من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حيث استشكل لو لا الإجماع في إخراج مقدّمات الأفعال، دون الأعيان المصروفة، كالماء، و الخليطين، و الكفن، و أجرة المدفن.

و أنت خبير بعدم الفرق، و يدل عليه بعد ظهور الإجماع، قوله- عليه السّلام-:


1- الوسائل: ج 2، ب 33، من أبواب التكفين، ص 759، ح 1.

ص: 417

«أوّل شي ء يبدأ به من المال الكفن». بدعوى ظهوره في إرادة مطلق ما يتوقف عليه التجهيز من دون خصوصية للكفن بواسطة المناسبة المقامية.

مسألة: لو سقط من الميت شي ء من شعر، أو ظفر، أو غيرهما وجب طرحه معه في الكفن

و يدل عليه مرسلة ابن أبي عمير: «لا يمس من الميت شعر و لا ظفر و إن سقط منه شي ء فاجعله في كفنه» (1).

و أمّا تغسيله سواء كان مستقلا أو بضمّه إلى الميت حين الغسل، فلا دليل عليه ما لم يندرج تحت الضابط المتقدّم في القطعة المبانة من الميت، خصوصا في الشعر الذي لا يجب إيصال الماء إليه في باب الغسل في حال اتصاله فيكف بحال انفصاله.

الرابع: من أحكام التجهيز: الدفن

اشارة

و فيه أيضا مسائل:

مسألة: الظاهر أنّه لم يثبت للدفن حقيقة شرعية و لا عرفية، بل هو باق على معناه اللغوي

و هو عبارة عن مطلق المواراة في الأرض، و لكن بقرينة المناسبة المقامية و العهد الخارجي في دفن الموتى، سواء كان من المسلمين أم من غيرهم، يعتبر فيه أن يكون جامعا لوصفين:

أحدهما: أن يكون بحيث يؤمن جسده من تعرّض السباع.

و الثاني: أن يكون بحيث يؤمن الإنس من التأذّي بريحه بواسطة الانتشار.

و يدل على اعتبار الثاني مضافا إلى ما ذكر، رواية الفضل بن شاذان عن


1- الوسائل: ب 11، من أبواب غسل الميت، ح 1.

ص: 418

الرضا- صلوات اللّٰه عليه- قال: «إنّما أمر بدفن الميّت لئلّا يظهر الناس على فساد جسده، و قبح منظره، و تغير رائحته، و لا يتأذّى الأحياء بريحه، و ما يدخل عليه من الآفة و الفساد، و ليكون مستورا عن الأولياء، و الأعداء فلا يشمت عدوّ و لا يحزن صديق». (1)

نعم لو فرض في موضع الأمن من كلتا الجهتين بواسطة عدم الانس و السباع هناك كفى مجرّد المواراة في الأرض، و لو مع الانتشار و عدم المبالغة في الحفر.

و مقتضى عموم التعليل و إن كان جواز الاكتفاء بالوضع في صندوق من حديد، أو من حجر، أو بالوضع في وسط الجدار، أو بالوضع على وجه الأرض مع البناء عليه، لكنّه خارج عن صدق مسمّى الدفن الذي عرفت أنّه المواراة في الأرض، الذي لا خلاف ظاهرا في لزوم تحقّقه. نعم لا إشكال في لزوم ما ذكر عند تعذّر الدفن لقاعدة الميسور.

هذا كلّه هو الكلام في البرّ.

و أمّا البحر لو اتفق الموت في السفينة، فالظاهر التخيير بين التثقيل بشدّ الحجر على رجله و الإلقاء في البحر، و بين الوضع في خابية و نحوها و اتكاء رأسها و الإلقاء في البحر، و التخيير المذكور و إن لم يرد في خبر و لكن ورد طائفتان من الأخبار في كل منهما تعيين أحد الشقين المذكورين، و مقتضى الجمع العرفي برفع اليد عن ظاهر كلّ بنص الآخر هو التخيير بين الأمرين، و قد يقال باختصاص هذا الحكم بصورة تعذّر الدفن في الأرض أو تعسّره، بدعوى ظهور الأخبار في أنّ التنويع إلى من مات في البر، أو البحر ليس من قبيل التنويع إلى المسافر و الحاضر،


1- الوسائل: ج 2، ب 1، من أبواب الدفن، ص 819، ح 1.

ص: 419

بل من قبيل التنويع إلى المختار و المضطر، و عهدتها على مدّعيها.

و في العروة تعدية هذا الحكم إلى من مات في البر، و لكن خيف على تقدير دفنه في الأرض من نبش العدو قبره و التمثيل به، و هو مبنيّ على فهم أنّه حكم مطلق المضطر لا خصوص راكب السفينة، أو على إجراء قاعدة الميسور، بناء على أنّه بعد تعذّر المواراة في الأرض، لا يرفع اليد عن مطلق المواراة و لو كان في الماء.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم- قدّس سرّه- بعد البناء على اختصاص الحكم بصورة الاضطرار، احتمل وجوب الصبر مع الأمن من الفساد، لو شك في حصول الاضطرار و عدمه، عملا بعموم ما دلّ على الدفن في الأرض، و لكنّك خبير بأنّه من العمل بالعموم في الشبهة المصداقية، فالمتعيّن هو الرجوع إلى استصحاب الحالة السابقة.

مسألة: يعتبر في الدفن أن يكون الميت مستقبلا للقبلة على جنبه الأيمن

و يدل على وجوب الاستقبال مضافا إلى سيرة المسلمين في دفن موتاهم بذلك على وجه الالتزام، صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: كان البراء بن المعرور الأنصاري بالمدينة، و كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بمكة، و انّه حضره الموت، و كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم و المسلمون يصلّون إلى بيت المقدس، فأوصى البراء أن يجعل وجهه إلى تلقاء النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم إلى القبلة أنّه أوصى بثلث ماله، فجرت به السنّة. (1)

و المتبادر من السنّة في هذا المقام هي الطريقة الثابتة.


1- الوسائل: ج 2، ب 61، من أبواب الدفن، ص 884، ح 1.

ص: 420

و يدل على وجوب إضجاعه على جنبه الأيمن، بعد السيرة المذكورة، خبر الدعائم عن علي- عليه السّلام- انّه شهد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم جنازة رجل من بني عبد المطلب، فلما أنزلوه في قبره، قال صلى اللّٰه عليه و آله و سلم: أضجعوه في لحده على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة و لا تكبّوه لوجهه و لا تلقوه لقفاه.

و يستثنى من هذا الحكم المرأة الغير المسلمة الحامل من المسلم، فإنّها تدفن في مقابر المسلمين مستدبرة القبلة، ليكون الولد في بطنها مستقبل القبلة.

أمّا وجوب الاستقبال بالولد في بطنها، فعلى طبق القاعدة إذا مات بعد ولوج الروج.

و أمّا جواز دفنها في مقابر المسلمين، بل وجوب ذلك و عدم جواز إخراج الولد بشق بطنها، فيدل عليه خبر يونس: «سألت الرضا- صلوات اللّٰه عليه- عن الرجل، تكون له الجارية اليهودية، أو النصرانية فيواقعها فتحمل، ثمّ يدعوها إلى أن تسلم، فتأبى عليه، فدنا ولادتها فماتت، و هي تطلق و الولد في بطنها، و مات الولد أ يدفن معها على النصرانية، أو يخرج منها و يدفن على فطرة الإسلام؟ فكتب- عليه السّلام- يدفن معها» (1).

مسألة: يكره نقل الميت من بلد مات فيه إلى بلد آخر، مع الأمن من طرو الفساد و إلّا فيحرم.

أمّا التحريم مع عدم الأمن فواضح، و أما الكراهة مع الأمن فقد حكي


1- الوسائل: ج 2، ب 39، من أبواب الدفن، ح 2.

ص: 421

عليها الإجماع، عن المعتبر، و التذكرة، و الذكرى، و جامع المقاصد و استدل عليها بالمروي عن دعائم الإسلام عن علي- عليه السّلام- انّه رفع إليه- عليه السّلام- انّ رجلا مات بالرستاق فحملوه إلى الكوفة فأنهكهم عقوبة و قال- عليه السّلام-: ادفنوا الأجساد في مصارعها، و لا تفعلوا فعل اليهود بنقل موتاهم إلى بيت المقدس، و قال- عليه السّلام-: «إنّه لمّا كان يوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاهم إلى دورها، فأمر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم مناديا ينادي، فنادى ادفنوا الأجساد في مصارعها»، و ظاهر الأمر و النهي في هذه الرواية و إن كان هو الوجوب و التحريم خصوصا مع تشديده- صلوات اللّٰه عليه- عقوبتهم، و بيان أنّه من فعل اليهود، و لكنّها لقصور السند قاصرة عن إثبات الحكم الإلزامي.

نعم لا بأس بإثبات الكراهة بواسطتها مسامحة، بناء على أنّ أخبار من بلغ، كما تشمل بلوغ الثواب على عمل، كذلك تشمل بلوغ العقاب عليه، فيثبت بالقسم الثاني كراهة الفعل كما يثبت بالأوّل استحبابه.

و قد يستدل بأخبار استحباب التعجيل في تجهيز الموتى.

و فيه أوّلا: أنّ استحباب التعجيل غير كراهة النقل المستلزم للتأخير. و ثانيا:

ننقل الكلام في النقل الغير المفوّت للتعجيل، كما لو كان بتوسط الآلات السريعة السير المستحدثة في زماننا.

و يستثنى من هذا الحكم، النقل إلى المشاهد المشرفة، فإنّه غير مكروه، بل مستحب.

و عن المعتبر انّه مذهب علمائنا خاصة، و عليه عمل الأصحاب من زمن الأئمة- عليهم السلام- إلى الآن، و هو مشهور بينهم لا يتناكرونه.

ص: 422

و يشهد له خبر علي بن سليمان: «كتبت أسأله عن الميت يموت بعرفات، يدفن بعرفات أو ينقل إلى الحرم، فأيّهما أفضل؟ فكتب: يحمل إلى الحرم و يدفن فهو أفضل» (1)، و يظهر منه مفروغية الجواز لطلب المكان الأفضل عند السائل، و إنّما وقع السؤال عن تشخيص مصداقه.

و كذا المروي عن إرشاد الديلمي و فرحة الغري للسيد عبد الكريم بن أحمد بن طاوس- رحمه اللّٰه- من حديث اليماني الّذي قدم بأبيه على ناقة إلى الغري، قال في الخبر على ما حكاه في الرياض: «انّه كان أمير المؤمنين- عليه السّلام- إذا أراد الخلوة بنفسه ذهب إلى طرف الغري، فبينما هو ذات يوم هناك مشرف على النجف، فإذا رجل قد أقبل من اليمن راكبا على ناقة قدّامه جنازة، فحين رأى عليا- عليه السّلام- قصده حتى وصل إليه و سلّم عليه فردّ عليه، و قال- عليه السّلام-: من أين؟ قال: من اليمن، قال- عليه السّلام-: و ما هذه الجنازة التي معك؟ قال: جنازة لأدفنه في هذه الأرض، فقال له علي- عليه السّلام-: ألّا دفنته في أرضكم، قال: أوصى بذلك، و قال إنّه يدفن هناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة و مضر، فقال- عليه السّلام-: أ تعرف ذلك؟ قال: لا، فقال له علي- عليه السّلام-: أنا و اللّٰه ذلك الرجل ثلاثا فادفن، فقام فدفنه» حيث يظهر منه تقريره- عليه السّلام- للنقل من البلاد النائية توسّلا بمن له أهلية الشفاعة، و لا ينافي ذلك قوله- عليه السّلام- ألّا دفنته في أرضكم، فإنّه ليس على وجه الاعتراض، بل سؤال عن السبب لكونه خارجا عن مجرى الطبيعة، كما لا يضر اختصاص مورده بصورة الوصية، إذ لو لم يكن نفس العمل جائزا لما كان الوصية مجوّزة له، كما في الوصية بإحراق جئته بعد الموت.


1- الوسائل: ب 44، من أبواب مقدمات الطّواف، ح 2.

ص: 423

ثمّ إنّه لو لم يؤد النقل إلى فساد الميت، من جهة تغير ريحه أو تلاشي أجزائه، فلا اشكال.

كما لا إشكال في عدم الجواز لو توقف على التقطيع بمباشرة المكلّف، فإنّه محرم ذاتا موجب للدية، و إن حكي عن بعض الأساطين القول بالجواز في هذه الصورة أيضا، لكن لا ريب في ضعفه.

كما لا اشكال لو منع من انتشار رائحته على فرض تغيّره، بالوضع في صندوق من حديد و نحوه، و من تلاشي أجزائه باستعمال بعض الأدوية.

إنّما الكلام في ما إذا أدّى إلى أحد الأمرين بدون التوسل إلى منعه بمانع، فالذي أفتى به في العروة و اختاره بعض الأعاظم- قدّس سرّهما- هو الجواز، و علّله بعض الأعاظم بأنّ ما يتوهّم كونه مانعا أحد أمور أربعة كلّها ممنوع.

أحدها: أنّه هتك. و الجواب انّه لا هتك فيه إذا كان بقصد جلب النفع و دفع الضرر.

و ثانيها: أنّه نقض لحكمة الدفن من عدم ظهور رائحته. و الجواب أنّه من باب الاقتضاء لا العلية التامة.

و ثالثها: أنّ الظاهر إجماعهم على عدم جواز التأخير إلى هذا الحدّ، لأجل التجهيزات الواجبة، كتحصيل ماء الغسل، أو السدر، و الكافور، و الكفن، فكيف يجوز لأجل هذا الأمر المستحب؟

و الجواب أوّلا: أنّ هذا الإجماع لعلّه من جهة تعبّدية، فيقتصر على مورده. و ثانيا: لا نسلّم الإجماع هناك على عدم الجواز، بل غايته الإجماع على عدم

ص: 424

الوجوب.

و رابعها: أنّ المستفاد من الأدلّة وجوب مستورية جثة الميت في أوّل أزمنة الإمكان. و الجواب: أنّه مناف مع اعتراف القائل المذكور بالجواز، مع عدم الأداء إلى أحد الأمرين المذكورين، هذا ما ذكره و لكن الإنصاف انّ الالتزام بالجواز في غاية الإشكال.

مسألة: لا إشكال في حرمة نبش قبر المؤمن.

و يدل عليه بعد ظهور عدم الخلاف، بل دعوى إجماع المسلمين كما عن المعتبر و غيره، انّه هتك للمؤمن بل عقوبة و تنكيل بالنسبة إليه، و هو بعد موته حرام كحال حياته، لأنّ حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيّا.

إنّما الكلام في مجوزاته و هي أمور:

منها: ما لو دفن في أرض مغصوبة.

و منها: ما لو دفن بكفن مغصوب.

و منها: ما لو دفن و معه مال الغير و لو مال نفسه الذي صار بعد الموت إلى وارثه، فإنّه يجوز في الصور الثلاث نبش القبر تفريغا لمال الغير، أو تخليصا له، و ليس فيه هتك إذا كان بهذا القصد، كما هو الحال لو اتفق مثله في الاحياء، و القول بالرجوع إلى القيمة إمّا في ثلث التركة، و إمّا في بيت المال، جمعا بين الحقين ضعيف، لعدم الحق للميت بعد قصور الدليل.

و منها: ما لو توقف الحكم بضمانه لأجل جنايته على الغير، أو إتلافه مال الغير، أو الحكم بقسمة تركته، أو اعتداد زوجته على شهادة الشهود بأنّه الشخص

ص: 425

الفلاني، و توقف ذلك على رؤيته و معاينته.

و بالجملة كلّما توقّف تخليص مال، أو استيفاء، حقّ على النبش، أمكن القول بجوازه، لأنّ دليل حرمته لبّي لا عموم له بالنسبة إلى هذا المورد.

و منها: ما لو دفن بلا غسل أصلا و لا تيمم بدله، أو بلا كفن أصلا و لو بما هو ميسوره عند التعذر، فإنّه يجوز النبش لأجل التغسيل، أو التكفين، لأنّ دليلهما لفظي، و دليل حرمة النبش كما عرفت لبي.

هذا و لو دفنه المالك في أرضه، أو دفن فيها بإذنه لم يجز له الرجوع عن الإذن بعد دفنه، و قياسه بما لو أذن في الصلاة، حيث إنّ الأقوى جواز الرجوع بعد الشروع في الصلاة، قياس مع الفارق، لأنّ حرمة القطع هناك مختصة بالمصلّي و لا يعم المالك، مع أنّ المتحقّق في حقّ المصلّي بعد الرجوع إنّما هو الانقطاع لا القطع، و أمّا حرمة النبش فغير مختصّة بالوارث بل يعم المالك أيضا، و دليل سلطنته لا يشرع له فعل الحرام، و من هنا، لو انتقلت الأرض إلى غيره بشراء، أو إرث، فليس لذلك الغير أيضا النبش.

هذا و لو ألقى المالك ماله في القبر عمدا جاز النبش لاستنقاذه، و ليس هذا إقداما منه على الضرر، إذا كان ملتفتا إلى حكم النبش، لأنّ معيار الإقدام الذي ينصرف عنه دليل نفي الضرر، إنّما هو ما يكون إقداما بحسب الطبع، لا ما يكون كذلك بحسب حكم الشرع، و لهذا لا نقول بوجوب الغسل في حقّ من أجنب نفسه عمدا في الهواء البارد، مع عدم إمكان تسخين الماء.

و منها: ما لو دفن بلا غسل، أو بلا كفن، عصيانا، أو نسيانا. و أمّا لو غسل ناقصا أو كفّن كذلك، لأجل الاضطرار على حسب التكليف الاضطراري، كما لو

ص: 426

غسل بلا سدر و كافور لفقدهما، أو كفّن بالحرير لفقد غيره، أو تيمم لفقد الماء، فالظاهر الاجتزاء به و إن طرأ الاختيار و التمكن بعد الدفن، و أمّا لو دفن بلا غسل و لا تيمّم لفقد الطهورين، أو بلا كفن لفقد الكفن، ثمّ ارتفع العذر بعد الدفن، فالظاهر جواز النبش، إذ لم يحصل هنا ما يقوم مقام الواقع، بل غاية ما ثبت سقوط الواقع ما دام الاضطرار، فتبقى حالة الاختيار تحت إطلاق دليل إيجاب الغسل و الكفن.

و منها: ما لو دفن في مكان غير مناسب بشأن الميت، يوجب توهينه و الطعن عليه، كالمزبلة، و قرب الكنيف، أو البالوعة، أو مقبرة الكفار و وجهه واضح.

و منها: ما لو أريد نقله بعد النبش إلى أحد المشاهد المشرفة، فإنّه يجوز النبش حينئذ لأجل الغاية المذكورة، و قد اختلفت كلمات العلماء- رضوان اللّٰه عليهم- في هذه المسألة، بعد الاتفاق ظاهرا على عدم الجواز للنقل إلى غير المشاهد. فذهب بعض إلى الجواز مطلقا، و آخر إلى عدمه كذلك، و ثالث إلى التفصيل بين صورة الوصية، و غيرها، بالجواز في الأولى، و العدم في غيرها.

و التحقيق أن يقال انّا قد فرغنا عن جواز النقل إلى المشاهد، بل استحبابه من حيث هو، مع قطع النظر عن حرمة النبش، كما لو اتفق بروز الجسد لموجب خارجي، كسيل، أو سبع، أو نحوهما فالمانع منحصر في حرمة النبش، و قد عرفت انّ دليلها لا يقتضيها إلّا في صورة الهتك، و الانصاف عدم حصوله، إذا كان بقصد إيصال هذا النفع العظيم، بل هو كمال تعظيم له، و اعتناء بشأنه، بل على تقدير وقوع النبش على الوجه المحرّم، لا دليل على حرمة النقل بعده.

نعم يجب المحافظة على عدم انتشار ريحه، و عدم تقطّع أعضائه و لو

ص: 427

بالتشبث بالاشنانة [بالاشنة] الموجبة لذلك، و أمّا احتمال كون النقل حيث وقع بعد النبش المحرّم، محرّما آخر من حيث هو، كما وقع في كلام بعض الأعاظم- قدّس سرّه- ففي غاية البعد. و مستند التفصيل بين صورة الوصية و عدمها، انّه لا هتك له مع إيصاء نفسه، فالوصية مغيرة لعنوان الموضوع، فلا يرد عليه انّه لو كان النبش محرّما في نفسه فلا تجوّزه الوصية، إذ هو نظير الوصية بالإحراق بعد الموت.

و لكن يرد عليه أنّ الحقّ كما عرفت عدم حصول الهتك في غير صورة الوصية أيضا، اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ صاحب الجواهر- قدّس سرّه- مع كثرة تبحّره، و مزيد تتبّعه، ادّعى إطلاق كلمات المجمعين على حرمة النبش، و النقل بعد الدفن بالنسبة إلى صورة حصول الهتك و عدمه، فوقوع اللفظ المذكور في معقد إجماعهم، بمنزلة وقوعه في النص المعتبر، فكما يؤخذ بإطلاقه في الثاني، فكذا في الأوّل، و لا ينافيه وقوع تعليل الحكم في بعض كلماتهم بقولهم لأنّه مثلة بالميت، و هتك له، فإنّه من باب النكات المذكورة بعد الوقوع، كما تداول نظيره في علم النحو، و على هذا فالأصل في المسألة هو المنع حتى يثبت الدليل على الرخصة و الجواز، و لا يفيد الوصية بذلك في جوازه لأنّه وصية بأمر غير مشروع، و ما يتوهم كونه دليلا على الرخصة أمور كلّها مخدوشة:

أحدها: ما تقدّم من وجود المصلحة العظيمة في النقل إلى المشاهد المشرّفة.

و فيه: أنّ النهي عن النبش معلّل بجهة تعبديّة لا نعلمها، و لعلّها أهم بنظر الشارع من المصلحة المذكورة بمراتب.

و الثاني: الرواية المرسلة التي أرسلت على لسان الشيخ، و المفيد، من أنّه وردت رواية بالرخصة في النقل إلى مشاهد آل الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم سمعت مذاكرة. و فيه

ص: 428

أنّها بواسطة الإرسال، و عدم عمل الناقل لها بها، و مخالفتها للمشهور، غير صالحة للاستناد.

و الثالث: ما ورد في بعض الأخبار من نقل نوح- عليه السّلام- عظام آدم- عليه السّلام- بعد استخراجها في تابوت إلى أرض الغري، و نقل موسى عظام يوسف في صندوق مرمر، و استخراجه من شاطئ النيل إلى أرض الشام. (1)

و فيه مضافا إلى ضعف السند، كون ذلك خارجا عن محلّ الكلام من جهتين:

الأولى: أنّ ما ذكر ليس بنبش، إذ ليس مجرّد رفع بعض تراب القبر، مع مستورية الجسد ببعض آخر، أو بصندوق و نحوه نبشا.

و الثانية: أنّ مورد الخبر الأوّل هو الاستخراج من الماء، و لعلّه لم يكن بعد التابوت ساتر غير الماء، و محلّ الكلام هو المستورية بالتراب.

و بالجملة فلو حصل الوثوق بالإجماع المذكور، و لم يضر رؤية الخلاف في مسألة النقل إلى المشاهد، بناء على ما هو التحقيق من كون حجيته من باب الحدس لا اللطف فهو، و إلّا فالأصل في المسألة هو الجواز حتى يثبت الدليل على المنع كما هو واضح.

مسألة: لا يجوز شقّ الثوب على غير الأب و الأخ و يجوز فيهما، أمّا عدم الجواز في غيرهما، فيدل عليه أخبار كثيرة، في بعضها التوعيد بالنار، و بعضها مشتمل على اللعن، و في بعضها إثبات كفارة اليمين في شق الوالد على ولده، أو


1- الوسائل: ج 2، ب 13، من أبواب الدفن، ص 835، ح 2 و 7.

ص: 429

الزوج على امرأته، و أمّا الجواز فيهما فيدل عليه فعل مولانا العسكري في مصيبة مولانا الهادي- صلوات اللّٰه عليهما-، و فعل موسى في مصيبة أخيه هارون- على نبيّنا و آله عليهما السلام،- كما ورد ذلك كلّه في أخبار معتبرة.

مسألة: لا يجوز شق الثوب على غير الأب و الأخ، و يدل على الحكم في جانب المستثنى منه، مضافا إلى دعوى الإجماع عليه في خصوص الرجل عن مجمع البرهان، و كذا عن ظاهر غيره، و عدم العثور على المخالف في خصوصه، سوى ابن سعيد في كفارات الجامع عدّة روايات.

منها: ما عن الدعائم، عن جعفر بن محمّد- عليهما السلام- أنّه أوصى عند ما احتضر، فقال: لا يلطمنّ عليّ خدّ و لا يشقنّ عليّ جيب، فما من امرأة تشق جيبها إلّا صدع لها في جهنم صدع، كلّما زادت زيدت (1).

و عن مسكن الفؤاد عن ابن مسعود، قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: ليس منّا من ضرب الخدود، و شق الجيوب. (2)

و عن أبي أمامة أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم لعن الخامشة وجهها، و الشاقّة جيبها، و الداعية بالويل و الثبور (3).

و عن كتاب المحاسن عن الصادق- عليه السّلام- في قول اللّٰه عزّ و جلّ:

وَ لٰا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ المعروف أن لا يشققن جيبا، و لا يلطمنّ وجها، و لا يدعون بالويل (4).


1- مستدرك الوسائل: ب 72، من أبواب الدفن، ح 2.
2- المصدر نفسه: ب 71، من أبواب الدفن، ح 12.
3- المصدر نفسه: ب 71، من أبواب الدفن، ح 13.
4- المصدر نفسه: ح 6.

ص: 430

و روي عن النبي و الأئمّة- عليهم السلام- في وصاياهم النهي عن شقّ الجيوب و خمش الوجوه، و ضعف سندها مجبور بالعمل.

نعم ينافيها خبر خالد بن سدير سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن رجل شق ثوبه على أبيه، أو على أمّه، أو على أخيه، أو على قريب له؟ فقال: «لا بأس بشق الجيوب، قد شق موسى بن عمران على أخيه هارون، و لا يشق الوالد على ولده، و لا زوج على امرأته، و تشق المرأة على زوجها، و إذا شق الرجل على امرأته أو والد، على ولده فكفارته حنث يمين، و لا صلاة لهما حتى يكفّرا أو يتوبا عن ذلك، و إذا خدشت المرأة وجهها، أو جزّت شعرها، أو نتفته ففي جزّ الشعر عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا. و في الخدش إذا أدمت و في النتف كفارة حنث يمين، و لا شي ء في اللطم على الخدود سوى الاستغفار و التوبة، و لقد شققن الجيوب و لطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي- عليهم السلام- و على مثله تشق الجيوب، و تلطم الخدود» (1)، حيث إنّها ناصّة بالجواز في الأم و في مطلق القريب، و في الزوجة على زوجها مضافا إلى ما في ذيلها، من حكاية فعل الفاطميات على سبيل الارتضاء المعلوم عدم انحصارهن في ذوات الأب و الأخ.

و من أجل هذه الرواية أشكل الأمر على بعض الأعاظم- قدّس سرّه- في إطلاق الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد المستثنى منه، نظرا إلى أنّ الفقرة الأخيرة منها المشتملة على حكم الكفارة، مقبولة، معمول بها بين الأصحاب- رضوان اللّٰه عليهم- لانحصار مدركهم في تلك المسألة بهذه الرواية، كما يعلم بمراجعة باب الكفارة، فلو لم يعمل بها في سائر الفقرات يلزم التفكيك في الأخذ، مع كون الرواية واحدة،


1- الوسائل: ب 31، من أبواب الكفّارات، ح 1.

ص: 431

و السند واحدا، و هو غير جائز بناء على مذهب الطريقية كما هو الحق.

و فيه: أنّه إنّما يتم لو أريد التفكيك بين فقرأتها من حيث السند، و أمّا لو أريد التفكيك من حيث جهة السند فلا محذور فيه، إذ لا استبعاد عادة في ابتلاء بعض الفقرات بما يمنع عن إظهار الواقع، كحضور من يتّقى منه حين التكلّم بتلك الفقرة، مع سلامة البقية عن ذلك، لخروجه عن المجلس عند التكلّم بالبقية.

و أمّا ما في ذيلها من حكاية فعل الفاطميات- عليهم السلام- فلعلّه من مختصات مولانا الحسين- صلوات الهّٰي عليه-، كما ربّما يستشعر من قوله- عليه السّلام-: على مثله تشق الجيوب.

و يدل على الحكم في جانب المستثنى، فعل مولانا العسكري- صلوات اللّٰه عليه- عند مصيبة أبيه الهادي- صلوات اللّٰه عليه-، و فعل موسى بن عمران عند مصيبة أخيه هارون- على نبيّنا و آله و عليهما السلام-، كما ورد بهما روايات مستفيضة، و احتمال اختصاص ذلك بالنبيّ و الوصي، مدفوع بقاعدة الاشتراك في التكليف.

مسألة: لا إشكال في أنّ الشهيد، أعني: المقتول في معركة القتال، مع زهوق روحه في المعركة و إن أدركه المسلمون قبل الزهوق، كما مرّ تفصيله في مبحث الغسل، يدفن مع ثيابه، و مرمّلا بدمائه. و الأخبار بذلك مستفيضة.

و إنّما الكلام في ما ذكره بعضهم: من التأمّل في كون السراويل مندرجا تحت اسم الثوب، و هو من الغرابة بمكان، إذ السراويل جمع سروال و هو معرب شلوار، و لا شبهة في اندراجه تحت الثوب، كالقميص المسمّى بالسرابيل و إن كان نظره إلى رواية زيد عن آبائه، قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: «ينزع من الشهيد الفرو، و الخف،

ص: 432

و القلنسوة، و العمامة، و المنطقة، و السراويل، إلّا أن يكون أصابه دم، فإن أصابه دم ترك، و لا يترك عليه شي ء معقود إلّا حلّ» (1)، فهو ضعيف السند، و غير مجبور بالعمل، كما أنّ العمامة و القلنسوة و المنطقة إذا لم يكن من الجلد، و لا ملبّدا، تكون داخلة تحت الثوب، و لا ينافي ذلك عدم دخول العمامة في الكسوة في بابي الكفّارة و النفقة الواجبة، لإمكان أن يكون حاله كالبئر حيث يعدّ عند وجودها من أجزاء الدار، مع أنّ عدمها لا يضر بصدق الدار على الفاقد لها.

نعم كلّ ما يكون من الجلود: كالخف، و الفرو، يكون خارجا كما مرّ في باب أوصاف الكفن، فينزع ذلك من الشهيد سواء أصابه دم أم لا، فلو لم يكن عليه إلّا فرو، فإن وجد ثوب من غير جلد ينزع عنه الفرو، و يكفّن بالثوب كسائر الموتى، و إلّا فيدفن في الفرو من باب كونه ميسور الكفن.

مسألة: لو مات الولد في بطن الأم مع حياة الأم، فإن أمكن إخراجه صحيحا مع الأمن من تضرّر الأم فهو المتعيّن، و إلّا يتوصل إلى إخراجه بالأرفق فالأرفق و إن كان بتقطيعه قطعة قطعة و إخراجه، و المتولّي لذلك أوّلا هو النساء، ثمّ الرجال المحارم، ثمّ الأجانب.

و يدل عليه مضافا إلى كونه طبق القاعدة، رواية وهب بن وهب عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوّف عليها؟ قال: لا بأس بأن يدخل الرجل يده فيقطّعه و يخرجه» (2)، و زاد في رواية الكافي قوله- عليه السّلام- إذا لم ترفق به النساء، و إطلاق الرواية الأولى محمول على


1- الوسائل: ب 14، من أبواب غسل الميت، ح 10.
2- المصدر نفسه: ب 46، من أبواب الاحتضار، ح 3.

ص: 433

الترتيب الذي ذكرنا لقاعدة أنّ الضرورات تتقدر بقدرها مضافا إلى استفادته من الزيادة في الرواية الثانية.

و لو كان الأمر بالعكس بأن ماتت المرأة و الولد في بطنها حيّ، فإن أمكن إخراجه بلا خوف عليه من دون شق، وجب، و إلّا يشق بطنها من الجانب الأيسر و يخرج الولد، ثمّ يخاط موضع الشق.

و يدل على أصل الحكم خبر علي بن يقطين، سألت العبد الصالح عن المرأة تموت، و ولدها في بطنها؟ قال: يشق بطنها و يخرج ولدها (1). و نحوها روايات أخر. و على خصوصية كون الشق من الجانب الأيسر الفقه الرضوي (2) و على خيط الموضع مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- (3).


1- الوسائل: ج 2، ب 46، من أبواب الاحتضار، ح 2.
2- مستدرك الوسائل: ب 35، من أبواب الاحتضار، ح 1.
3- الوسائل: ج 2، ب 46، من أبواب الاحتضار، ح 1.

ص: 434

المبحث الخامس: في الطهارة الترابية

[التيمم في القرآن الكريم]

أي التيمم الذي قضت ضرورة الدين بثبوته في الجملة عند الضرورة قال اللّٰه تعالى في سورة النساء يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا غَفُوراً (1) و في سورة المائدة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2).


1- النساء/ 43.
2- المائدة/ 6.

ص: 435

و ينبغي التكلّم في بعض ما يتعلّق بألفاظ الآيتين الشريفتين تيمّنا و هو أمور:

الأوّل: الغائط عبارة عن المكان المنخفض في الأرض، و هو المراد هنا، و إنّما سميت العذرة بهذا الاسم من باب تسمية الحال باسم المحل، حيث إنّ الإنسان عند إرادة التخلية في البراري يطلب المكان المنخفض.

الثاني: قوله تعالى مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون المراد أنّ المشقة الحاصلة في استعمال الماء في الوضوء و الغسل، و في استعمال التراب في التيمّم، حيث إنّه موجب لاغبرار الوجه و اليدين الموجب للتذلّل و الخشوع، و هو ممّا يتأنّف منه أكثر النفوس ليست مقصودة بالذات للباري تعالى، و إنّما المقصود الأصلي هو التطهير و إتمام النعمة، و الفعل الشاق الحرجي يسهل على الإنسان إذا كان له غاية عظيمة مهمة، و هذا المعنى هو الأنسب بسياق الجملة المذكورة، مع قوله تعالى وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.

و الثاني: أن يكون بيانا لحكمة تشريع التيمّم، و يستفاد منه على هذا التقدير مشروعية التيمّم في مطلق موارد الحرج، فضلا عن موارد الضرورة البالغة حدّ التعذّر، بل على التقدير الأوّل أيضا يستفاد هذا المعنى، من سوق الآية في مقام الامتنان، فيستفاد أنّ ذكر المرض و السفر ليس لأجل موضوعيّتهما، بل لأجل كونهما مظنّة للتعذّر أو التعسّر غالبا فيدور الحكم مدار هذين الأمرين.

الثالث: يستفاد من تعلّق الأمر بالوضوء و الغسل على وجه الإطلاق، و بالتيمّم على نحو التعليق بعدم الوجدان، إطلاق مطلوبية الوضوء و الغسل بحسب المادة من غير مدخلية للقدرة و العجز في ذلك، نظير قولك: إذا نزل في منزلك الضيف الفلاني، فهيّئ له الطعام المقرون بالتشريف الفلاني، فإن لم يتيسّر

ص: 436

لك أسبابه فهيّئ له ما تيسّر، فليس المقام من باب التنويع، كتنويع المكلّف إلى المسافر و الحاضر في القصر و الإتمام، و يتفرّع على هذا وجوب تحصيل الماء بقدر الإمكان، و عدم جواز تحصيل الاضطرار اختيارا بإراقة الماء و نحوه، و عدم جواز البدار في أوّل الوقت مع رجاء الزوال في آخره.

الرابع: قد يقال إنّ معنى قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا* لم تعثروا عليه بعد الفحص و التفتيش، فالفحص مأخوذ في مفهوم هذا اللفظ، و لكن الظاهر أنّ المراد بالوجدان هو الواجدية في مقابل الفاقدية، و هو أمر واقعي و الفحص طريق إثباته لا مأخوذ في مفهومه ثبوتا، و يشهد له التعبير عنه بالجدة في بعض الأخبار فراجع.

إذا عرفت ذلك فالتكلّم في هذا المقصد يتم في طي مباحث أربع:

المبحث الأوّل: في الأمور التي يشرع عندها التيمّم و فيها أسباب

اشارة

و يجمعها العجز عن استعمال الماء، عقلا، أو شرعا، أو عرفا، و لمّا كان لبعض أفراده أحكام خاصّة لا بدّ من ذكرها على التفصيل.

[السبب الأول عدم وجود الماء]

اشارة

فمنها: عدم الماء و لا إشكال في مشروعية التيمّم عنده، كتابا، و سنّة، و إجماعا من غير فرق بين الحضر و السفر.

و إنّما الكلام في أحكامه و هو موقوف على رسم مسائل:

مسألة: يجب الفحص عند عدم الماء و لا يجوز التيمّم قبله:

و يدلّ عليه مضافا إلى الإجماعات المستفيضة، و خبر السكوني الآتي، القاعدة العقلية التي أشير إليها، فإنّ العقل بعد إحراز المطلوبية المطلقة لا يجوز إجراء أصالة البراءة بمحض الشك في القدرة، بل يوجب على المكلّف إعمال الوسع،

ص: 437

و بذل الجهد حتى يحصل اليأس.

نعم لو كان هناك أصل موضوعي، كاستصحاب عدم القدرة، لو كان له حالة سابقة، فحاله حال استصحاب المرض في جريانه، و وروده على الأصل العقلي كما سيأتي التكلّم فيه، لكن بدونه لا محيص عن الاشتغال و لا مجرى للبراءة.

ثمّ إنّ مقتضى القاعدة العقلية في مقدار الفحص، أن يكون إلى حدّ تحصيل اليأس، أو خوف فوت الوقت، أو سائر الأعذار الرافعة للتكليف، هذا بحسب القاعدة.

و أمّا بحسب الأخبار فالأولى بالتيمّن بنقلها أوّلا، ثمّ التكلّم في ما يستفاد منها، فنقول و على اللّٰه التوكل: إنّها بين ثلاث طوائف:

الأولى: ما يتراءى منه عدم وجوب الفحص و الطلب، و هو رواية داود الرقي قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: أكون في السفر فتحضر الصلاة و ليس معي ماء- و يقال: إنّ الماء قريب منّا- فأطلب الماء و أنا في وقت يمينا و شمالا؟ قال- عليه السّلام-:

«لا تطلب و لكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك التخلّف عن أصحابك فتضل و يأكلك السبع». (1)

و رواية علي بن سالم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قلت له: أتيمّم- إلى أن قال:

- فقال له داود الرقي: فأطلب الماء يمينا و شمالا، فقال- عليه السّلام-: «لا تطلب يمينا و لا شمالا و لا في بئر إن وجدته على الطريق فتوضّأ منه و إن لم تجده فامض» (2).

و الثانية: ما يدل على وجوب الفحص و تحديده بالغلوة و الغلوتين، على


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التيمم، ص 964، ح 1.
2- المصدر نفسه: ص 964، ح 3.

ص: 438

حسب اختلاف الأراضي في الحزونة و السهولة، و هو خبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي- عليهم السلام- قال- عليه السّلام-: «يطلب الماء في السفر إن كانت الحزونة فغلوة، و إن كانت سهولة فغلوتين لا يطلب أكثر من ذلك». (1)

و الثالثة: ما دلّ بظاهره على الوجوب و تحديده بتمام الوقت ما لم يتضيّق و هو حسنة زرارة عن أحدهما- عليهما السلام- قال- عليه السّلام-: «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم و ليصل في آخر الوقت فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه و ليتوضّأ لما يستقبل». (2)

إذا عرفت ذلك فنقول: حكي عن المقدس الأردبيلي- قدّس سرّه- القول باستحباب الطلب، و لعلّه لصرف الطائفتين الأخيرتين عن ظاهرهما من الوجوب، بقرينة الطائفة الأولى، و ما أبعد ما بينه و بين ما حكي عن تلميذه صاحب المدارك، تبعا للمحقّق في المعتبر من إيجاب الفحص في تمام الوقت، إلى أن يتضيّق و يخاف الفوت، و لعلّه استضعافا للطائفتين الأوليين من حيث السند، و أخذا بالأخيرة لقوّته، و قد ذهب- قدّس سرّه- إلى جانب الإفراط كما ذهب الأوّل إلى التفريط.

و الحق أن يقال: أمّا الطائفة الأولى، فبين ما قيّد فيه عدم الوجوب بكون الفحص خطريا، و مظنّة لتغرير النفس، و بين ما هو مطلق، و لكنّه ضعيف السند غير معمول به بين الأصحاب.

و أمّا الطائفة الثانية، و هو خبر السكوني، فسنده و إن كان ضعيفا لكنّه


1- الوسائل: ج 2، ب 1، من أبواب التيمم، ص 966، ح 2.
2- المصدر نفسه: ب 14، من أبواب التيمم، ح 3.

ص: 439

معمول به بينهم حتى عبّروا في فتاويهم بلفظة و عبارته، فإنّ التحديد المذكور هو المشهور بينهم، و عن الغنية و إرشاد الجعفرية الإجماع عليه، و عن التذكرة نسبته إلى علمائنا، هذا بحسب السند. و أمّا بحسب المفاد فظاهره لزوم الفحص في مسافة دائرة يفرض مركزها مكان المصلّي، و يكون بين ذلك المركز و بين محيط الدائرة من جميع الجهات مقدار الغلوة، أو الغلوتين، فمفاد الرواية لزوم الفحص في جميع أجزاء هذه الدائرة إلى أن يحصل اليأس عن الظفر، و الوثوق بالعدم.

فإن قلت: بل يكفي الفحص بهذا المقدار و لو من جانب واحد، لصدق الطبيعة بإتيان واحد من أفرادها.

قلت: بل مفادها عرفا، لزوم العجز عن تحصيل الماء في هذا المقدار من المسافة، و لا يصدق العجز عن الطبيعة إلّا بعد العجز عن جميع أفرادها، و نظير ما ذكر في الضعف احتمال كفاية هذا المقدار، و لو بتوزيعه على الجهات الأربع، أو الجهتين، منها، أو الثلاث، فإنّه خلاف المتبادر عرفا.

نعم حيث إنّ لزوم الفحص ليس لأجل الموضوعيّة، بل مقدمة للتوصّل إلى تحصيل الماء، فيكون مقصورا على صورة احتمال العثور، فلو قطع بعدم الماء في المسافة المذكورة كلا، أو بعضها، سقط وجوب الفحص أيضا كذلك.

و أمّا الخبر الثالث فإن أمكن جمعه مع الخبر المذكور، بالحمل على استحباب الزائد على المقدار المذكور، أو بحمله على أنّه بصدد بيان وقت الطلب، و تعيين كونه في السعة، لا في الضيق، لا بصدد بيان المقدار فهو، و إلّا فاللازم طرحه لعدم مقاومته مع الخبر الأوّل، لكونه معرضا عنه بين الأصحاب، مضافا إلى اضطرار متنه لإثبات لفظة «فليمسك» مكان «فليطلب» في بعض النسخ، فيكون مربوطا

ص: 440

بمسألة عدم جواز البدار لذوي الأعذار، و أجنبيا عمّا نحن فيه.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث حاول الجمع بينهما بالحمل على تخيير المكلّف، بين أن يختار الصلاة في مكان معيّن من خط سيره في سفره، مع سعة الوقت فيجب عليه السعي في تحصيل الماء من الجوانب الأربع بالمقدار المذكور، و بين أن يختار السعي في تحصيله في جميع الوقت إلى أن يتضيّق و يخاف الفوت.

و أنت خبير بأنّه تخيير بين الأقل و الأكثر، و هو- قدّس سرّه- ممّن يعترف بعدم معقوليته، إذ مرجعه إلى الوجوب التخييري بين هذا المقدار، و بين الزائد عنه، و لا يعقل بعد تعلّق الوجوب بالمقدار المذكور، تعلّقه بالزائد. نعم يصح اتصافه بالحسن و الاستحباب.

ثمّ إنّه هل يعتبر مباشرة المكلّف بنفسه للفحص، أم يكفي مباشرة غيره مطلقا، أو فيما إذا كان نائبا عنه، و لو لم يحصل الوثوق من إخباره الذي قوّاه بعض الأعاظم- قدّس سرّه- عدم الكفاية مطلقا ما لم يحصل الوثوق.

و فيه: أنّه خلاف مقتضى تنزيل فعل النائب منزلة فعل المنوب و كونه أمينا، و جريان أصالة الصحة في عمله بعد إحراز أصله.

و منه يظهر جواز الاعتماد على البيّنة.

بل مقتضاه جواز الاتكال على الفحص الصادر منه قبل الوقت، أو في الوقت، لأجل الصلاة السابقة، فيكتفى به في الأوّل في الوقت، و في الثاني للصلاة اللاحقة استصحابا للحالة السابقة، سواء كان الشك من جهة احتمال وجود الماء

ص: 441

حال فحصة السابق و قد اختفى عن نظره، أو من جهة احتمال التجدّد، و سواء كان الاحتمال الثاني مقرونا بالأمارة الظنيّة الغير المعتبرة أم لا.

و العجب من المحقّق السيد الأصفهاني- قدّس سرّه- في حاشية العروة حيث فرّق بين هذه الأقسام، فأوجب تجديد الفحص في صورة احتمال التجدّد مع الأمارة الظنية، و لم يوجبه فيما عداها، و هو خلاف ما قرّر في محلّه من حجية الاستصحاب، حتى مع الظن الغير المعتبر على خلافه.

ثمّ إنّه لو علم بوجود الماء في خارج الحد، فلا إشكال في وجوب السعي إليه مع الأمن، لوضوح أنّ التحديد المذكور إنّما في مورد الشك في الوجود و العدم، لا مع العلم بأحدهما إمّا في داخل الحد، أو خارجه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الغلوة المتعارفة لا تزيد عن مقدار مائتي خطوة متعارفة تقريبا، كما ربما يشهد له ما روي في باب المواقيت من أنّ أصحاب النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم كانوا إذا صلّوا معه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم صلاة المغرب و خرجوا للرجوع إلى منازلهم يرون مواضع نبلهم، إذ من المستبعد جدا رؤية ما زاد عن المقدار المذكور، عند مضي نصف ساعة من المغرب في الليلة الغير المقمرة.

و العجب من تشكيك بعض الأعاظم- قدّس سرّه- في حصول الحدّ بعد أربعمائة ذراع أيضا.

ثمّ إنّ مقتضى طريقية الفحص، و عدم موضوعيته أنّه لو خالف و صلّى بتيمّم قبل الفحص و تمشّى منه قصد القربة، و صادف عدم الماء صحّت صلاته، و لكن مع ذلك أفتى بالفساد، المحقّق الميرزا النائيني- قدّس سرّه- في حاشية العروة و لم يعلم وجهه.

ص: 442

مسألة: لو خالف و ترك الفحص في السعة و أخّر الصلاة

حتى ضاق الوقت فصلّى في الضيق مع التيمّم أخطأ، سواء صادف وجود الماء في محل الطلب، أم عدمه، غاية الأمر بالعصيان في الأوّل، و التجرّي في الثاني، و صحّ صلاته في الصورتين، أمّا الخطأ فمن المسلّمات التي لم يخالف فيها أحد، سوى المحقّق في المعتبر، و بعض من عاصرناه من الأعاظم- قدّس أسرارهم.

و أمّا الصحّة فهي المشهور كما عن المدارك، و عن الروض، أنّ عليه فتوى الأصحاب- قدّس سرّهم- خلافا لغير واحد، فحكموا بوجوب القضاء لو صادف وجوب الماء في محلّ الطلب، و عن الحدائق أنّه المشهور، و عن الرياض نسبته إلى أكثر الأصحاب.

و الحقّ أن يقال: مقتضى إطلاق المادة في الغسل و الوضوء، عدم جواز تحصيل الاضطرار اختيارا، كما مرّت الإشارة إليه سابقا، و مقتضى شرعية التيمّم في حال الاضطرار، كون الصلاة المذكورة مطابقة لما هو الوظيفة الفعلية، و لا يعني بالصحة إلّا ذلك.

فإن قلت: نمنع مطابقتها، و ذلك لمنع الإطلاق في الأدلّة المعلّقة للتيمم على الاضطرار، بالنسبة إلى ما إذا كان حاصلا بالاختيار.

قلت: منع الإطلاق ممنوع أشد المنع، ألا ترى أنّ من جعل نفسه عاجزا عن الصلاة قائما وجوب عليه الصلاة قاعدا، لإطلاق ما دلّ على مشروعيتها في حقّ العاجز عن القيام.

فإن قلت: نعم و لكن مقتضى إطلاق المادة، وجود مقدار لازم الاستيفاء من المصلحة في خصوص الغسل و الوضوء، و قد فات هذا المقدار من المكلّف،

ص: 443

فالواجب القضاء خارج الوقت تداركا لهذا المقدار الفائت.

قلت: هذا الاشكال منقوض بما إذا حصل الاضطرار بسبب غير اختياري.

و حلّه أنّ جعل الشارع التيمّم بدلا في حال الاضطرار، [يقتضي] كون المبدل ساقطا و عدم وجوب الإعادة، أو القضاء، و إلّا كان خلفا في بدليته، و اللازم من ذلك أحد أمرين، إمّا كون التيمّم وافيا بتمام مصلحة الواقع الأولى، أو بالمقدار اللازم منها، و إنّما كونه مسقطا للمحل عن قابلية استيفاء الباقي، مع كونه بحد اللزوم و أهمية رعاية مصلحة الوقت، و الأوّل مناف لإطلاق المادة، فيتعيّن الثاني.

فإن قلت: ينافيه أيضا جواز الإتيان مع هذا التيمم بسائر الغايات الموسعة، كالصلاة القضائية، و صلاة الآيات، مع رجاء الزوال، بل و جواز اقتداء من وظيفته الغسل و الوضوء بالمتيمّم، و جواز إتيان الأجير بالصلاة المستأجر عليها في هذا الحال.

قلت: هذا من صغريات مسألة جواز البدار لأولي الأعذار، و مقتضى القاعدة فيه، و إن كان عدم الجواز كما ذكرت، لكن لو قام الدليل عليه كان كاشفا عن قيام مصلحة في نفس الحكم، يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع.

و لبعض الأعاظم- قدّس سرّه- في هذا المقام كلام لا بأس بنقله و التعرّض لما فيه.

قال ما ملخّصه،: إنّ تفويت التكليف تارة يكون بتبديل عنوان موضوعه، كتبديل عنوان المسافر بالحاضر، أو بالعكس، و هذا لا إشكال في جوازه، إذ ليس في الحقيقة تفويتا و إنّما يطلق عليه هذا اللفظ مسامحة.

ص: 444

و أخرى يكون بسلب القدرة و الاختيار، و تبديلهما بالعجز و الاضطرار حتى ترتفع فعلية الخطاب، مع بقاء المقتضي له، و هذا أيضا تارة يكون بعد تنجز التكليف، كإراقة الماء المنحصر للغسل أو الوضوء بعد حضور الوقت.

و أخرى يكون قبل تنجّزه كالإراقة المذكورة قبل الوقت، و لا إشكال في عدم جواز القسم الأوّل و قبحه، كما لا شبهة في استحقاق العقوبة لو ترتّب عليه فوت الواقع.

نعم لو لم يترتب عليه الفوت، كما لو أصاب الماء اتّفاقا بعد إراقته مع الانحصار، فاستحقاقه مبني على القول باستحقاق المتجرّي.

ثمّ استشكل في كون حكم الشارع بتعيّن الغسل و الوضوء عند الاختيار، و ببدلية التيمّم عنهما عند الاضطرار من قبيل هذا القسم، و احتمل كونه من باب التنويع إلى المسافر و الحاضر، و منشأ الاشكال أنّا حيث رأينا جواز الإتيان بالغايات الموسعة، كالصلاة القضائية، و الآيات، في حال التيمم مع سعة أوقاتها و رجاء زوال العذر، كشف ذلك عن عدم حدوث اختلاف في مرتبة الصلاة كمالا، و نقصا، بحسب اختلاف وقوعها مع الطهارة المائية أو الترابية إمّا مطلقا، أو على وجه يبلغ حدّ اللزوم، ضرورة أنّه لو كان لها اختلاف بالغ هذا الحد، لما جاز الإتيان بالصلوات المذكورة و هو خلاف الضرورة.

و حينئذ فالقول بتحريم تحصيل الاضطرار بإراقة الماء و نحوه، ينحصر وجهه في القول بالوجوب النفسي لنفس الطهارة المائية، مع قطع النظر عن غاياتها، و حيث إنّه أيضا على وجه الإطلاق لا يمكن الالتزام به، فإن أمكن الالتزام به مشروطا بتقدير إرادة الغايات فهو، و إلّا فالمتعيّن المصير إلى إنكار التحريم

ص: 445

المذكور رأسا، كما ذهب إليه المحقّق- قدّس سرّه- في المعتبر، و ليس في وجوب الفحص أيضا دلالة على وجوب الحفظ، لإمكان وجوب تشخيص الحال عند الشك في كونه قادرا أو عاجزا، مع عدم وجوب حفظ القدرة بعد إحرازها.

و أمّا القسم الثاني أعني: تحصيل الاضطرار قبل الوقت مع إحراز عموم المقتضي للتكليف، فمع العلم بتحقّق شرائط الوجوب في المستقبل، و بانحصار المقدّمة في شي ء معين بحيث لو فوّته المكلّف لا يقدر على فرد آخر في الوقت، فلا إشكال في استقلال العقل في تحريمه، فيجب عليه حفظ الماء و عدم إراقته، و كذا حفظ الطهارة و عدم إبطالها لو علم بعدم العثور على الماء بعد حضور الوقت.

نعم شرط القدرة الذي يعتبره العقل في الوجوب لا يلزم إحرازه في المستقبل، بل يكفي احتماله في إيجاب الحفظ، كما أنّ احتمال الانحصار غير مؤثّر في إيجابه، فلو احتمل العثور على الماء في ما بعد لا يجب عليه حفظ الماء، و لا حفظ الطهارة لكونه شبهة موضوعية لعنوان التفويت المحرّم، مع أنّ مقدمية الحفظ المذكور للصلاة على طهارة على تقدير مصادفة الماء في ما بعد ممنوعة، و المسلم مقدميته للطهارة الخاصة و هي بخصوصيتها غير متوقّف عليها للصلاة.

هذا ما ذكره.

و فيه مواضع للنظر، أمّا ما ذكره: من الإشكال في إطلاق مطلوبية الغسل و الوضوء، بالنسبة إلى حال العجز نظرا إلى ترخيص الشارع في إتيان صلاتي القضاء، و الآيات، في حال التيمّم مع سعة الوقت و رجاء الزوال.

ففيه: أنّ حال هذا الترخيص بعينه حال ترخيص الشارع في العمل بالطرق،

ص: 446

فكما أنّ الثاني لا يزاحم المصالح الواقعية لكونه ناشئا عن المصلحة في نفس الحكم لا المتعلّق، فلم لا يجوز أن يكون الترخيص في مقامنا أيضا كذلك.

و أمّا ما ذكره في القسم الثاني: من عدم إيجاب حفظ الماء أو الطهارة، مع احتمال العثور على الماء في المستقبل.

ففيه: أنّ حال هذا الشك حال الشك في القدرة، و كلّ ما يجري في أحدهما من التقريب للبراءة أو الاحتياط جار في الآخر، فالفرق بينهما في غاية الغموض و الإشكال.

و أشدّ اشكالا من هذا نفيه- قدّس سرّه- المقدمية عن الحفظ المذكور، على تقدير مصادفة الماء في ما بعد، ضرورة أنّه على هذا التقدير من أحد أفراد المقدّمة، غاية الأمر أنّها غير منحصرة.

و أعجب من ذلك تسليمه المقدمية في مثال خروج الرفقة للحج لو أخّر المسير، لاحتمال خروج رفقة أخرى في سعة الوقت و إنكارها في ما نحن فيه.

مسألة: لو تفحّص في مسافة الغلوة أو الغلوتين و لم يعثر على الماء فتيمّم و صلّى، ثمّ انكشف وجود الماء في تلك المسافة

و قد زاغ عنه بصره، أو كان عالما بوجوده سابقا فنسيه فترك الفحص لأجله فتيمّم و صلّى، أو اعتقد عدم الماء بلا سابقة علم فتيمّم و صلّى، ثمّ تبيّن كونه جهلا مركبا، فالظاهر في الفروع الثلاثة بمقتضى القاعدة وجوب الإعادة في الوقت، و القضاء في خارجه، من غير فرق بينها، لا لأنّ المعتبر في صحّة التيمّم هو العجز المستوعب للوقت، نظرا إلى أنّ العجز عن طبيعة الصلاة بالطهارة المائية المحدودة بما بين الحدّين، أعني: مبدإ الوقت و منتهاه لا يتحقّق إلّا بالعجز عن جميع أفرادها، و القدرة عليها تتحقّق

ص: 447

بالقدرة على بعض الأفراد و لو مع العجز عن الباقي، فإنّ ذلك مدفوع بالأدلّة المصرّحة بكفاية العجز حال الفعل، و عدم لزوم استيعابه لتمام الوقت، بل لأنّ المتحقّق في الفروع المذكورة إنّما هو تخيّل العجز لا نفسه.

و ما يقال من أنّ الأفعال الاختيارية مترتبة على الصور العلمية لموضوعاتها، بنحو تمام الموضوع من غير مدخلية لوجوداتها الواقعية أصلا، فلا اختيار بالنسبة إلى الطهارة المائية مع العلم بعدم الماء، و لو مع وجوده واقعا، مدفوع بأنّ عدم الاختيار أعم من العجز، و بعبارة أخرى الغفلة و النسيان مغايران مع العجز، و لهذا يجعلان مانعين من تنجّز التكاليف، و يجعل هو مانعا عن فعليتها، فالذي هو المناط لصحّة التيمّم هو العجز الواقعي، و هو غير متحقّق في هذه الفروع، و الفحص و إن كان متحقّقا في الأوّل منها و لكن لا موضوعية فيه، و إنّما شأنه الطريقية الصرفة، هذا مقتضى القاعدة إلى أن يثبت التعبّد على الخلاف.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث حاول الفرق بين الفروع المذكورة في مقتضى القاعدة، بدعوى تحقّق العجز المنصرف إليه الأدلّة في الأوّل منها دون الأخيرين، و قد عرفت ضعفه.

مسألة: لو كان عنده الماء و لم يكن كافيا للغسل أو الوضوء

فلا إشكال في عدم جريان قاعدة الميسور، و عدم تبعّض الوضوء أو الغسل، و قد ورد في بعض الأخبار حيث فرض السائل كون الجنب واجدا للماء بقدر الوضوء، دون الغسل في مقام إيجاب التيمّم، و نفي توهم وجوب الوضوء، التعبير بقوله- عليهم السلام- ألا ترى أنّه قد جعل عليه نصف الوضوء، و في بعضها نصف الطهور، و الظاهر أنّ المراد ابتناء أمر التيمّم على المساهلة و عدم المداقة، و لهذا لم يوجب فيه استيعاب تمام

ص: 448

مواضع الوضوء، بل اقتصر على نصفها، و كيف كان فلا إشكال في ذلك.

و إنّما الكلام في أنّه لو كان عنده من المضاف بمقدار، لو خلطه مع الماء المذكور بحيث لا يسلبه وصف الإطلاق صار كافيا لطهوره، هل يجب عليه ذلك أو لا؟ و نظيره ما لو وجب عليه إعطاء منّ من الحنطة بنذر، أو صدقة، أو عقد معاوضة لغيره، و كان الموجود عنده ناقصا من المنّ بمقدار يسير، لو خلط معه هذا المقدار من التراب لا يسلبها وصف الإطلاق، هل يجب عليه ذلك أو لا؟ و الظاهر عدم مساعدة الوجدان في المثال الثاني على جواز ذلك، فضلا عن الوجوب، و إن كان لو فرض حصول الخلط المذكور لا من ناحيته كان مجزيا قطعا، و من هنا يسري الإشكال في وجوب ذلك في المثال الأوّل، نعم لا إشكال في كونه فيه أحوط.

السبب الثاني: عدم إمكان الوصول إلى الماء مع وجوده

اشارة

إمّا لكونه في مكان بعيد مع تعذّر أو تعسّر المسير إليه لكبر أو ضعف. أو لكونه في بئر أو مكان منخفض مع عدم آلة الاستقاء من دلو و نحوه، و صعوبة النزول إليه، أو كونه معرضا للمخاطرة.

أو مع سهولته و عدم خطريته و لكن كان البئر متعلّقا لحق مشترك، أو ملكا مشتركا مع عدم إحراز رضا سائر الشركاء، لكون الوقوع فيه موجبا لاشمئزاز النفوس عن شرب مائه، بواسطة اشتمال البدن على العرق و سائر الكثافات.

أو لكون الماء قليلا و محتاجا إلى الاغتراف مع كون يديه قذرتين، و عدم إمكان التوصّل إلى تطهيرهما، أو إحديهما و لو بوسيلة أخذ الماء بفمه، و عدم وجود آلة أخرى للاغتراف.

أو لمانعية الازدحام في يوم عرفة لمن كان بعرفات، بحيث يخشى لو خرج

ص: 449

و للوضوء فوات الصلاة في مجموع وقتها، و عدم إدراكها قبل الغروب، أو في يوم الجمعة بحيث يخشى فوات صلاة الجمعة و عدم إدراكها رأسا لو خرج للوضوء، إذا اتّفق ذلك في عصر الحضور، أو الغيبة أيضا، لكن قلنا بالوجوب العيني. و أمّا لو قلنا بالتخييري فمورد إشكال لإمكان الانتقال إلى البدل، و هو الظهر مع الطهارة المائية و إن كانت الجمعة أفضل الفردين، أو لاحتياج الماء أو آلة الاستقاء، إلى بذل المال بشراء، أو استيجار، و لم يملك الثمن، و الأجرة، ففي جميع هذه الموارد يقوم التيمّم مقام الوضوء.

و يدل عليه مضافا إلى الإجماع، الأخبار الدالّة على عموم بدلية التراب، و كونه أحد الطهورين في كل مورد سقط التكليف بالوضوء بسبب من الأسباب.

منها: ما عن الحلبي أنّه سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل يمر بالركيّة و ليس معه دلو، قال:- عليه السّلام-: «ليس عليه أن يدخل الركيّة، لأنّ رب الماء هو رب الأرض فليتيمّم». (1) و مثله رواية أخرى.

و عن عبد اللّٰه بن أبي يعفور و عنبسة بن مصعب جميعا عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجد دلوا و لا شيئا تغترف به فتيمّم بالصعيد، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد، و لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم ماءهم». (2)

و قوله: و لا تفسد إلخ الظاهر أنّ المراد به ما ذكرنا، من صورة كون البئر متعلّقا لحق مشترك أو ملكا كذلك، و على هذا فيكون داخلا في العذر الشرعي.


1- الوسائل: ج 2، ب 3، من أبواب التيمّم، ص 965، ح 1.
2- المصدر نفسه: ح 2.

ص: 450

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث أدرجه في العذر العادي في قبال العقلي و الشرعي.

و منها: رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي- عليه السّلام- أنّه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة، أو يوم عرفة لا يستطيع الخروج من المسجد من كثرة الناس؟ قال- عليه السّلام-: «يتيمّم و يصلّي معهم و يعيد إذا انصرف». (1)

و الظاهر أنّ قوم السائل «أو يوم عرفة» محمول على اتّفاق ذلك في عرفات، بقرينة عدم تعارف الازدحام في ذلك اليوم، في سائر الأمكنة، بحيث يخشى منه فوت الصلاة في مجموع وقتها، و الأمر بالإعادة إمّا للاستحباب، أو لعدم إجزاء صلاة الجمعة مع جماعة العامة تقية، كما هو المقرر في محلّه هذا.

و لو توقف تحصيل الماء على شرائه و أمكن وجب، و لو كان المبذول أزيد من ثمن المثل بأضعاف، أمّا في صورة عدم الزيادة فواضح، و أمّا فيها فمقتضى قاعدة نفي الضرر و إن كان عدم الوجوب، لكنّها مخصّصة في خصوص المقام بأخبار خاصة.

منها: صحيحة صفوان قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن رجل احتاج إلى الوضوء للصلاة و هو لا يقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضّأ به بمائة درهم، أو بألف درهم، و هو واجد لها، أ يشتري و يتوضّأ أو يتيمّم؟ قال- عليه السّلام-: لا بل يشتري، قد أصابني مثل ذلك فاشتريت و توضّأت و ما يشتري بذلك مال كثير». (2)

و في خبر الحسين بن أبي طلحة قلت: إن وجد قدر وضوء بمائة ألف، أو


1- الوسائل: ج 2، ب 3، من أبواب التيمّم، ص 965، ح 3. و ص 985، ب 15، ح 1- 2.
2- المصدر نفسه: ب 26، من أبواب التيمّم، ص 997، ح 1.

ص: 451

بألف و كم بلغ؟ قال- عليه السّلام-: «ذلك على قدر جدته». (1)

نعم لو كان بذل الثمن مضرّا بحاله و لو من جهة الوجاهة و الاعتبار، فضلا عن كونه من جهة اختلال المعاش لم يجب و يتيمّم، لقاعدة نفي الحرج السالمة عن المخصص، و ربما كان قوله- عليه السّلام-: ذلك على قدر جدته إشارة إلى ذلك أيضا، فإنّ المراد من الجدة بحسب الظاهر هو الاستطاعة العرفية.

ثمّ الظاهر أنّ حال الآلة التي يستقى بها حال الماء في وجوب الشراء، و لو بأزيد من ثمن المثل مع عدم الإضرار بالحال، و عدم الوجوب مع الإضرار، و ذلك لكون حكمها مفهوما من الخبرين عند العرف.

و هذا بخلاف ما لو توقّف تحصيل الماء، أو الآلة، على بذل مال للظالم، أو ضياعه، أو تلفه، فانّ القاعدتين قاضيتان بعدم الوجوب في هذه الصور مع سلامتها عن المخصص، و ذلك للشك في اندراج هذه الأمثلة تحت المخصص المذكور.

مسألة: لو توقّف تحصيل الماء على الشراء وجب

و لو بأضعاف ثمن المثل بالغا ما بلغ، ما لم يضر بحاله إمّا بسقوط اعتباره، أو اختلال معاشه. و يدل على الحكم في جانبي المستثنى منه و المستثنى خبر الحسين بن أبي طلحة، قلت: إن وجد قدر وضوء بمائة ألف أو بألف و كم بلغ، قال- عليه السّلام-: «ذلك على قدر جدته». فانّ قوله- عليه السّلام-: «ذلك على قدر جدته» صريح في تقدير ذلك على مقدار تمكّنه الحالي، لا على مقدار المساواة للقيمة السوقية و ثمن المثل، و من عموم هذا الكلام الذي يكون في قوّة التعليل، و من التعليل الآخر المذكور في صحيحة


1- الوسائل: ج 2، ب 26، من أبواب التيمم، ص 998، ح 2.

ص: 452

صفوان، بقوله- عليه السّلام-: «و ما يشتري بذلك مال كثير» يستفاد تعدية الحكم إلى آلة الاستقاء، من الدلو، و الطناب، و أجرة المستقي، و غير ذلك من المقدّمات المتعارفة لو احتاج شي ء منها إلى الشراء، بل ربّما يتوهّم شمول العمومين المذكورين لما إذا توقّف على بذل المال إلى الظالم، أو تحمّل المنّة بقبول الهبة، أو بالاستيهاب الابتدائي، و لكنّه مدفوع بالفرق الواضح بين ما ذكر، و الأمثلة المتقدّمة، إذ كثيرا ما تسمح النفوس ببذل المال الكثير و لو بلغ في الكثرة ما بلغ في مقام الشراء، و مع ذلك يشق عليها في الغاية بذل المال القليل في مقام تحمّل الظلم، كما لا يحضر لتحمل المنّة مع ما فيه من الهوان و الذلّة.

و الحاصل الشك في اندراج ما ذكر في الروايتين، كاف في اندراجه تحت قاعدتي: لا ضرر و لا حرج.

نعم الظاهر عدم الفرق بين الشراء و سائر أنحاء الاكتساب، مثل الصلح، و الإجارة، و الهبة المعوضة.

و أمّا لو توقف على تضييع المال من دون تحمّل ظلم، أو منّة، كما لو توقّف على جعل العمامة قطعا و شدّ بعضها ببعض و جعلها بمنزلة الحبل، أو على اصابة المطر للثوب النفيس الموجبة لسقوطه عن النفاسة و الجدادة، فدخوله تحت العمومين محلّ للتوقّف، و يمكن استفادة حكمه من رواية اللص الآتية.

السبب الثالث: الخوف من استعمال الماء على النفس، أو العرض، أو المال في الجملة

اشارة

فإنّه تنتقل الوظيفة حينئذ إلى التيمّم إجماعا، و يدلّ عليه بعد الإجماع في خصوص الخطر النفسي، و المالي، خبر يعقوب بن سالم قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن رجل لا يكون معه ماء، و الماء عن يمين الطريق و يساره

ص: 453

غلوتين أو نحو ذلك؟ قال- عليه السّلام-: «لا آمره أن يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع». (1)

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث ذهب تبعا لصاحب الحدائق إلى أنّ تفريع قوله- عليه السّلام-: «فيعرض له لص» على قوله: «يغرر بنفسه» يجعله مختصا بالخطر النفسي، و غير دال على المالي، فيكون المقصود به الخوف من جناية اللص، أو إذهابه لجميع زاد المسافر الّذي به قوام حياته.

و فيه أنّ المراد بالنفس في هذا المقام، ليس ما يقابل العرض و المال، بل ما يراد به في قولك: «لا تجعل نفسك معرضا لسرقة المال، و هتك العرض و افتراس السبع» مع أنّ الجناية من اللص من ابتداء الأمر غير متعارف، كما أنّ إذهابه لجميع الزاد، خلاف ما هو الغالب في مورد الرواية، من كون الزاد عند القافلة، و خروجه و حده إلى مسافة الغلوة و الغلوتين لطلب الماء، هذا و قد أفرط من ذهب إلى شمول هذه الرواية للمال اليسير أيضا، و القول الوسط اختصاصها بالمال المعتد به، هذا في ما إذا كان الخطر متوجّها إلى مال نفسه.

و أمّا لو كان متوجّها إلى مال الغير، فإن كان حفظه في عهدته شرعا، أمّا لولاية، أو لأمانه، فالظاهر مشموليته للرواية مضافا إلى دليل نفي الحرج في بعض أفراده، و لو لم يكن كذلك و لكن كان ضياعه موجبا لخجلته، أو تألم خاطره، لكونه متعلّقا ببعض أصدقائه، أو بعض أقربائه، فالظاهر أيضا مشموليته للرواية مضافا إلى حكومة دليل نفي الحرج أيضا في بعض موارده.

و أمّا لو كان مملوكا لبعض إخوانه المؤمنين من دون صداقة، أو قرابة، بحيث


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التيمّم، ص 964، ح 2.

ص: 454

لا يوجب تلفه خجلة، و لا تألّما، فلا موجب حينئذ للانتقال إلى التيمّم.

و أمّا الخطر المتوجّه إلى نفس الغير، فإن كان عالما بتوجّهه لو توضّأ، أو اغتسل، فلا إشكال في الانتقال إلى التيمّم.

و أمّا مع الاحتمال فكذلك أيضا، لأنّ اهتمام الشارع بحفظ نفس المؤمن بحدّ يكون احتماله أيضا أهم بالرعاية في نظره من حفظ الطهارة المائية.

و أمّا الخطر العرضي فإن كان متوجّها إلى نفس الشخص، فلا إشكال في الانتقال معه إلى التيمّم، سواء كان معلوما، أو محتملا إذا كان مثله لا يتحمل عادة.

و كذا إذا كان متوجّها إلى من له تعلّق بالإنسان، من جهة صداقة، أو قرابة، بحيث يكون هتكه علما أو احتمالا مورثا للخوف شاقا لا يتحمل، و أمّا مع عدم كونه ذا تعلّق به، فلا موجب للانتقال إلى التيمّم، ما لم ينته هتك عرض ذلك الغير إلى محرم شرعي يكون مطلق وجوده في الخارج مبغوضا شرعا، هذا مع معلوميته، و أمّا مع الاحتمال فتكون شبهة موضوعية و الأصل فيه البراءة، إلّا إذا علم كونه مهتمّا به لدى الشرع، بحد يكون احتماله أيضا منجّزا.

مسألة [في الضرر المالي]

قد عرفت حال الاحتمال في الخطر النفسي، و العرض، و أنّه في الأوّل منشأ للانتقال إلى التيمّم، و لو بالنسبة إلى الغير الأجنبي إذا كان احتمالا عقلائيا، و في الثاني لا بد من كونه بالغا حدّ الخوف الذي لا يتحمّل مثله عادة، أو يكون في البين مزاحمة تكليف تحريمي، أو إيجابي أهم بالرعاية حتى مع الاحتمال.

و أمّا الضرر المالي، فلا إشكال في صورة معلوميته مع كونه معتدّا به، و أمّا في

ص: 455

صورة الاحتمال مع الشرط المزبور، فإن بنينا على استفادة حكمه من رواية اللصّ المتقدمة كما مرّ تقويته، فالظاهر كفاية كونه احتمالا عقلائيا و لو لم يورث خوفا، فضلا عن كونه بالغا مرتبة لا يتحمّله العقلاء، بناء على ما هو الظاهر من صدق التغرير، بالاقدام على ما يكون الابتلاء بالمكروه، فيه محتملا احتمالا عقلائيا و إن لم يحصل فيه الخوف و التشويش في حقّ شخص مخصوص.

و إن بنينا على استفادته من قاعدة لا ضرر، ففي غير صورة الظن في غاية الإشكال، و وجهه أنّ انسداد باب العلم بالضرر غالبا قبل وقوعه، و انحصاره في ما بعد الوقوع يورث القطع بحجية مطلق الظن لدى المتكلّم، لئلّا يصير الكلام كاللغو.

و أمّا الزائد على الظن، و هو مجرّد الاحتمال، فلا دليل على استفادته سواء كان منشأ للخوف، و الخطر الذي لا يتحمّل مثله، أو كان مجرّد احتمال عقلائي، فينحصر المدارك حينئذ في قاعدة لا حرج، و مقتضاها الفرق بين الصورتين المذكورتين، فلا دليل على مشروعية التيمّم بمجرّد احتمال الضرر المالي المعتدّ به، من دون خوف و خطر لا يتحمّل مثله.

و من الكلام في الخسارة المالية، يعرف الكلام في خطر حدوث المرض لمن كان صحيحا، فانّ الكلام في البابين واحد بحسب مقتضى قاعدتي نفي الضرر و الحرج.

نعم في خطر زيادة المرض، أو بطء علاجه، لمن كان مريضا يمكن الاكتفاء.

بكونه معتدّا به، و لو لم يكن مورثا لخطر لا يتحمّل مثله، تمسّكا بالآية الشريفة، و بأخبار الكسير و الجريح. تقريب الاستدلال بالآية، أنّه بعد القطع بعدم إرادة

ص: 456

مطلق المرض من قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ* (1) حتى ما يؤمن معه من الضرر، يكون المراد تخصيصا أو انصرافا خصوص ما كان الضرر معه محتملا عقلائيا، سواء كان مورثا للخوف، أم لا، و على الأوّل كان ممّا لا يتحمّله العقلاء في مقاصدهم، بل يصدهم عن الجري فيها أم لا.

فإن قلت: بعد ما كان المراد من عدم الوجدان المذكور في ذيل الآية، عدم الاستطاعة العرفية، و عدم التمكّن الحالي الّذي هو عبارة أخرى عن الحرج، الذي لا يتحمل عادة يكون حال المرض، و سائر المسوغات على حدّ سواء، و يبطل الفرق الذي ذكرت.

قلت: الظاهر رجوع القيد المذكور إلى خصوص الجملتين الأخيرتين، أعني:

قوله تعالى أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ* دون الجملة الأولى، أعني: قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ* فقد ذكر في الآية الشريفة أسبابا ثلاثة للتيمّم: المرض، و السفر، و عدم الوجدان، عند عروض أحد الحدثين، ففي سائر المسوغات غير المرض، و السفر، ندور مدار الحرج، و أمّا في المرض فندور مدار الاحتمال العقلائي، و في السفر مدار الغلوة و الغلوتين.

و من الكلام في تقريب الاستدلال بالآية الشريفة، يعرف الكلام في تقريبه بأخبار الجريح و الكسير، فإنّهما من واد واحد و لا بأس بالتيمّن بذلك بعضها:

فمنها: خبر محمّد بن سكين عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: قيل له إنّ فلانا أصابته جنابة و هو مجدور فغسّلوه فمات؟ فقال: «قتلوه ألا سألوا ألا يمّموه انّ


1- النّساء/ 43.

ص: 457

شفاء العيّ السؤال». (1)

و منها: خبر جعفر الجعفري عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: إنّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم ذكر له أنّ رجلا أصابته جنابة على جرح كان به، فأمر بالغسل فاغتسل فكزّ فمات، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «قتلوه قتلهم اللّٰه، إنّما كان دواء العيّ السؤال». (2)

و صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن الرجل يكون به القروح و الجراحات فيجنب، قال: «لا بأس بأن يتيمّم و لا يغتسل». (3)

و مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال- عليه السّلام-: «يتيمّم المجدور و الكسير إذا أصابتهما الجنابة». (4)

مسألة: لا فرق في انتقال الوظيفة إلى التيمّم بين كون سببه باختيار المكلّف و عدمه

فلو أجنب نفسه عمدا في الهواء البارد، مع كون الغسل فيه معرضا لتلف النفس، أو لحدوث المرض الشديد، أو لصرف مشقة شديدة لا تتحمل عادة، انتقل إلى التيمّم عند المشهور، خلافا للمفيد في المقنعة، و الصدوق في الهداية، و الشيخ في الخلاف، و صاحب الوسائل- قدّس سرّهم- فأوجبوا الغسل و إن كان فيه خوف التلف، بل قطعه و لصاحب المستند- قدّس سرّه- فأوجبه ما لم ينته إلى خوف التلف، و إن انتهى إلى خوف المرض الشديد، بل قطعه، و لبعض الأعاظم- قدّس سرّه- فجعله مستحبا ما لم ينته إلى خوف التلف، و لا إلى المرض الشديد، و إن


1- الوسائل: ج 2، ب 5، من أبواب التيمّم، ص 967، ح 1.
2- المصدر نفسه: ص 967، ح 6.
3- المصدر نفسه: ص 968، ح 11.
4- المصدر نفسه: ص 968، ح 10.

ص: 458

انتهى إلى المشقة الشديدة التي لا تتحمل عادة، و إلى المرض اليسير كالزكام و نحوه، و جعل هذا هو الغالب في الغسل المذكور في الأمزجة السليمة بشرط تعقبه بتجفيف البدن، و تسخينه بإكثار اللباس و نحوه، و بناه على أصله الّذي هو كون جواز التيمّم عند صرف المشقّة الشديدة، على نحو الرخصة لا العزيمة، و منشأ هذا الاختلاف اختلاف الاخبار.

فمنها: ما يدل بظاهره على وجوب التيمّم.

كصحيحة البزنطي عن الرضا- عليه السّلام- في الرجل تصيبه الجنابة، و به جروح أو قروح، أو يكون يخاف على نفسه من البرد؟ فقال- عليه السّلام-: «لا يغتسل و يتيمّم». (1)

و نحوها صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- و كصحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، و يخاف على نفسه التلف إن اغتسل؟ فقال- عليه السّلام-: يتيمّم و يصلّي، فإذا أمن البرد اغتسل و أعاد الصلاة». (2).

و منها: ما يدلّ بظاهره على وجوب الغسل.

مثل صحيحة عبد اللّٰه بن سليمان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه سئل عن رجل كان في أرض باردة، يتخوّف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل، كيف يصنع؟ قال- عليه السّلام-: «يغتسل و إن أصابه ما أصابه، قال: و ذكر أنّه كان وجعا شديد الوجع، فأصابته جنابة و هو في مكان بارد، و كانت ليلة شديدة الريح باردة،


1- الوسائل: ج 2، ب 5، من أبواب التيمّم، ص 968، ح 7.
2- المصدر نفسه: ب 14، من أبواب التيمّم، ص 981، ح 2.

ص: 459

فدعوت الغلمة فقلت لهم: احملوني فاغسلوني، فقالوا: إنّا نخاف عليك، فقلت لهم: ليس بدّ فحملوني و وضعوني على خشبات، ثمّ صبّوا عليّ الماء فغسّلوني». (1)

و صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة و لا يجد الماء، و عسى أن يكون الماء جامدا؟ فقال- عليه السّلام-: يغتسل على ما كان، حدّثه رجل أنّه فعل ذلك فمرض شهرا من البرد، فقال- عليه السّلام-: اغتسل على ما كان، فإنّه لا بدّ من الغسل، و ذكر أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-:

أنّه اضطر إليه، و هو مريض فأتوه به مسخّنا فاغتسل، و قال: «لا بدّ من الغسل». (2)

و منها: ما يدلّ على التفصيل بين ما إذا كان السبب باختيار المكلّف و ما لم يكن.

كمرفوعة علي بن أحمد عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سألته عن مجدور أصابته جنابة؟ قال- عليه السّلام-: «إن كان أجنب هو فليغتسل، و إن كان احتلم فليتيمّم». (3)

و مرفوعة إبراهيم بن هاشم قال: «إن أجنب فعليه أن يغتسل على ما كان منه، و إن احتلم تيمّم». (4)


1- الوسائل: ج 2، ب 17، من أبواب التيمّم، ص 986، ح 3.
2- المصدر نفسه: ص 987، ح 4.
3- المصدر نفسه: ص 986، ح 1.
4- المصدر نفسه: ص 986، ح 2.

ص: 460

إذا عرفت ذلك فنقول: الإنصاف انّ رفع اليد عن عمومات الكتاب و السنّة المقتضية للانتقال إلى التيمّم، بمحض المشقّة و الحرج الشديد الذي لا يتحمّل في الفعل، فضلا عن الانتهاء إلى خوف التلف، أو المرض الشديد، أو قطعهما سيّما مثل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «قتلوه! قتلهم اللّٰه»، بمثل هذه الأخبار التي أعرض مشهور الأصحاب عن العمل بها، في غاية الإشكال، بل المنع، سيّما و الاجناب المذكور جائز شرعا غير محرّم، و إن قلنا بحرمة إراقة الماء عند عدم التمكّن من ماء آخر، و قد حكي على عدم الحرمة فيه الإجماع عن المعتبر، و دلّ عليه خبر السكوني أنّ أبا ذر- رضي اللّٰه عن- أتى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فقال: يا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم هلكت جامعت على غير ماء، قال: فأمر النبي صلى اللّٰه عليه و آله و سلم بمحمل فاستترنا به، و بماء فاغتسلت أنا و هي، ثمّ قال:

«يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين». (1)

و قريب منه خبر إسحاق بن عمار، و منه يظهر الكلام في التفصيل الذي اختاره صاحب المستند- قدّس سرّه-، و أمّا ما اختاره بعض الأعاظم- قدّس سرّه- ففيه، أنّه إن صلحت الأخبار المذكورة للاستناد، و لم يضر إعراض المشهور في حجيّتها الذاتية، فالقول بظاهرها و هو الوجوب متعيّن، و إلّا فلا يصح الاعتماد عليها حتى للقول بالاستحباب، و أمّا الأصل الذي اعتمده من كون التيمّم عند الحرج الصرف رخصة لا عزيمة فسيجي ء الكلام فيه إن شاء اللّٰه.

مسألة [هل الشين داخل في عنوان الحرج]

الظاهر أنّ الشين الذي هو عبارة عن الخشونة المشوهة للخلقة التي تعلو البشرة، و ربما ينتهي إلى تشقّق الجلد و خروج الدم، ليس له عنوان مستقل في عرض الحرج، بل هو داخل تحته و دائر مداره من غير فرق بين الخوف


1- الوسائل: ج 2، ب 14، من أبواب التيمّم، ص 984، ح 12.

ص: 461

على حدوثه، أو على ازدياده، أو بطء علاجه، أو شدّة تألّمه، و ذلك لعدم ورود نص بالخصوص فيه، و القدر المتيقّن من الإجماعات المنقولة فيه ما ذكرنا.

مسألة: و لو خاف العطش من جهة قلّة الماء لو استعمله في الطهارة المائية جاز التيمّم

سواء خاف العطش على نفسه، أو على غيره الذي له مساس و تعلّق به، و لو كافرا غير حربي، أو حيوانا مملوكا له، أو للغير المذكور بحيث يكون حفظه عن العطش غرضا مهما له، و احتمال فوته موجبا لوقوعه في الخوف و الاضطراب.

و يدل على ذلك كلّه صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه قال:

في رجل أصابته جنابة في السفر و ليس معه إلّا ماء قليل، و يخاف إن هو اغتسل أن يعطش؟ قال- عليه السّلام-: «إن خاف عطشا فلا يهريق منه قطرة، و ليتيمّم بالصعيد فإنّ الصعيد أحب إليّ». (1)

و موثقة سماعة عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلّته؟ قال:

«يتيمّم بالصعيد و يستبقي الماء، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ جعلهما طهورا الماء و الصعيد». (2) بل يمكن أن [نقول] بشمول الروايتين لما إذا خاف العطش على نفس مسلم، و لو لم يكن بينهما مساس، و علاقة أصلا، من جهة كون حفظ نفسه من مقاصده المهتمة، و لا يحتاج إلى التمسّك بقضية المزاحمة بالأهم، حتى يستشكل بأنّ أهميّة حفظ النفس من الطهارة المائية، إنّما أحرزت مع العلم لا مع الاحتمال و الخوف.

و لو خاف العطش على حيوان مملوك للغير الذي لا تعلّق له به، أو غير


1- الوسائل: ج 2، ب 25، من أبواب التيمّم، ص 996، ح 1.
2- المصدر نفسه: ص 997، ح 3.

ص: 462

مملوك أصلا كهرّة و نحوها، فهو خارج عن مدلول الروايتين.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث حاول تعميمهما لذلك أيضا، نظرا إلى تنكير لفظة عطشا في الرواية الأولى، و حذف المتعلّق لقلّة الماء في الثانية، و ما ذكره بعيد جدا لإمكان دعوى الانصراف.

و أعجب منه ما في العروة: من إجراء الحكم في مثل الكلب العقور، و الخنزير، و الذئب، و نحوها من الحيوانات المؤذية، و في مقابله من خصّ الروايتين بخصوص عطش نفسه، و استند في عطش الغير المسلم إلى قضية المزاحمة بالأهم التي عرفت إشكالها، و في عطش الحيوان المملوك له إلى رواية اللص و الأحسن ما ذكرنا.

ثمّ لا فرق بحسب عموم الروايتين بين خوف انجرار العطش إلى التلف، أو المرض أو المشقّة الشديدة.

مسألة: لو انحصر الماء في مضاف مخلوط بالطين فلا إشكال أنّه في ضيق الوقت ينتقل إلى التيمّم

و أمّا في السعة فيبتني الكلام على أنّ غير الواجد في موضوع التيمّم، هل المراد الفاقد في تمام الوقت أو أنّه الفاقد مطلقا و لو في بعض من الوقت؟

فعلى الأوّل بأن يكون ظرف قوله فَلَمْ تَجِدُوا* مجموع الوقت لا ينتقل إلى التيمّم.

و على الثاني: يبتني على صدق الفاقد و غير الواجد عليه بمجرد ذلك.

فنقول: إن تمكّن المكلّف من تحصيل الماء بمقدمات اختيارية سهلة، كما فيما يستقي من البئر أو يتوسل في تصفية الماء بآلة فهو عرفا واجد.

ص: 463

نعم لو تمكّن لكن بمقدمات عسرة صعبة أو لم يتمكّن بمقدمة اختيارية أصلا، بل يجد بمقدمة غير اختيارية كنزول مطر يعلم به فيما بعد ساعة، أو نزول قافلة يعلم به كذلك، أو صيرورة الطين في الأسفل بمقتضى طبعه، فهو قبل اعمال المشاق و قبل حصول المقدمة الغير الاختيارية داخل في موضوع الفاقد، و لو فرض اتحاد مقدار الزمان في هذا و سابقه كما كان زمان الاستقاء و زمان الاجتماع بالمطر مساويا، ألا ترى أنّ من يقدر على الكون على السطح في عشر دقائق بنفسه، و شخصا آخر لا يقدر بنفسه أصلا و لكن الغير يحمله على السطح في عشر دقائق، كلاهما مشتركان في الوصول إلى السطح بعد مضي عشر دقائق، و مع ذلك يعد الأوّل قادرا و الثاني عاجزا.

و بالجملة فعلى فرض عدم التمكّن من تصفية الماء المذكور بمقدمة اختيارية أصلا، أو تمكن و لكن بمشقة لا تتحمل عادة، فحينئذ لا إشكال في صدق الفاقد عليه، فيتخيّر بين التيمّم و بين الصبر حتى يصير واجدا و يتوضّأ، و لكن الأحوط تعيّن الأخير بملاحظة احتمال كون الظرف في الآية الشريفة مجموع الوقت، و إن كان خلاف الظاهر.

مسألة [في الخوف و تفاصيله]

لا إشكال في أنّ الخوف كما قد يجامع الظن، كذلك قد يجامع الشك، بل الوهم أحيانا، و هل المدار في جميع الفروع المتقدّمة مطلق الخوف، أو خصوص قسم خاص منه؟ الظاهر التفصيل بين ما ورد فيه الأدلّة الخاصّة المعلّقة للحكم على عنوان الخوف، كأخبار السبع و اللص و العطش، و ما ورد في المريض و الجريح و الكسير، و بين ما انحصر مدركه في أدلّة نفي الحرج، أو انحصر في دليل لا ضرر، فما كان من قبيل الأوّل فالحكم دائر مدار مطلق الخوف، من غير تخصيص

ص: 464

بقسم خاص منه، و ما كان من قبيل الثاني فلا بدّ فيه من البلوغ مرتبة الحرج الذي لا يتحمل عادة، و إن لم يبلغ مرتبة الظن، و ما كان من قبيل الثالث فلا بدّ من بلوغه مرتبة الظن، و إن لم يبلغ مرتبة الحرج الذي لا يتحمل، و قد مرّ وجهه في ما سبق.

مسألة: هل التيمّم في موارده مشروع رخصة أو عزيمة؟

الظاهر التفصيل بين ما كان مشروعية التيمّم فيه لمجرّد كون الوضوء أو الغسل، حرجيين، أو ضرريين ضررا غير لازم التحرّز، من غير أن يترتّب عليهما مفسدة لازمة الاجتناب، كإلقاء النفس في التهلكة أو بعض أقسام الضرر البدني أو المالي، فيكفي حينئذ في صحّة الوضوء، و الغسل، محبوبيتهما الذاتية المستكشفة من إطلاق المادة، و إن ارتفع عنهما الأمر الإيجابي لحكومة لا حرج أو لا ضرر، مضافا إلى بقاء الأمر الاستحبابي المتعلّق بهما، لأجل الغايات المستحبّة الّتي منها الكون على الطهارة، لعدم حكومة القاعدتين المذكورتين على الأوامر الاستحبابية، و بين ما إذا كان مشروعية التيمّم لأجل ترتّب المفسدة اللازمة الاجتناب، على فعل الوضوء و الغسل، فيكونان متعلّقين للنهي العرضي، و لا محالة يتعلّق الأمر التعييني بالتيمّم، هذا و يظهر من المحقّق النائيني- قدّس سرّه- في حاشية العروة القطع بعدم التخيير، بين التيمّم و بين الوضوء أو الغسل في الشي ء من الموارد، و لعلّه اعتمد على الإجماع الّذي حكاه المحقّق الحائري- قدّس سرّه- في حاشية العروة القطع بعدم التخيير، بين التيمّم و بين الوضوء أو الغسل في شي ء من الموارد، و لعلّه اعتمد على الإجماع الّذي حكاه المحقّق الحائري- قدّس سرّه- في الدرر عن سيّد أساتيذه: السيد محمّد الأصفهاني- قدّس سرّه- على أنّه متى كان التيمّم مشروعا، فالوضوء أو الغسل غير مشروعين.

مسألة: في الموارد التي يجب فيها التيمّم تعيينا لو خالف و توضّأ أو اغتسل، فهل يصحّ الوضوء و الغسل أو لا؟

لا إشكال في ما إذا كانت المقدّمة المتقدّمة منحصرة في الحرام، كما لو كانت الآنية منحصرة في الغصبية، أو الذهب و الفضة

ص: 465

ففرغها في الآنية المباحة من غير الجنسين، فإنّه بعد التفريع ينقلب التكليف إلى الوضوء أو الغسل كما هو واضح. و يبقى الكلام في صور ثلاثة:

الأولى: ما لو اتحد فعل الوضوء أو الغسل مع الحرام، كما لو انحصر الماء في المغصوب، أو الآنية في الغصبية، أو الذهب و الفضة، و لم يمكن الغسل أو الوضوء إلّا بانغماس العضو في الآنية دون الاغتراف.

و الثانية: ما إذا كانت المقدمة المقارنة منحصرة في الحرام، كما لو أمكن الاغتراف من الآنية في المثال المذكور، فإنّ الاغترافات المتخلّلة محرّمة و مغايرة وجودا مع أفعال الوضوء و الغسل.

و الثالثة: ما لو زاحم فعل الوضوء، أو الغسل واجب أهم، كما لو زاحمه حفظ نفس المؤمن مع إمكانه مع التيمّم.

و محصّل الكلام في الصورة الأولى: أنّه لا إشكال بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي في عدم الأمر على وجه الإطلاق بالوضوء، أو الغسل، للاستحالة الذاتية في الاجتماع حسب الفرض، و غلبة ملاك النهي على ملاك الأمر أيضا كذلك، و أمّا الأمر بهما على وجه الترتّب و الاشتراط بعصيان النهي، لو قلنا به في المتزاحمين فلا يصحّ هنا، لأنّ الوجود الّذي يقع في الخارج مبغوضا و معاقبا عليه لا يمكن أن يتقرّب به، و المفروض إناطة المصلحة في باب العبادات بالتقرّب.

نعم يمكن الإرشاد إليه في التوصليات عقلا، و شرعا، لإدراك مصلحة الأمر.

و من هنا يعلم أنّه لا يكفي الجهة في مقامنا لو قلنا بكفايتها في سائر المقامات، بناء على عدم صحّة الأمر على وجه الترتّب.

ص: 466

و أمّا بناء على القول باجتماع الأمر و النهي، فلا إشكال أيضا في عدم صحّة الأمر بالوضوء، أو الغسل على وجه الإطلاق، لاشتراط صحّة الأمر و النهي المطلقين عند هذا القائل بوجود المندوحة، إذ مع عدمها كما هو المفروض في المقام يلزم التكليف بما لا يطاق، و إن لم يكن نفس التكليف محالا، و المفروض أيضا غلبة جانب النهي.

نعم يبقى الكلام بناء على هذا القول في صحّة الأمر على وجه الترتّب على القول به في المتزاحمين المتغايرين في الوجود، كالصلاة و الإزالة، و كفاية الجهة في الصحة بناء على القول بالعدم، و مقتضى القاعدة عند هذا القائل عدم الفرق بين المقام و بين الصلاة و الإزالة، اللّٰهمّ إلّا أن يقوم إجماع، على أنّ الوجود الذي يقع في الخارج مصداقا للعنوان المحرّم، لا يصحّ تطبيق عنوان العبادة و الطاعة عليه، كما ربّما يقال إنّه مفاد قولهم- عليهم السلام-: لا يطاع اللّٰه و يعبد من حيث يعصى.

و أمّا الصورة الثانية: و هي صورة التوقّف على المقدّمة المقارنة المحرّمة، كالاغترافات المتخلّلة من الآنية الغصبية، أو الذهبية، أو الفضيّة. فملخّص الكلام فيها أنّ الأمر بالوضوء أو الغسل على سبيل الإطلاق، و النهي عن الاغتراف كذلك تكليف بما لا يطاق، و أمّا النهي عن الاغتراف مطلقا، و الأمر بهما مشروطا بعصيان النهي، لا على أن يكون الشرط هو العزم على العصيان، و لا العنوان الانتزاعي، أعني: كون المكلّف ممّن يعصي، بل على أن يكون نفس العصيان الخارجي و يكون العزم كاشفا عنه، فلا مانع عنه عند القائل بصحّة الأمر على وجه الترتّب في الضد المبتلى بالأهم، و عند القائل بالعدم أيضا يكفي في صحّة الوضوء، و الغسل، وجود الجهة كما هو واضح.

ص: 467

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث إنّه مع قوله بصحّة الأمر بنحو الترتّب، ذهب إلى بطلان الوضوء، و الغسل في المقام، نظرا إلى أنّهما أمران قصديان، فلا يندرج غسل الوجه مثلا تحت عنوان الوضوء، حتى يؤتى به بقصد إلحاق بقية الأجزاء بعنوان الوضوئية، و القصد المذكور ينحل إلى قصد الاغتراف المتخلّل المحرم، بدعوى أنّ القصد إلى الشي ء قصد إلى مقدمته، فيكون قبيحا فيندرج تحت كبرى عدم إمكان التقرّب و العبادية بشي ء يكون قبيحا و مبعّدا.

و فيه: أنّ القصد إلى الشي ء مغاير وجودا مع القصد إلى مقدمته، كما أنّه لا يكون قصد المقدمة في مقامنا متولّدا أيضا من قصد ذيها، حتى لا يمكن التقرّب من باب استلزام القبيح، و ذلك لأنّ قصد الوضوء متولّد من الأمر به، و هو متولّد من الاغتراف الّذي هو شرطه بالفرض، و هو متولّد من قصد الاغتراف، فكيف يكون قصد الاغتراف متولّدا من قصد الوضوء، أو متّحدا معه؟

و بالجملة فأظن أنّ صحّة الوضوء على حسب القاعدة ممّا لا شبهة، فيها، اللّٰهمّ إلّا أن يقوم الإجماع الذي نقلناه عن السيّد العلّامة المتقدّم ذكره- قدّس سرّه- على أنّه كلّما كان التيمّم مشروعا، فالوضوء غير مشروع، و ممّا ذكرنا في هذه الصورة يظهر الكلام في الصورة الثالثة، أعني: ما إذا زاحم فعل الوضوء أو الغسل واجبا أهم، كحفظ نفس المؤمن مع إمكانه مع التيمّم، فإنّ الكلام فيها، هو الكلام في الصورة السابقة.

نعم التوهّم المتقدّم غير جار هنا، لبطلان توهّم المقدمية في باب الضدين كما تقرّر في محلّه، مع أنّه على فرض الصحّة يجري الجواب المتقدّم حرفا بحرف، هذا مضافا إلى الفرق بين الصورتين من جهة أنّ ترك الأهم في هذه الصورة لا يحتاج إلى

ص: 468

العزم، كالاغتراف هناك، بل يكفيه عدم العزم و هو الذي يعبّر عنه بالصارف، ضرورة أنّ عدم علّة الوجود في كل شي ء علّة للعدم، و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث قاس هذه الصورة بالمتقدّمة، مع أنّ الفرق في غاية الوضوح و لكن الجواد قد يكبو، و الصارم قد ينبو.

مسألة [في بطلان الوضوء من جهة الاتحاد مع الحرام]
اشارة

في الموارد التي قلنا ببطلان الوضوء من جهة الاتحاد مع الحرام، كصورة اتحاده مع الإضرار بالنفس، أو مع الغصب إنّما نقول به مع تنجّز النهي المذكور، و أمّا مع عدم تنجّزه للغفلة، أو النسيان، أو الجهل به موضوعا، أو حكما على وجه يكون الجاهل معذورا عذرا شرعيا، أو عقليا، فالوضوء و إن كان منهيا عنه أيضا، كما في حال العلم و الالتفات لغلبة ملاكه على ملاك الأمر في هذا الحال أيضا، و لكن حيث إنّه لا يؤثّر في قبح الفعل و بعد الفاعل، ضرورة أنّ اتصاف الأفعال بالحسن و القبح، يدور مدار عناوينها الاختيارية المعلومية الملتفت إليها، دون عناوينها المجهولة أو المغفول عنها، فلا مانع من تأثير ملاك الأمر في حسن الفعل و قرب الفاعل إذا أتى بالفعل بهذا الداعي، كما هو واضح، و قد وقع في عبارة بعض الأعاظم- قدّس سرّه- التمسّك بإطلاق الأمر.

و فيه: أنّه إنه أريد الأمر الظاهري يلزم تكفّل إنشاء واحد لحكمين ظاهري، و واقعي، و استحالته غنيّة عن البيان، و إن أريد الواقعي فلا فرق في استحالة اجتماعه مع النهي، عند القائل بالامتناع بين حالتي العلم، و الجهل، و الغفلة، و الالتفات.

تذييل: لو عصى و ارتمس في الماء مع كونه مضرّا بنفسه، أو كونه مغصوبا فنوى بخروجه الغسل لم يصحّ

كما لو نواه بدخوله، لأنّ جميع أنحاء تصرّفاته حتى

ص: 469

التصرّف الخروجي منهي عنه من الابتداء، و إن سقط عنه بالنسبة إلى الخروج على أسرع وجه يمكن، لعدم قدرته على ترك هذا المقدار، و لكنّه يقع مبغوضا و معاقبا عليه، فلا يصلح أن يقع متقرّبا به و عبادة، و لا يكفي الأمر به إرشادا عقلا، و شرعا في صحّة عباديته، فإنّه نظير الأمر الإرشادي باختيار الخضخضة على الزنا، عند بنائه على عصيان التكليف بحفظ الفرج من باب اختيار أخف القبيحين عند الدوران و لا يجعله حسنا.

و أمّا التفصيل بين التوبة و عدمها كما يظهر من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- الميل إليه، و من بعض المحشّين للعروة تقويته، فلم يظهر له وجه، فإنّ غاية الأمر سقوط فعلية العقاب عن التائب، بل وقوعه موردا لانعام المولى كما هو مقتضى تبديل سيّئاته بالحسنات، و لكنّه لا يجدي ذلك في تصحيح العبادية بعد وقوع الفعل في الخارج مبغوضا قبيحا، و كون الفاعل مستحقّا و إن لم يعاقب فعلا، بل صار موردا للإنعام تفضّلا.

المبحث الثاني: في تعيين ما يتيمّم به جنسا و وصفا:

اشارة

و قد اختلف فيه على أقوال:

فعن المشهور أنّه مطلق وجه الأرض ترابا كان، أم حجرا، أم حصى، أم رملا، أم غيرها ممّا يسمّى باسم الأرض و لم يخرج بالاستحالة عن حقيقته كالخزف و المعادن.

و عن السيّد المرتضى و بعض آخر أنّه التراب الخالص عن شوب ما لا يسمّى ترابا.

ص: 470

و عن ثالث: التفصيل بين حالتي الاختيار، و الاضطرار، باختيار القول الثاني في الأوّل، و الأوّل في الثاني، و الأصل في هذا الاختلاف، اختلافهم، في تعيين المراد بالصعيد الواقع في آية التيمّم، أعني: قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً* (1) و أنّه مطلق وجه الأرض، أو خصوص التراب الخالص، و أمّا احتمال أنّ المراد به الثاني في حال الاختيار، و الأوّل في حال الاضطرار فممّا يقطع بخلافه، بل لا يصحّ نسبته إلى جاهل فضلا عن فاضل، و كون المراد خصوص التراب الخالص، و يكتفي في حال الاضطرار بمطلق وجه الأرض، من باب قاعدة الميسور غير صحيح أيضا، لعدم كون الحجر، و الحصى، و نحوهما ميسورا للتراب، فالذي يمكن ركون القائل بالتفصيل إليه، أنّ المراد به مطلق وجه الأرض لكن حيث يشترط العلوق، و كون ما يعلق باليد من جنس ما تيمّم به، و هذا المعنى ممّا لا يتحقّق في غير التراب، فلا محيص عن تعيينه في حال الاختيار، و أمّا في حال الاضطرار فيسقط شرطية العلوق، فيكفي مطلق وجه الأرض لقاعدة الميسور.

و بالجملة الأمر دائر في لفظ الصعيد بين احتمالين لا ثالث لهما، و حيث إنّ أقوال اللغويين في الجانبين متعارضة، و لا يمكن الوثوق بشي ء منها، فلا بدّ في تشخيص الحال من تتبّع الأمارات الخارجية.

فمن جملتها ما يقال: في ترجيح القول بمطلق وجه الأرض، مثل أنسبيته بالمعنى الوصفي لهذه اللفظة، فإنّ الاتصاف بالارتفاع و الانخفاض إنّما يصحّ في ما هو من جنس الأمكنة، و هو الأرض في مقامنا، و لا يصحّ بالنسبة إلى ما هو من الأشياء المنقولة، فيقال مكان مرتفع، و مكان منخفض، و أرض مرتفعة، و أرض


1- النساء/ 43.

ص: 471

منخفضة، و لا يقال: تراب مرتفع، و تراب منخفض، و الظاهر ملاحظة هذه المناسبة في النقل إلى المعنى الجامدي.

و مثل أنسبيته بقوله تعالى فَتَيَمَّمُوا* فإنّه بمعنى اقصدوا، و المتبادر منه الحركة و المشي دون مجرّد الاستعمال، كما هو المتمشّي في المنقولات التي منها التراب، فلا يقال اقصد الماء أو التراب في مقام قولك: استعملهما، و لكن يقال:

اقصد المكان الفلاني في مقام قولك: تحرّك نحوه، و امش إليه.

و مثل أنسبيته المعنى الوصفي الذي عرفت انحصار موصوفة في الأمكنة بوصف الطيبوبة الواقع في الآية الشريفة، فإنّ الأمكنة المرتفعة محفوظة من وقوع القاذورات، فإنّ الإنسان يطلب للتخلّي الأمكنة المنخفضة، و لهذا يسمّى الغائط غائطا تسمية للحال باسم المحلّ، و يؤيد ذلك ملاحظة مقابلته في الآية الشريفة، مع لفظ الغائط، فكأنّه قيل: إذا جئتم من المكان المنخفض المتخلّي فيه، فاقصدوا المكان المرتفع الطيّب، فإنّه مضافا إلى خلوّه بنفسه عن القاذورات، تنحدر عنه المياه عند أوان نزول الأمطار، و لكن هذه المؤيدات الثلاثة كلّها من قبيل إثبات اللغة بالاعتبارات الذوقيّة، و هي لا تجدي شيئا ما لم يفد القطع أو الاطمئنان، و مثل ورود تفسير الصعيد بالمكان المرتفع، و الطيّب بالذي ينحدر عنه الماء في خبرين، أحدهما الرضوي، و الآخر ما عن معاني الأخبار.

و فيه: أنّ الخبرين ضعيفان سندا و لم يعلم ركون المشهور في فتواهم إلى هذين الخبرين.

و من جملتها ما يقال في تقوية القول بتعيّن التراب، مثل عدم تمشّي تحقّق العلوق الذي يستفاد اشتراطه من بعض الأدلّة إلّا في التراب، و عدم تمشّيه في

ص: 472

الرمل، و المدر، و الحصى، و الحجر، كصحيحة زرارة في تفسير قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ* قال- عليه السّلام-: «فلمّا أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء، أثبت بعض الغسل مسحا، لأنّه قال بِوُجُوهِكُمْ* ثمّ وصل بها وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف و لا يعلق ببعضها، الحديث» (1).

و فيه: أنّ الاستدلال مبني على اعتبار كون ما يعلق باليد من جنس ما يتيمّم به، و لا دليل عليه و الحجر و نحوه لا يخلو غالبا من الغبار، و هو كاف في تحقّق العلوق، مع أنّه على فرض الاعتبار إنّما يتمّ في الحجر المتماسك دون المسحوق، كعدم تمشّي العلوق في التراب الندي الذي لا ينتقل منه شي ء إلى اليد، هذا مضافا إلى أنّه سيجي ء في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى إقامة الدليل على عدم اشتراط العلوق رأسا.

و مثل أنّه لو فرض كون الصعيد في الآية مستعملا في مطلق وجه الأرض و لكنّه يجب حمله على خصوص التراب، بقرينة قوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ كما في سورة المائدة، فإنّ كلمة «من» هنا للتبعيض كما في قولك:

أخذت من الدراهم، فكأنّه قيل: فامسحوا بعض الصعيد بوجوهكم، و لا يتمشّى ذلك إلّا في التراب.

و فيه: مضافا إلى ما مرّ في اشتراط العلوق، أنّه لم لا يجوز أن يكون كلمة «من» للابتداء، ليكون الكلام في قوّة قولنا: اضرب يدك على الأرض فامسح على وجهك مسحا جائيا من تلك الضربة، كما يقول: أمرر يدك على الضريح فامسح على


1- الوسائل: ج 2، ب 13، من أبواب التيمّم، ح 1.

ص: 473

وجهك مسحا جائيا من ذلك الإمرار، مضافا إلى أنّ ما يعلق باليد خصوصا بعد النفض المستحب، يسمّى عند العرف أثرا لا ترابا فلا يصدق عليه بعض الصعيد، فلو حملنا كلمة «من» على التبعيض يلزم مسح الوجه و اليدين على الأرض بنحو التمرّغ، و هو خلاف الضرورة، و الإجماع، و النص، فلا محيص عن حملها على الابتداء.

و من هنا قد يقال: إنّ العلوق المذكور في صحيحة زرارة المتقدّمة، ليس المراد به ما يقوله القائلون باشتراط العلوق، فإنّهم يعتبرون استيعابه لتمام الكف، بل المقصود به ما يستصحبه الكف من الاجزاء الصغار العينيّة التي تسقط بالنفض، و المقصود أنّه لمّا لم يمكن عادة استصحاب هذه الأجزاء، بتمام أجزاء الكف حتى يمكن إجراؤها على جميع أجزاء الوجه، و اليدين بحدودهما المقرّرة شرعا في الوضوء، بحيث لا يشذّ عنها شي ء و لو بمقدار رأس إبرة، فلهذا أسقط التكليف بالمسح على الصعيد، و أبدل مكانه التكليف بالمسح المتأتي من ناحية التيمّم، أو المتيمّم به، فارتفع المقتضي للاستيعاب، إذ هو إيصال الصعيد إلى جميع الأجزاء و هو غير ممكن بالفرض، و المسح المتأتي من قبله يحصل بمسح البعض، و ذكر قوله يعلق ببعض الكف إنّما هو توطئة لقوله: لا يعلق ببعضها، و ليس عنوانا للموضوع، بل وصف غالبي له فلا ينافي اندراج مثل الحجر تحت عنوان الصعيد.

و مثل الاستدلال بالنبوي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «جعلت لي الأرض مسجدا و ترابها طهورا» إذ لو كان وصف الطهورية لمطلق وجه الأرض، لكان ذكر خصوص التراب، مع منافاته لمقتضى الامتنان الذي سيق لأجله الكلام لغوا، مع أنّ التفصيل بين المسجدية و الطهورية بإثبات الأولى لمطلق الأرض، و الثانية للتراب قاطع للشركة.

ص: 474

و فيه: مضافا إلى الخدشة، في السند، و إسقاط كلمة «و ترابها» في روايات الخاصة، أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو أريد من المسجد خصوص موضع السجود، و أمّا لو أريد مطلق مكان الصلاة، و من الأرض ما يراد في قولك: صارعت فلانا فألقيته على الأرض، فلا دلالة فيها، فانّ ذكر التراب حينئذ للإشارة إلى الفرق بين وصفي الطهورية، و المسجدية، باختصاص الأولى لخصوص رقبة الأرض، دون ما يخرج عنها كالعروش و المعادن و الأخشاب و غيرها، و ثبوت الثانية لما يعمّ المذكورات كلّها، و ذكر التراب في مقام التعبير عن الرقبة إمّا لشيوع ذلك في المحاورة، و إمّا للغلبة، و إذا جاءا الاحتمال بطل الاستدلال مع إمكان تأييد الاحتمال الثاني بما ورد في بعض الروايات عقيب الكلام المذكور، من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «أينما أدركتني الصلاة صلّيت».

و أردأ من الاستدلال المذكور، الاستدلال بالأخبار الدالّة على طهورية التراب، مثل قوله- عليه السّلام-: «التراب أحد الطهورين» فإنّه من قبيل التمسّك بمفهوم اللقب.

نعم صحيحة رفاعة قال- عليه السّلام-: «إذا كانت الأرض مبتلّة ليس فيها تراب و لا ماء، فانظر أجف موضع تجده فتيمّم منه، فإنّ ذلك توسيع من اللّٰه عزّ و جلّ، قال: فإن كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره، أو شي ء مغبّر، و إن كان في حال لا يجد إلّا الطين فلا بأس أن يتيمّم منه». (1) يدل على تأخّر استعمال سائر أقسام وجه الأرض عن التراب، كتأخّره عن الماء، و كتقدّمه على الغبار، و تقدّم الغبار على الطين.


1- الوسائل: ج 2، ب 9، من أبواب التيمّم، ص 972، ح 4.

ص: 475

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث أجاب عن هذه الصحيحة بأنّ الحجر داخل في أجف موضع، و أنت خبير بأنّ هذا الجواب إنّما يصحّ لو أريد من الاستدلال بها، إخراج الحجر من جنس ما يتيمّم به رأسا و لو في المرتبة الأخيرة، و أمّا لو أريد إخراجه عنه في المرتبة الأولى، فلا يرتبط به الجواب المذكور كما هو واضح.

و من هنا يعلم أنّه لا ينافي هذه الصحيحة القول بأنّ الصعيد مطلق وجه الأرض، و لا ما دلّ على إثبات الطهورية لمطلق الأرض، كقوله- عليه السّلام-: ربّ الماء هو ربّ الأرض، و قوله- عليه السّلام-: إن فاتك الماء لم يفتك الأرض (1)، و المروي عن الراوندي بسنده عن علي- عليه السّلام-: قال: «يجوز التيمّم بالجص، و النورة، و لا يجوز بالرماد لأنّه لم يخرج عن الأرض، فقيل له أ يتيمّم بالصفا البالية على وجه الأرض؟

قال: نعم» (2). فانّ ظهور ذلك كلّه في مساواة التراب و غيره في المرتبة إنّما يكون بالإطلاق، فلا ينافي ما دلّ على التقييد بالترتيب، فيحمل المطلقات على إثبات الطهورية في الجملة، و لو كان في بعض الأقسام مشروطا بالمرتبة المتأخّرة، كما هو الحال في الغبار و الطين في مقابل السلب الكلّي، كما في الرماد، و لعلّه لذا أفتى شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في حاشية نجاة العباد بتعيّن التراب الخالص مع التمكّن، و أمضاه العلّامتان الشيرازيان الميرزا محمّد حسن، و الميرزا محمّد تقي- قدّس سرّهما-، و علّق المرحوم الحاج الميرزا حسين الخليلي- قدّس سرّه- بأنّ الاحتياط لا يترك.


1- راجع الوسائل: ب 3 من أبواب التيمم.
2- مستدرك الوسائل: ب 6، من أبواب التيمم، ح 2.

ص: 476

و من هنا يعلم المدرك للقول بالتفصيل بين حالتي الاختيار و الضرورة، بتعيّن التراب في الأوّل، و الاجتزاء بمطلق وجه الأرض في الثاني الذي جعله المحقّق البهبهاني- قدّس سرّه- قول المشهور، لو لم يكن مجمعا عليه.

نعم ما في العروة الوثقى من جعل الاحتياط رعاية التراب أوّلا، ثمّ الرمل، ثمّ المدر، ثمّ الحجر لم يعلم له وجه، لعدم الدليل على الترتيب بين الثلاثة الأخيرة، بعد فقد التراب الخالص.

إلّا أن يقال: إنّ فرض عدم الماء في صحيحة رفاعة لأجل مدخليته في قوام الموضوع، و أمّا فرض عدم التراب فمحمول بقرينة قوله: إذا كانت الأرض مبتلّة على التراب الجاف، فيبقى ما يصدق عليه اسم التراب مع الرطوبة القليلة داخلا تحت قوله: «فانظر أجف موضع» فمفاد الرواية عدم اعتبار الجفاف في التراب، لا الترتيب بينه و بين غيره، و لا أقل من الاحتمال المسقط للاستدلال.

و حينئذ فنقول: أدلّة المقام بين ما علق التيمّم على الصعيد و ما علقه على التراب، و ما علقه على الأرض، و قد عرفت إجمال الأولى و عدم إمكان الجزم في لفظ الصعيد بشي ء من الطرفين، فيدور الأمر في الطائفتين الأخيرتين، بين حمل التراب على الموضوعية، و حمل إطلاق الأرض منزّلا على الغلبة، و بين العمل بهذا الإطلاق و تنزيل التراب على الغالب بحسب نوع الأمكنة، و لا يبعد ترجيح الثاني، خصوصا بملاحظة صدور المطلقات في أرض العراق و الحجاز، و الغالب في الأولى الرمل و في الثانية هو مع الحجارة و الحصى.

و لا يخفى أنّ حمل التراب على الموضوعية ليس عملا بمفهوم اللقب، بل من باب ظهور ترتّب الحكم على هذا العنوان في موضوعيته كما في نظائره، مثل قولهم

ص: 477

- عليهم السلام-: «خرء الطير لا بأس به».

ثمّ لو فرض إجمال الأدلّة، و عدم إمكان الجزم بأقوائية الظهور في شي ء من الجانبين، فلا يخفى أنّ مقتضى القاعدة هو الاحتياط، سواء مع التمكّن من التراب، أم مع تعذّره، و سواء، قلنا بإفادة التيمّم للطهارة من الحدث أم قلنا بعدمها، و سواء قلنا بسقوط الأداء عن فاقد الطهورين و تعيّن القضاء عليه، أم قلنا بوجوب الأداء في حقّه.

أمّا مع التمكّن من التراب و القول بعدم الإفادة، كما هو الظاهر من جعلهم وجدان الماء من أحد النواقض للتيمّم، فلعموم قولهم- عليهم السلام-: «لا صلاة إلّا مع طهور». علمنا بتخصيصه في صورة استعمال التراب، و لم نعلمه في غيرها، فليحكم بالبطلان بمقتضى هذا العموم.

و أمّا مع التمكّن و القول بالإفادة فلكون المقام من باب الشك في المحصل.

و أمّا مع تعذر التراب و القول بسقوط الأداء، فللعلم الإجمالي بين وجوب الأداء في الوقت، و القضاء في خارجه.

و أمّا هذه الصورة مع القول بعدم السقوط فلعموم «لا صلاة إلّا بطهور» أو كون الشك في المحصل على المبنيين المتقدّمين، فيجب الصلاة مع التيمّم بالحجر، أو الرمل، أو الحصى لا بدونه.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث جعل الأصل في جميع الصور الثلاثة المذكورة هو البراءة.

فرع: و لا يجوز التيمّم بالمعادن الخارجة عن اسم الأرض بالاستحالة

كالذهب، و الفضة، و الفيروزج، و العقيق، و النحاس، و الصفر و غير ذلك، و إن

ص: 478

أطلق عليه اسم الأرض بنحو من المسامحة حال الانطباع و عدم الانفصال، كما أنّه لا بأس بالتيمّم بالمعادن الباقية تحت اسم الأرض، كحجر الرحى، و طين الرأس، و طين الأرمني إذ ليس المانع صدق المعدنية بل عدم صدق الأرضية.

مسألة: لو شكّ في صدق اسم الأرض على شي ء

فالكلام الكلّي فيه أنّه إمّا أن يكون له حالة سابقة أرضية كالخزف و الآجر، و إمّا أن لا يكون له، كما يتكوّن من الماء بصورة الحجرية في داخل الآلة المعمولة لتسخين الماء، و كحجر المثانة المتكوّن في الجوف، و الأقوى في كلتا الصورتين المنع، أمّا في الصورة الأولى فلأنّ ما يتوهّم مدركا للجواز، إمّا استصحاب الموضوع أعني: كونه أرضا، و إمّا استصحاب الحكم و هو جواز التيمّم، أمّا الأوّل فمخدوش بعدم الشك الخارجي في البين، و كونه ممحضا في انطباق المفهوم على الخارج المعلوم بحدوده، و في مثله لا يجري الاستصحاب كما قرّر في محلّه، و أمّا الثاني فلمحكوميته للدليل الاجتهادي، و هو عموم قوله- عليه السّلام-: «لا صلاة إلّا بطهور». بناء على ما هو الظاهر من كون التيمّم طهورا تنزيليا لا حقيقيا. و أمّا الصورة الثانية فالأمر فيها أوضح.

و من جزئيات هذه الكلّية الخزف، و الآجر، و النورة، و الجص بعد إحراقهما، و رماد التراب و إن كان ربّما يتوهّم الجواز في رماد التراب أخذا بعموم التعليل في خبر السكوني، للمنع من رماد الحطب بأنّه لم يخرج من الأرض، و في الجص بعد الإحراق أخذا بصحيحة الحسن بن محبوب، «سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى، ثمّ يجصّص به المسجد أ يسجد عليه؟ فكتب بخطّه: إنّ الماء و النار قد طهّراه» (1). حيث دلّت على جواز السجود


1- الوسائل: ب 81، من أبواب النجاسات، ح 1.

ص: 479

على الجص من وجهين: أحدهما من جهة التقرير، و الآخر من جهة رفع المانع الذي توهمه السائل، لكن في الأوّل أنّ مقتضى عموم العلّة عدم الجواز في كل شي ء لم يخرج من الأرض، لا الجواز في كل شي ء خرج منها، و لذا لا يجوز السجود على الشجر و الزرع.

و في الثاني: أنّ الرواية غير منطبقة على أصول الإمامية، من عدم تنجيس الشعلة و الدخان المتصاعدين من النجس، و أيضا كيف يكون المنجّس مطهرا، و مع هذا فالاعتماد عليها في غاية الإشكال.

مسألة: يعتبر فيما يتيمّم به أن يكون مباحا

و كذا مكانه، و الهواء الّذي يقع فيه التصرف و المسح، فمع غصبية أحد هذه الأمور يبطل التيمّم، لأنّ اتّحاده مع المحرم في الوجود يمنع من التقرب به، و أمّا مع إباحتها كلّها و غصبية مكان المتيمّم، كما لو تمكّن على فرش غصبي مع كون الأرض، و الهواء مباحين، فضرب يديه على الأرض المباحة، و مسح جبهته و يديه، فالأقوى صحّة التيمّم، و لا يقاس هذا الباب بباب الصلاة، فإنّ الأكوان هناك داخلة في مهيّة الصلاة، و هنا خارجة عن مهيّة التيمّم، فاتّحادها مع الكون الغصبي مانع هناك دون هذا الباب، و كذا يعتبر كون ما يتيمّم به طاهرا.

و يدل عليه مضافا إلى ظهور عدم الخلاف المؤيد بدعوى الإجماع من غير واحد، وصف الصعيد في الآية الشريفة بالطيب.

و يؤيده ما ورد في الرضوي، و المروي عن معاني الأخبار المتقدّم ذكرهما، من تفسير الصعيد بالمكان المرتفع و الطيب بالذي ينحدر عنه السيل، حيث إنّ فيه إشارة إلى مرتبة كاملة من الطهارة، لأنّه مع خلوّه بنفسه عن القاذورات من جهة

ص: 480

الارتفاع، يكون ممرا للسيل الذي من شأنه التطهير على فرض تلويث المحل بها، و لو اشتبه التراب الطاهر بالنجس تيمّم بهما، و لا يقاس ذلك بالمائين المشتبهين، حيث ورد أنّه يهريقهما و يتيمّم، و لو لا النص لكان مقتضى القاعدة فيه أيضا تكرار الصلاة، و الوضوء بعد تطهير المحل أوّلا عند الوضوء بالماء الثاني، و يعتبر أيضا أن لا يكون ممتزجا بما يخرج عن اسم الأرض، لعدم صدق الاسم على الممتزج، هذا مع عدم الاستهلاك، و أمّا معه، فإن لم يتميّز الخليط أصلا فلا إشكال في الجواز، و أمّا مع التميز كما لو وقع عليه شعرة واحدة متميزة، فيمكن الاستشكال حينئذ من جهة الشك في حاجبيته، بناء على لزوم الاستيعاب الحقيقي في ملاصقة الكف لما تيمّم به.

و فيه أنّه بعد ما فرضتم صدق عنوان الأرض على ما تيمّم به، بسبب استهلاك الخليط عند العرف الذي هو الميزان في تشخيص مفاهيم الألفاظ، فلا محالة يتحقّق الاستيعاب الحقيقي لا المسامحي بالنسبة إليه، ألا ترى أنّه لو كان زيد جمال الدين فلا محالة يكون إكرامه إكرام جمال الدين، و قد يدفع الإشكال بأنّ الخليط بواسطة شدة اعتماد الكف عند الضرب يتدفّن في التراب، أو أنّه ينتقل من مكان إلى آخر بواسطة الحركة الحالّة عند تلك الضربة، فيحصل الاستيعاب الحقيقي في كلتا الصورتين.

و فيه: أنّ غاية الأمر حصول الشك في تحقّق الامتثال الذي هو مجرى الاشتغال.

ثمّ إنّ هنا مطلبين ذكرهما بعض الأعاظم- قدّس سرّه-: أحدهما: أنّه في صورة حصول الاستهلاك التي قلنا بعدم منعه من الاستعمال لو فرض كون الخليط

ص: 481

نجسا أو متنجسا كان مانعا، لأنّ بقاء آثار النجاسة من تنجيس الملاقي و غيره، يمنع من اتّصاف ما تيمّم به بوصف الطهارة.

و لقائل أن يقول: بعد ما فرضتم استهلاك الخليط النجس أو المتنجس، و عدم سراية النجاسة منه إلى الأجزاء الترابية، يصدق حقيقة أنّ الضرب وقع على الشي ء الطاهر، و لا ينافي ذلك أنّه لو ألقي عليه الماء القليل صار متنجسا، لكفاية هذا المقدار في مقام التنجيس، و عدم كفايته في إخراج التيمّم عن صدق كونه تيمّما على الشي ء الطاهر.

و الثاني: أنّ الاستهلاك المذكور لو حصل بفعل المكلّف و اختياره منع من الاستعمال، فعدم المنع مخصوص بصورة كونه حاصلا بأمر غير اختياري، و قاس ذلك بما إذا ثبت في ذمّة المكلّف «من» من الحنطة، إمّا من جهة الفطرة، أو بيع السلم، فدفع في مقام الوفاء حنطة خارجية نقصت عن المن بمقدار عشرة مثاقيل مثلا، فمزج فيه التراب مثلا بهذا المقدار، فإنّه غير مبرئ للذمّة قطعا بخلاف ما إذا حصل الامتزاج بأمر غير اختياري، و على هذا بنى كون المكلّف فاقد الماء لو كان الماء الموجود غير كاف للوضوء أو الغسل، و كان عنده من المياه المضافة ما لو مزجه لم يخرجه عن وصف الإطلاق، هذا و ما ذكره أيضا في غاية الإشكال، إذ كيف يكون الشخص المذكور فاقد الماء مع إمكان تحصيله إيّاه بمقدمة سهلة، و أيضا اللّازم ممّا ذكره أنّه لو رفع الشعرة عن وجه التراب المذكور، ثمّ وضعها لم يجز التيمّم بعده مع جوازه قبل الرفع، و هو ممّا لا يمكن الالتزام به.

مسألة: لو تعذّر عليه التيمّم بمطلق ما يسمّى باسم الأرض انتقل إلى التيمّم بالغبار

و يدل على هذا الحكم أخبار مستفيضة.

ص: 482

منها: صحيحة زرارة قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: أ رأيت المواقف إن لم يكن على وضوء كيف يصنع، و لا يقدر على النزول؟ قال: «يتيمّم من لبده أو سرجه أو معرفة دابته، فإنّ فيها غبارا، و يصلّي». (1)

و في صحيحتي رفاعة و ابن المغيرة: «فإن كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره أو شي ء مغبر».

و في رواية أبي بصير: «إذا كنت في حال لا تقدر إلّا على الطين فتيمّم به، فإنّ اللّٰه أولى بالعذر، إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر أن تنفضه، و تتيمّم به.» (2)

و يستفاد منها أمور: الأوّل: تأخّر مرتبة التيمّم بالغبار عن التيمّم بمطلق ما يسمى أرضا، لمقصورية دلالة الأخبار على صورة تعذّره، و عدم اندراج الغبار تحت اسم الأرض حتى يشمله ما دلّ على جواز التيمّم به.

نعم هذا بناء على المختار من عدم الترتّب بين التراب، و سائر ما يسمّى أرضا، و أمّا على القول بالترتّب فيقع الكلام في تقدّم الغبار على الحجر و نحوه، أو العكس، أو التخيير، و حيث إنّ المبنى خلاف التحقيق فلا يهمّنا التكلّم فيه.

الثاني: انّ المراد من الغبار بمناسبة الحكم و الموضوع غبار الأجزاء الأرضية، دون مثل الأشنان، و الدقيق، و نحوهما و هو واضح.

الثالث: إنّه لا فرق بين أفراد ذي الغبار من الثوب، و اللبد، و عرف الدابة، بل


1- الوسائل: ج 2، ب 9، من أبواب التيمّم، ص 972، ح 1.
2- المصدر نفسه: ص 973، ح 7.

ص: 483

و لحية الشخص و غير ذلك، فيجوز على الجميع من غير ترتب بينها لعموم التعليل المذكور في صحيحة زرارة، أعني قوله: «فإنّ فيها غبارا».

الرابع: إنّه لا فرق بحسب إطلاق التعليل المذكور بين الأكثر غبارا و أقلّه.

نعم لو كان المدرك قاعدة الميسور لكان المتعيّن تقديم الأكثر.

الخامس: إنّه يعتبر كون الغبار بارزا للحسّ، فلو كان كامنا يجب مقدمة إبرازه بالنفض ثمّ التيمّم به. و يدل عليه مضافا إلى أنّه المتبادر من الشي ء المغبّر رواية أبي بصير المتقدّمة، و احتمال كون المراد بالأمر بالنفض: تحصيل التراب خلاف الظاهر، لكونه فرضا نادرا فلا يحمل الكلام عليه، مضافا إلى أنّه يلزم حينئذ تأخّر الطين عن التراب بلا واسطة، و هو خلاف الإجماع، و النص، و لا يكفي ثوران الغبار بعد الضرب، مع كونه كامنا قبله، لخروجه عن صدق التيمّم بالغبار كما هو ظاهر الأخبار، فلو تعذر عليه إلّا على وجوه الثوران المذكور انتقل إلى المرتبة المتأخّرة، و لا وجه لما يظهر من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- من الاحتياط اللازم بالجمع بينهما، بعد الاستظهار المذكور.

مسألة: لو تعذّر عليه التيمّم بالغبار لفقد و نحوه، انتقل إلى المرتبة الثالثة و هو التيمّم بالوحل

و يدل عليه مضافا إلى ظهور قوله- عليه السّلام- في عدّة أخبار: «و إن كان في حال لا يجد إلّا الطين فلا بأس أن يتيمّم به» حيث دلّ على تقوّم الموضوع بفقد جنس ما يتيمّم به، ممّا سوى الطين الذي منه الغبار، صريح رواية أبي بصير المتقدمة و رميها بضعف السند كما عن المدارك، و من جهته استشكل في تأخّره عن الغبار في غير المحل، بعد توصيفها بالصحة في الحدائق و غيره، مع أنّ في غيرها غنى و كفاية.

ص: 484

نعم يعارض ذلك رواية زرارة عن أحدهما- عليهما السلام- قلت: رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء، و فيها طين ما يصنع؟ قال: «يتيمّم فإنّه الصعيد». قلت: فإنّه راكب و لا يمكنه النزول من خوف و ليس هو على وضوء؟ قال: «إن خاف على نفسه من سبع أو غيره، و خاف فوت الوقت فليتيمّم يضرب بيده على اللبد، أو البرذعة و يتيمم و يصلّي» (1).

حيث أوجب في مفروض السائل التيمّم بالغبار بعد تعذّر النزول. فدل على تأخّره عن الطين، و حمل هذه الفقرة على سؤال مستأنف، و لو مع التمكن من التوضّي على تقدير النزول خلاف الظاهر جدا، كما أنّ حمل الطين على المتلاصق الذي لا يلصق باليد منه شي ء عند وضعها عليه، و يطلق عليه اسم الأرض، و يكون من المرتبة الأولى، و حمل الطين في سائر الأخبار على الوحل و هو الذي يلصق باليد عند وضعها عليه، و يخرج عن اسم الأرض و هو المرتبة الثالثة في غاية البعد أيضا، و توهم أنّه لو لا ذلك، لا يمكن عادة مرور الإنسان بل مطلق الحيوان على ذلك المكان، فكيف يفرض السائل مرور الراكب و خوفه من السبع، مدفوع، بأنّه إنّما يتم على تقدير استيعاب الوحلية أعماق الأرض، دون ما إذا لم تتجاوز عن سطحها الظاهر إلّا بمقدار يسير، فالأحسن في الجواب عن الرواية أنّها معرض عنها، مضافا إلى ضعف سندها.

ثمّ إنّ كيفية التيمّم في هذه المرتبة كيفيتها في المرتبتين المتقدّمتين، و ما يظهر من بعض العبارات: من لزوم إزالة الطين اللاصق بالكف، عند المسح على الجبهة و اليدين بفرك و نحوه لا دليل عليه، بل ينافيه إطلاق الأخبار.


1- الوسائل: ج 2، ب 9، من أبواب التيمّم، ص 973، ح 5.

ص: 485

مسألة [في المسح بالثلج]

لو لم يجد من جنس الطهور من الماء، و ما يتيمّم به بمراتبه شيئا، و وجد الثلج و لم يتمكن من تحقيق أقل مسمّى الغسل به، فهل يجب عليه التيمّم به، و يكون مرتبة رابعة كما قال به بعض العلماء، أو يجب عليه المسح و الدلك به، على مواضع الوضوء و الغسل كما قال به آخر، أو لا يجب عليه لإذا و لا ذاك و يكون فاقد الطهورين كما قال به ثالث؟

الذي ينبغي أن يقال: إنّه لا إشكال في صورة إمكان تحقّق أقل مسمّى الغسل في كفايته، و اجزائه، و الاستشكال بأنّ ظواهر الأدلّة كون الوضوء و الغسل بما يكون ماء قبل الاستعمال غريب، فإنّ غاية الأمر أنّه ينويهما بعد صيرورته ماء لا قبله، و لكن لما يكون ذلك ملازما غالبا مع الحرج، فلهذا يشرع في حقّه التيمّم أيضا، و على هذا تحمل رواية محمّد بن مسلم، سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل يجنب في السفر لا يجد إلّا الثلج؟ قال: «يغتسل بالثلج أو ماء النهر». (1)

و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه- عليهما السلام-، سألته عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء، و هو يصيب ثلجا، و صعيدا، أيّهما أفضل أ يتيمّم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال: «الثلج إذا بلّ وجهه و جسده أفضل، و إن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمّم» (2) و أمّا إن لم يتمكن من تحقيق أقلّ مسمّى الغسل، فربما يقال حيث إنّ الواجب عليه حال الاختيار أمران، إمساس الماء، و إجراؤه، فمع عدم التمكّن من


1- الوسائل: ج 2، ب 10، من أبواب التيمّم، ص 974، ح 1.
2- المصدر نفسه: ص 975، ح 3.

ص: 486

الثاني يجب بمقتضى قاعدة الميسور مراعاة الأوّل، و عليه تحمل رواية معاوية بن شريح: سأل رجل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- و أنا عنده قال: يصيبنا الدمق و الثلج، و نريد أن نتوضأ و لا نجد إلّا ماء جامدا فكيف أتوضّأ؟ أدلك به جلدي؟ قال:

«نعم». (1)

و فيه مضافا إلى أنّ قضية ذلك تقدّمه على التيمّم بمراتبه لا تأخّره عنها كذلك، و الظاهر اتفاقهم على خلافه، و لهذا أفتوا بتعيّن التيمّم في حقّ من وجد الماء و لم يكن بقدر الكفاية، فإذا لم يعمل بالقاعدة هناك، فكيف يعمل بها بعد تعذّر مراتب التيمّم.

و أمّا الرواية: فمحمولة على صورة تحقّق أقلّ الغسل كما هو الغالب.

و أمّا التيمّم بالثلج: فلم يعلم مشروعيته أصلا، بل ربما يستفاد من ظواهر الكتاب و السنّة انحصار الطهور في الماء، و ما يكون من جنس الأرض.

و ربّما يتوهّم دلالة صحيحة محمّد بن مسلم: سألته عن رجل أجنب في سفر و لم يجد إلّا الثلج أو ماء جامدا، قال: «هو بمنزلة الضرورة يتيمّم، و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض الّتي توبق دينه». (2)

و فيه أنّ من المحتمل أن يكون المراد بقوله: «و لم يجد إلّا الثلج»، عدم وجدان الماء، فيكون ساكتا عمّا يتيمّم به، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.


1- الوسائل: ج 2، ب 10، من أبواب التيمّم، ص 975، ح 2.
2- المصدر نفسه: ب 9، من أبواب التيمّم، ص 973، ح 9.

ص: 487

المبحث الثالث: في كيفية التيمّم:

اشارة

و لنتكلّم قبل الشروع فيها في بيان محلّه، فنقول: الكلام فيه يستدعي رسم مسائل:

مسألة: اعلم أنّه لا إشكال في عدم صحّة الإتيان بالتيمّم لأجل الغايات الموقتة قبل حضور أوقاتها

و نقل الإجماع عليه لو لم يكن متواترا، فهو في أعلى درجة الاستفاضة كما يعلم بمراجعة الجواهر، إنّما الإشكال في ما في المعتبر، و المنتهى من أنّ ذلك من خواص التيمّم يمتاز به عن الوضوء و الغسل، و الحال أنّ الطهارات الثلاث كلّها مشتركة في انعقاد الإجماع المذكور، و كذلك في صحّة الإتيان بها قبل الأوقات، لأجل غاية أخرى غير موقتة، ثمّ حفظها إلى ما بعد الوقت و الدخول بسببها في صاحبة الوقت، و لو كانت تلك الغاية الأخرى هي الكون على الطهارة، و حتى في التيمّم لعموم دليل المنزلة.

فإن قلت: لعلّ نظرهما إلى مشروعية الوضوء و الغسل لأجل التأهّب للفرض، و عدم مشروعية ذلك في التيمّم.

قلت: إمّا أن يكون التأهّب و إعداد النفس لإتيان الفريضة في أوّل وقتها مستجمعا للشرائط بنفسه غاية مستقلّة، و إمّا أن يكون راجعا إلى الكون على الطهارة، و على أيّ حال يقوم التيمّم مقامهما، و دعوى قيام الإجماع مع ذلك على المنع فيه دونهما ممنوعة.

و من الواضح أيضا استواء الطهارات الثلاث في الجهة العقلية، أعني:

امتناع تعلّق الأمر بالمقدمة قبل تعلّق الأمر بذيها، بناء على ما هو ظاهر المشهور

ص: 488

من انتفاء الوجوب في الواجبات المشروطة قبل حصول الشرط، فكيف يمكن التقرّب بإتيان مقدماتها بقصد الأمر المقدمي، قبل حصول الشرط، و إن كان المبنى المذكور خلاف التحقيق، فإنّ التحقيق أنّ القيد كما هو ظاهر الأدلّة و إن كان راجعا إلى مفاد الهيئة، أعني: الوجوب، دون مفاد المادة، أعني: الواجب، لكن مع ذلك لا عذر للعبد لو تهاون في تحصيل المقدمة قبل حضور الوقت، مع علمه بامتناع تحصيلها بعده، مع إحرازه بأصل السلامة بقاء نفسه مع الشرائط إلى ذلك الوقت، و قد قرّر في محلّه بيان ذلك على وجه لا يلزم تخلّف المعلول عن علّته، أو اختلاف الوجود الظلي مع ذي الظل، في كيفيتي الإطلاق و الاشتراط، و على هذا فيستكشف من الإجماعات في مسألتنا أنّ لإعمال القدرة في الوقت مدخلية في مقدميّة الطهارات الثلاث لغاياتها الموقتة.

فإن قلت: فاللازم جواز قصد الوجوب التخييري بإتيانها قبل الوقت، لأجل غاية أخرى في صورة إمكان التحصيل بعد الوقت أيضا، و قصد الوجوب التعييني في صورة العدم و هو خلاف الإجماع.

قلت: الوجوب المقدّمي و إن كان متعلّقا لا محالة بهذا النحو من الوجود و غير منفك عنه، و لكن يستكشف من هذا الإجماع، أنّ إتيان العمل بداعي هذا الوجوب مناف لمقدميته.

و حينئذ فاللازم عليه بإرشاد عقله الإتيان به بغير هذا الداعي، و عدم الإتيان به بهذا الداعي لا تعيينا و لا تخييرا.

مسألة: هل يجوز لذوي الأعذار بعد دخول الوقت البدار إلى وظيفتهم و هو التيمّم مطلقا، أو يجب الانتظار

إلى آخر الوقت كذلك، أو الأوّل مع رجاء الزوال،

ص: 489

و الثاني مع عدمه و حصول اليأس؟ وجوه بل أقوال:

و استدل للأوّل: بظاهر الآية الشريفة، فإنّ إطلاقها بل عمومها المستفاد من كلمة «إذا» التي قيل إنّها من أدواته، شامل لما إذا أراد المكلّف القيام إلى الصلاة في أوّل الوقت و كان مريضا، أو فاقد الماء و احتمل الزوال لو أخّر، و خصوصا بملاحظة غلبة مواظبتهم في الصدر الأوّل الذي هو زمان صدور الخطاب، على إتيان الصلوات في أوائل الأوقات.

و بخبر داود الرقي: أكون في السفر و تحضر الصلاة و ليس معي ماء، و يقال إنّ الماء قريب منّا، فأطلب الماء و أنا في وقت يمينا و شمالا؟ قال: «لا تطلب و لكن تيمّم فإنّي أخاف عليك ..» (1)، فإنّ إطلاقه شامل لما إذا أراد الصلاة في أثناء الطريق، مع احتمال العثور على الماء حين الوصول إلى المنزل.

و مثله خبر السكوني: الآمر بالطلب غلوة سهم أو سهمين.

و بالأخبار المصرّحة بأنّ من صلّى بتيمّم في سعة الوقت، ثمّ وجد الماء بعد الفراغ في أثناء الوقت لا يجب عليه الإعادة، و لكن الإنصاف أنّها واردة في مقام إجزاء العمل بعد الفراغ عن وقوعه بشرائطه، فلو كان من شرط وقوع التيمّم في السعة اليأس عن زوال العذر، لم تكن هذه الأخبار منافية له.

و العجب من بعض الأعاظم- قدّس سرّه- حيث جعل دلالة هذه الأخبار بمنزلة النص غير قابلة للتأويل، و لم يتعرّض لهذه المناقشة الغير البعيدة، و إنّما تعرّض لمناقشة بعيدة مع جوابها، و هي احتمال كونها منزلة على من صلّى في السعة


1- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب التيمّم، ص 964، ح 1.

ص: 490

و لكن بظنّ الضيق، فأجاب بأنّه مخالف للأصل و لظاهر اسناد الفعل إلى الفاعل المختار، و الظاهر أنّ مراده بالأصل أصالة عدم الخطأ، و الغفلة، في أفعال العقلاء.

و استدلّ للثاني: بقاعدة الاحتياط. و فيه أنّه لا مجرى لها مع الأدلّة المتقدمة، و بأنّ التيمّم بدل اضطراري شرع لحال الاحتياج و الضرورة، و لا حاجة و لا ضرورة مع السعة، و أنت خبير بما فيه، إذ غاية تقريبه أنّ المسألة من جزئيات مسألة عدم جواز البدار لأولي الأعذار إلى تكاليفهم العذرية، إذا كانت المصلحة الفائتة لازمة غير ممكن الاستيفاء بعد إتيان الفعل العذري. و جوابه أنّه لا مانع من ورود الترخيص بذلك لمصلحة في نفسه، و أدلّة المقام وافية بإثباته.

و بأنّ الصلاة المقيّدة بالطهارة المائية، طبيعة كلية محدودة بالوقت الكلّي المحدود بما بين الحدين، و لا يتحقق العجز عنها إلّا بالعجز عن جميع أفرادها.

و فيه مضافا إلى أنّه مع اليأس يكون العجز المذكور محرزا من أوّل الوقت، أنّ مفاد الأدلّة المتقدمة عدم اعتبار العجز بالنسبة إلى هذه الطبيعة الكلية، بل بالنسبة إلى أشخاصها الموزّعة على أجزاء الوقت.

و بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول:

«إذا لم تجد ماء و أردت التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض». (1)

و فيه أنّ قوله- عليه السّلام-: «فإن فاتك الماء، إلخ» الذي هو بمنزلة التعليل يكون لسانه الاستحباب أو الإرشاد إلى أنّ مصلحة إدراك الطهارة المائية أهم


1- الوسائل: ج 2، ب 22، من أبواب التيمّم، ص 993، ح 1.

ص: 491

بالرعاية، من مصلحة إدراك فضيلة أوّل الوقت، فلا ظهور لها يقاوم الأدلّة المتقدمة، و مثلها عدّة روايات أخر مشتملة على التعليل المذكور، أو على كلمة «لا ينبغي لأحد أن يتيمّم إلّا في آخر الوقت»، أو على التفصيل فيمن صلّى في السعة ثمّ وجد الماء بالإعادة لو وجده في الوقت، و العدم لو وجده بعد المضي، إذ لو كان الصلاة مع السعة باطلة لما يفرق بين الوجدان في الوقت و خارجه، مضافا إلى ما في بعض تلك الأخبار من الشهادة على الاستحباب، لقوله- عليه السّلام-: «إنّي كنت فاعلا كنت أتوضّأ و أعيد» كما أنّ الإنصاف تمامية دلالة الأخبار الواردة بعدم الإعادة في موضوع من صلّى في السعة، ثمّ وجد الماء قبل انقضاء الوقت، و عدم ورود المناقشة التي ذكرناها من ورودها مورد حكم آخر، إذ الغالب عدم انفكاك موردها عن احتمال العثور على الماء في ما يأتي من أجزاء الوقت، فالحكم بعدم الإعادة مع ترك الاستفصال شاهد على المطلوب.

نعم تبقى حسنة زرارة «إذا لم يجد المسافر الماء فليمسك ما دام في الوقت، فإن خاف أن يفوته الوقت، فليتيمّم و ليصلّ في آخر الوقت». (1)

لكن تقييد المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان، بهذه الرواية مع اضطراب المتن، لورود كلمة «فليطلب»، مكان «فليمسك» في بعض نسخها في غاية الإشكال بل المنع.

فتحصّل: أنّ المكلّف العاجز في أوّل الوقت إمّا عالم ببقاء عذره إلى الآخر، أو عالم بارتفاعه في الوقت، أو شاكّ بين الأمرين، إمّا مع استواء الطرفين، أو مع رجحان أحدهما.


1- الوسائل: ج 2، ب 22، من أبواب التيمّم، ص 993، ح 2.

ص: 492

و الظاهر خروج العالم ببقاء العذر عن تحت الأدلّة الآمرة بالتأخير، لأنّ مصبّها صورة الاحتمال، كما يدل عليه قوله في بعضها: «إن فاتك الماء لم تفتك الأرض» مضافا إلى بعد لزوم التأخير تعبّدا صرفا.

و أمّا صورة الاحتمال فقد مرّ الكلام فيه.

و أمّا صورة العلم بالارتفاع، فيمكن دعوى خروجه عن مصداق العاجز، فلا يصدق في حقّ من احتبس في مكان ليس فيه ماء و يكون حبسه موقتا إلى ساعة، أنّه غير متمكّن من استعمال الماء، و لا غرو في مدخلية العلم و الجهل، في صدق عنواني القدرة و العجز في حقّ الشخص واقعا، كما نشاهد ذلك في الأمثلة العرفية.

ثمّ إنّ المراد بآخر الوقت الذي وقع الخلاف في وجوب انتظاره، و جواز البدار قبله، ليس هو الآخر الحقيقي الدقّي، بل المسامحي العرفي الذي لا ينافيه الاشتغال ببعض المستحبّات بل ببعض المقدّمات القريبة، بمعنى إبقاء الوقت بمقدار إتيان ذلك كما هو واضح، كما أنّه لو صلّى باعتقاد الضيق، أو ظنّه، أو خوفه، ثمّ بان السعة لا يجب عليه الإعادة، حتى على القول بعدم جواز البدار للأخبار المستفيضة، لو لم تكن متواترة، المصرّحة بعدم الإعادة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.